الرئيسية صالون الرأي الجيوش الخفية واستراتيجيات الاختراق والهدم من الداخل للوصول للدولة الفاشلة
صالون الرأي
الجيوش الخفية واستراتيجيات الاختراق والهدم من الداخل للوصول للدولة الفاشلة
By amrمارس 09, 2020, 18:01 م
1143
تتميز الدول المركزية القوية بأن السُلطة والقرار والسياسة العامة للدولة يحددها النظام الحاكم بما يتلاءم مع توجهاته ومرجعيته الأخلاقية ورعايته للشعب. وتكون القوة الوحيدة المُنظِمة والحاكمة هي قوة المؤسسات الحكومية، التي تضع الاستراتيجية القومية وتحدد المصالح العليا للدولة وتُشرف على المؤسسات وأفراد الشعب إشرافاً كاملاً. وهي في ذلك تستمد قوتها من قاعدة شعبية قد تكون نتاج نظام ديموقراطي أو لوجود زعامة تاريخية تتعلق بها قلوب الملايين من الشعب.
وفى المجتمعات المدنية المتطورة، يحدث تفاعل إيجابي بين أربعة محاور تُشكل أعمدة الارتكاز للدول المستقرة. وهذه المكونات هي المؤسسات الحكومية وقطاع الأعمال والمجتمع المدني والإعلام التي تُشكل معاً القوة المعنوية والمادية للدولة الحديثة المترابطة. ويعمل الجميع في تنسيق واضح وبمسئولية كبيرة تجاه الوطن والمواطن لتحقيق أهداف التنمية والتطور.
ولكن منذ ظهور آليات الاختراق عبر الجيوش الخفية في القرن العشرين، فقد تواجدت آليات أخرى غير التعاون والتنسيق والمسئولية المجتمعية. وأصبح الهدم من الداخل هو الهدف الاستراتيجي للجيوش الخفية، لتكون نقطة البداية للاختراق هي تغيير دور الأطراف المساندة للدولة المركزية، حتى تتحول توجهاتهم إلى أهداف أخرى ليست داعمة للدولة وإنما مساندة لمحاولات إسقاطها تدريجياً. وفى هذا الإطار نجد أن الطرف الأول والأقوى في المنظومة وهي المؤسسات الحكومية، قد أصبحت مستهدفة للوصول بها إلى حالة ترهل دائم ومستمر ويضربها تخبط إداري وفساد مالي وتفتقر إلى الحد الأدنى من أساليب الإدارة الحديثة ويدخل الأفراد داخل المؤسسة الواحدة في منافسة هدامة وليس تعاون بناء، وتختفى نظريات العمل الجماعى ويحل محلها العمل الفردى وتتوارى نظم التقييم الحقيقية للأعمال والأفراد ويصبح التقييم بناء على انطباعات المدير وليس حقائق الإنجاز. وتختفى محاور كاملة من العمل الحكومى مثل التخطيط والمتابعة والتطوير، لتصبح شكلاً بلا مضمون. وتحذو بعض المؤسسات حذو أفرادها لتدخل في نفس المنافسة الهدامة مع المؤسسات الأخرى للدولة في ظل تضارب وتداخل في الاختصاصات وعدم وضوح الرؤية والاتجاه العام. ويختلف أداء المؤسسات في الحقيقة عن الأداء المرسوم لها والإجراءات المحددة لعملها ويُصبح التوجه العام هو تنفيذ إجراءات إدارية بدون فاعلية أو نتائج. وتختفي سُلطة القانون في الرقابة على الأعمال الحكومية ويحل محلها الصلاحيات المُطلقة للأفراد العاملين في المؤسسة وتتشابك مصالح الفساد وتتوسع لتصل إلى كافة الأعمال والمشروعات. ويتبارى معظم رجال السلطة في التعبير عن استيائهم من فشل الجهاز الإداري وضعف أداؤه العام، بغير قدرة حقيقية منهم على مواجهة ذلك ولا التصدي لأي خروج على النظام العام. وتتعاظم عمليات الاختيار السلبي للقادة في القطاع الحكومي وهى عمليات اختيار أسوأ العناصر من بين الاختيارات جميعاً ليندفع الفاشل والفاسد إلى قمة الهرم الوظيفي ويبدأ في عمليات واسعة من الفساد والإفساد. وتتوقف المرجعيات القانونية لجميع الأعمال ويحل محلها الأراء الشخصية بدون خلفية علمية أو قانونية لتحدث حالة من الانفلات الإداري والقانوني تساهم بشكل مباشر في تدهور القدرات المؤسسية وتدفعها نحو مشكلات ضخمة تؤدى لعدم تحقيق جميع أهدافها. ولا يرى المواطن أي بوادر إصلاح حقيقي وإنما تصريحات إعلامية فقط تتناقض مع ما يراه على أرض الواقع. ويتبادر إلى الأذهان سؤال هام، من دفع هذا الجهاز الحكومي العملاق إلى هذه الحالة السيئة؟ والإجابة الوحيدة أنه قد تم اختراقه وتطبيق آليات الهدم من الداخل عليه ليصل إلى حالة انعدام الإنتاجية. وتظهر أثار الجيوش الخفية لإفساد المؤسسات من الداخل ودفعها إلى حالة من الشلل والدوران في حلقات مفرغة لا ينتج عنها أي إنجاز أو تقدم.
وفى نفس السياق وعلى مسار الاختراق والهدم من الداخل، يدخل «مجتمع المال والاعمال» شراكة السُلطة محاولاً التواجد على محور تأثير آخر غير التجارة والاستثمار، ويبدأ ذلك بالدعوة الى مساعدة الدولة في خلق فرص للعمل وتحسين جودة الإنتاج. ويتحول بالتدريج إلى قوة تنافس القوة التقليدية الحكومية وتحاول التسلل إلى دوائر الحُكم والقيادة. ولأن الاتزان الطبيعي في السُلطة يتطلب اتزانا موازياُ بين الصلاحيات والمسئوليات فإنه على الجانب النظرى والمنطقى، فإن مجتمع المال والأعمال يجب أن يتحمل جزءاً أساسياً من المسئولية الوطنية تجاه الشعب ومؤسساته لتتوافق مع صلاحياته الواسعة في الإنتاج والتوزيع، ولكن مع تطبيق آليات الهدم من الداخل فإن مجتمع المال والاعمال يصبح شريكاً كاملاً في السلطة واتخاذ القرار والصلاحيات ولا يكون أبداً شريكاً في المسئولية الوطنية التي يتحملها كلها القطاع الحكومي. وتنتهي هذه الشراكة إلى الاقتسام التام لسلطة الدولة في اتخاذ القرار ثم تبدأ هذه السُلطة الجديدة في السيطرة على السياسات والقرارات الاقتصادية بالكامل وتوجيهها نحو تحقيق مصالحها بصرف النظر عن التعارض مع المصالح العليا للدولة.
حتى أن الدولة لا تستطع أن تضع من القوانين والقرارات أو تُنشئ من المؤسسات ما يمكنها من فرض الانضباط على قوة رأس المال أو ترشيد طموحاته، فتفقد الدولة تدريجياً سيطرتها على منظومة الإنتاج والأسعار والتضخم وتتفاعل بسياسة رد الفعل. ويقتصر دور مسئولي الدولة على مناشدة المؤسسات الصناعية والتجارية الخاصة أن تُراعى أحوال المواطن الذي يُصبح خاضعاً لمنظومة اقتصادية نشأت بدون ضوابط كافية، تؤدى في النهاية إلى انفلات في أسعار السلع والخدمات على كافة المستويات مما يضع الغالبية العظمى من المواطنين تحت ضغط هائل سببه معدلات عالية من التضخم وزيادة كبيرة في الأعباء المعيشية.
وهنا يظهر بوضوح تأثير قطاع المال والأعمال على قرارات الدولة وتبدأ ازدواجية القيادة والتي تُضعف من القبضة القوية للحكومات المركزية ليصبح أقتساماً حقيقياً للسُلطة، ويتم تسجيل مظهر آخر من مظاهر التسلل للجيوش الخفية وتأثيراً آخر من خلال محور المال والأعمال.
وإذا انتقلنا إلى الشريك الآخر المؤثر في سُلطة اتخاذ القرار وهو الإعلام الذي يُمثل قاطرة التفكير والثقافة والتنوير في المجتمع، نجد أنه في إطار منظومة الهدم من الداخل، فإن الوسائل الإعلامية في تشكيلها للرأي العام، قد تتبنى كثير من سطحيات الأمور وثقافات الجهل والابتعاد عن إعلاء منظومة القيم والأخلاق الأصيلة. ليؤثر ذلك سلبياً على ثقافة المجتمع. وينتقل هذا التأثير السلبي على منظومة اتخاذ القرار بنشر موضوعات وأفكار ليست على أسس سليمة وبدون الحصول على المعلومات الكافية، مما يدفع الدولة تحت ضغط الرأي العام لتنفيذ بعد القرارات والتوجهات حتى وإن تعارضت مع مصالح الدولة. وينتزع الإعلام جزء كبير من الصلاحيات التي في حوزة القطاع الحكومي ويطالب بعزل المسؤولين وتعديل السياسات وتوجيه الاستثمارات. ويحدث ذلك على الرغم من أن هذه المنظومة الإعلامية كان يجب أن تُعبر عن الرأي العام وتؤثر فيه لتدفع المجتمع في طريق الإصلاح والتنمية وتساهم في زيادة القاعدة المعرفية للأفراد والمؤسسات.
واتصالا بذلك، ومن أجل ألا يضغط هذا الشريك على الدولة في اتجاهات خاطئة قد تقوده إليها حالة انفلات إعلامي تدفع أعداداً غفيرة من المواطنين إلى سلوك خاطئ وغوغائية موجهة تضر بمصالح الدولة ومؤسساتها وترابطها الوطني، تحاول الدولة إنشاء ضوابط إعلامية ترعى القواعد الأخلاقية للعمل الإعلامي وتحافظ على المصالح العليا للدولة وتسعى لتماسكها وترابطها وإعلاء قيمها الأخلاقية وذلك حتى ينمو ويزدهر الإعلام في مناخ من الحرية وتكافؤ الفرص وبقواعد وأسس علمية، وتحت رعاية مؤسسية يتشارك في إدارتها وتوجيهها رموز وطنية من مختلف التوجهات. وبالرغم من توافر إرادة الدولة وقدرتها على اجتذاب الكفاءات العلمية، إلا أن الدولة تفشل في إنشاء هذه الضوابط المركزية التي تتولى متابعة وتقييم جميع المواد الإعلامية وتُحدد مدى مطابقتها للقواعد المهنية والأخلاقية المتعارف عليها ليظل الإعلام شريكاً في السُلطة ولكن بلا منظومة متابعة وتقييم وتصحيح للمسار والتوجهات. ويبدأ الإعلام في دفع السياسات والتوجهات العامة للدولة لتوجهات غير محمودة العواقب.
وعلى محور آخر من محاور منظومة القيم التي تتشكل من الإعلام والتعليم والثقافة، نجد في المحور الثقافي، أن الجيوش الخفية تقوم بعمليات إنتاج ثقافي وفكري من خلال الكتب والمجلات وأحيانا الأفلام والمسلسلات التليفزيونية. تحاول من خلالها تغيير ثقافة الشعب وسلوكه العام ومنظومة القيم والأخلاق لديه لتساهم في تدمير الترابط والنسيج المجتمعي لعقود طويلة. وذلك بخلاف الكتائب الإلكترونية المتواجدة بشكل دائم على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تعمل على نشر الإشاعات وبث الفرقة وإشعال الصراعات الاجتماعية وتحريض فئات الدولة ضد بعضها البعض وأيضاً ضد النظام الحاكم. ليؤكد ذلك على ظهور تسلل أخر من كتائب الجيوش الخفية التي تسعى لإحداث تأكل لسلطات وصلاحيات القيادة والسيطرة في منظومة الحُكم.
وبعد ذلك في نفس إطار عمل استراتيجيات الهدم من الداخل، يبدأ الشريك الأخير في السُلطة في الاستعداد للظهور وهو المجتمع المدني، وهو الشريك صاحب السلطة العليا في المستقبل القريب، ويدخل هذا الشريك إلى نطاق السلطة مدعوماً بعدد هائل من المنظمات والنقابات والاتحادات والجمعيات. وذلك تحت رقابة صورية وضعيفة من المؤسسات الحكومية. وبينما يتصاعد الأمل في دوره للمساهمة الفعالة في دعم ومساندة أركان الدولة بالاستناد على قاعدة شعبية، نجد أن في مؤسساته من أعلن ارتباطه الوثيق بمؤسسات دولية تُشكل توجهاته وتموله وتضعه تحت حمايتها الدبلوماسية والقانونية. حتى تُصبح هذه التنظيمات والجماعات والأفراد، هي القوى الفاعلة والمؤثرة في تحديد استراتيجيات وسياسات وقرارات الدولة بالاعتماد على قدرتها على الحشد والتأثير الجماعي. حتى أن بعضها قد اتخذ من المنافسات الرياضية وسيلة لتكوين هذا الحشد لدفعُه نحو تنفيذ مهام تحريضية ضد الدولة ومؤسساتها في سابقة خطيرة لاستغلال هذا المجال الهام والضروري للشباب في تنفيذ آليات خبيثة لهدم الدول ومؤسساتها.
وفى أحيان كثيرة لا يُدرك شركاء سُلطة اتخاذ القرار في الدولة، أنهم يعملون على هزيمة الدولة وإسقاطها من الداخل ويضعونها في طريق استنفاذ قواها الشاملة وذلك على الرغم من أن الجميع يعلم أن أهداف الجيوش الخفية في تطبيق استراتيجيات الهدم من الداخل هي الوصول إلى حالة الدولة الفاشلة، وهى في طريقها لتنفيذ ذلك تستهدف الحالة المعنوية للشعب وقدرة مؤسساته على العمل وكذلك منظومة القيم والأخلاق ومنظومة العمل والإنتاج وآليات التعاون المثمر والبناء وتبدأ دائماً بالفكر والثقافة. وهي ليست بعملية هجوم مفاجئ وإنما مجموعة عمليات تحدث بخطوات يتم تنفيذها ببطء شديد بشرط أن تكون الأنظمة والمؤسسات ضعيفة ومتنافسة ومتناحرة على جميع المستويات، وفى حالة غياب تام لعقل الدولة الواعي لمحاولات زعزعة الاستقرار وفرض واقع جديد ينزع من الدولة كل مقوماتها التي تأسست عليها. وينتُج عن ذلك إجهاد النظام داخلياً وإضعاف الإرادة القومية، حتى يعاني المجتمع من فقدان للهوية تؤدى إلى تدمير أركان الدولة، ليخضع المجتمع بعدها إلى ثقافات بديلة تأتى على أنقاض حضارة لم تستطع الحفاظ على نفسها من المؤامرات وأدوات الصراع الحديثة.
ومع كل هذا فإنه يمكن للقوى الشاملة للدولة أن تعود مرة أخرى لأدوارها الداعمه للاستقرار، وذلك من خلال إدراك شركاء اتخاذ القرار أن عليهم مسئولية التعاون والتكامل لتعزيز التجانس المجتمعي، وأن يكون بينهم التنسيق الذي يراعى المصالح العليا للدولة ووحدة وسلامة بنائها الاجتماعي والاقتصادي ويدافع عن وجودها كدولة فاعلة في محيطها الإقليمي والدولي. وكما يقول بعض خبراء علم النفس إن الوعي يُشكل الدافع، والدافع ينعكس على السلوك. فإن تنمية الوعي بخطورة التنافس يؤدى لتواجد الدافع للتعاون وتكتمل المنظومة بالسلوك السليم والعمل الجاد. لتنتقل القوى الشاملة للدولة من حالة الضعف العام والخضوع الدائم لأساليب الجيوش الخفية، إلى حالة القوة والقدرة على المواجهة والنصر.