رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

مجلة أكتوبر.. تاريخ من الوعي والمعرفة

348

من الصعب الكتابة عن مجلة أكتوبر بعيدًا عن السياق التاريخى، فقد ظهر العدد الأول منها فى ٣١ أكتوبر ١٩٧٦، حينما كانت مصر تحتفى بمرور ثلاث سنوات على انتصارها فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، عبر فيها الجيش المصرى قناة السويس وألحق بإسرائيل هزيمة هزت أركان الدولة اليهودية، وكانت مثار اهتمام العالم كله، بينما راحت الولايات المتحدة الأمريكية تلقى بكل ثقلها نحو الدخول فى مفاوضات لإنهاء هذا الصراع، وكان المرحوم الرئيس أنور السادات يميل إلى حسم هذا الصراع بالطرق السلميّة، فقد أرهقت الحروب اقتصاد مصر وتأثرت برامج التنمية، فقد كانت كل الإمكانات الاقتصادية والبشرية توجه لدعم هذا الصراع، وهو ما أرهق الاقتصاد المصرى وأثّر بشكل ملحوظ على كل مناحى الحياة المصرية، وقد راح الرئيس السادات يلقى بأحاديث كثيرة عبر كل وسائل الإعلام المصرية والأجنبية متحدثا إلى المصريين والعرب والعالم، فخورًا بما حققته القوات المسلحة المصرية فى تلك الحرب التاريخية.

بظهور العدد ٢٥٠٠ من مجلة أكتوبر، يكون قد مضى على أول صدور لها ٤٨ عامًا، واكبت المجلة أحداثا هائلة منذ نهايات عصر الرئيس السادات ومبادرة السلام التى فاجأ بها العالم وشجاعته الفائقة حينما فاجأ العالم بسفره إلى القدس وإلقاء خطبته التاريخية فى الكنيست الإسرائيلى، ومخاطبة الإسرائيليين فى عقر دارهم، بعدها أصبحت مصر والرئيس السادات محط أنظار العالم كله، لدرجة أننا لا نجد صحيفة أجنبية أو عربية خلال تلك الفترة إلا وكان السادات ومبادرته وما طرحه على العالم لحل هذا الصراع هو الموضوع الأهم، وكانت مجلة أكتوبر فى ظل كل هذه الأحداث بمثابة الإصدار الأكثر انتشارًا والمعبر عن سياسة الرجل الذى أثار إعجاب العالم، بينما أثار غضب البعض الآخر، وأنا واحد من هذا الجيل الذى صدمته هذه المبادرة، ورحت والكثيرون من زملائى وأصدقائى نواصل نقدنا لهذه الخطوة معتقدين بأن نتائجها سوف تكون خطيرة، ليس على القضية الفلسطينية فقط وإنما على مصر التى كُتب عليها أن تتصدر النضال فى سبيل تحرير الأرض العربية، بما فيها فلسطين التاريخية، وكان حلمًا بعيد المنال، أدركه الرئيس السادات منذ اللحظة التي توقفت فيها حرب أكتوبر، وإعلانه صراحة حينما خاطب شعبه قائلا فى خطبته الشهيرة فى أعقاب حرب أكتوبر فى مجلس الشعب: (لسنا على استعداد لمحاربة أمريكا).

كان المشهد السياسي مضطربًا وقد راهن الرئيس السادات على الولايات المتحدة الأمريكية معلنًا صراحة بأن ٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يدها، وراح وزير خارجيتها هنرى كيسنجر يجوب المنطقة متنقلاً ما بين مصر وإسرائيل تمهيدًا للدخول فى مفاوضات مباشرة، كانت مجلة أكتوبر حاضرة فى كل هذه المشاهد، وخصوصًا وأن فكرة المجلة واسمها وسياستها كانت كلها من بنات أفكار الرئيس السادات، لكى تكون مجلة سياسية اجتماعية تخاطب المصريين والعرب، بعد أن اتخذت معظم الدول العربية قرار مقاطعة مصر ونقل الجامعة العربية منها إلى تونس، باستثناء دولتين أو ثلاثة، وهى أمور واجهها الرئيس السادات بشجاعة كاملة، بل راح ينتقد الدول المقاطعة بعنف، وأحيانًا أخرى بشدة وقسوة، ولعلنا نتذكر الموقف النبيل الذى وقفه جلالة السلطان قابوس، حينما رفض مقاطعة مصر، وأتذكر أننى قد التقيت بجلالته فى صحبة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب فى عام ٢٠١٤، فى زيارة شيخ الأزهر إلى السلطنة، وقال جلالته عليه رحمة الله: (لقد مارس الإخوة علينا ضغطا لقطع علاقاتنا بمصر، وقلت لهم ليس من حقكم هذا الإجراء، فمصر هى التى حاربت واستشهد الآلاف من أبنائها وأنفقت كل ثرواتها على القضية الفلسطينية، لذا فمصر حينما تختار الصلح والسلام فنحن معها، وحينما تختار الحرب فنحن معها أيضا، فهى صاحبة القرار وليس أنتم كانت مجلة أكتوبر سلاحًا إعلاميًا قويًا، وقد خصها الرئيس السادات بكثير من أحاديثه وصريحاته، وكان الأستاذ أنيس منصور رئيس التحرير وقتئذ موضع ثقة الرئيس السادات، لذا كان يخصه بأخبار ومعلومات انفردت المجلة بنشرها، وراح الناس يتلقفونها لدرجة أنها كانت تنفد من الأسواق فى اليوم التالى لصدورها، علينا أن نعترف بأن أنيس منصور قد ابتكر سياسة جديدة للمجلة مستعينًا بجيل من الصحفيين كان معظمهم من الشباب، وكانوا من أوائل الخريجين وقد ابتكر قسما خاصا للإسرائيليات لمتابعة الشأن الإسرائيلى، كان من بينهم أحد الأصدقاء (رفعت فودة) خريج قسم العبرى من كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر، وقد شاهدته على التلفاز فى أحد المؤتمرات الصحفية التى جمعت
ما بين الرئيس السادات ومناحم بيجن، وراح رفعت فودة يلقى بأسئلته على بيجن الذى تعجب من إجادة هذا الشاب للغة العبرية، وقد وجه كلامه إليه قائلا: أين تعلمت اللغة العبرية، أراك تتحدث بها كأنك أحد الإسرائيليين؟
وقد ضحك الرئيس السادات وكل المشاركين فى هذا المؤتمر الصحفى.
منذ بداية إصدار المجلة وهى تستقطب جمهرة من كبار الكتاب والمفكرين فى السياسة والتاريخ والفكر والفن، كان من بينهم توفيق الحكيم ومصطفى محمود وعائشة
عبد الرحمن وإحسان عبد القدوس وحسين مؤنس
وعبد العظيم رمضان وجمال حماد وفرج فودة وغيرهم كثيرون، فضلا عن نشر كثير من مذكرات الساسة والمفكرين فى مصر وحتى إسرائيل، وكان من بين أهداف المجلة العناية بالصراع العربى الإسرائيلى، وكانت مجلة أكتوبر هى أحد القوى الناعمة التى مهدت لاتفاقية السلام، وتتبعت باقتدار كل المفاوضات التى كانت تجرى فى كامب ديفيد والعراقيل التي واجهتها، ووسط هذا الزخم الهائل من الأخبار والمعلومات والتحقيقات ظهر جيل من الشباب الذى تدرب وتعلم مهنة الصحافة فى مجلة أكتوبر، وقد اكتسب هؤلاء الشباب خبرة كبيرة وسط هذا العراك السياسى والفكرى، وخصوصا فيما يتعلق بالفكر ومعارك الوعى التى خاضتها المجلة حينما نشرت مقالات فرج فودة، ورواية الحرافيش للأديب نجيب محفوظ التى امتنعت الأهرام عن نشرها، لكن المسئولون عن المجلة كانوا فى معظمهم من المؤمنين بأهمية إسقاط المُسلَمات ومناقشة الأفكار أيان كان مصدرها.
أعتقد أن مجلة أكتوبر تعد بمثابة موسوعة كبيرة وثقت لكل الأحداث المصرية السياسية والتاريخية والفكرية، وطوال تاريخها الذى امتد إلى ثمانية وأربعين عامًا تعد مدرسة للوعى والفكر والحداثة وحرية الرأى، وخصوصا بعد أن استكتبت أساتذة تخصصوا فى التراث وتاريخ الفكر، وإذا كان الرئيس السادات هو من ابتكر فكرتها لكنها بقيت كل هذه السنوات تواصل رسالتها بهدف شيوع المعرفة وثقافة الحياة والتسلح بثوابت التاريخ، لكي تبقى مجلة مصرية عربية رائدة.
تحية تقدير وامتنان لكل من شارك فى إصدارها
أو كان من بين كتابها أو محرريها، فسيبقى تاريخ هذه المجلة بمثابة أحد القوى الناعمة التى أشاعت المعرفة والتسامح فى مجتمع كان يموج بتيارات متباينة ما بين اليسار واليمين، لكنها اختارت لنفسها سياسة مغايرة معنية بمصر وقضاياها ومصالحها، وعلينا أن نواصل رسالتها لكي تبقى مجلة أكتوبر طاقة نور فى مجتمع يتحرق شوقا نحو التقدم والوعى.