رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

الحياء العام مخدوش أم مذبوح؟

1879

ترفق المشرع وهو يُصيغ جرائم الحياء العام ولم يكن تصوره يفوق مجرد محاولات الخدش (الخدش وفقط!) ولم يخطر بباله أن الحياء كائن يمكن ذبحه ما دمنا تمكنا من خدشه، وكما يقول فقهاء القوانين: «أعطنى قانونا مهترئًا ومجتمعا أخلاقيًا أضمن لك تطبيق القانون، وأعطنى مجتمعًا متدنيًا وقانونًا منضبطًا أضمن لك عدم تطبيق القانون»، فالعبرة فى مدى ارتقاء المجتمع أخلاقيًا، حتى إن مجتمعا كمجتمعنا يبلغ من العمر الحضارى ما يقارب السبعة آلاف عام صاغ لنفسه مبادئ الأخلاق العامة حتى إنها جاءت متسقة مع النص المقدس فى أزمنته المختلفة، بل تناقلت المجتمعات الوافدة والمتعاقبة على مصر فى علاقات تجارية مع مصر كالفينيقية والآشورية والبابلية والكنعانية فى آسيا بل بلاد بونت وغيرها فى إفريقيا وجزر المتوسط والأحمر، ومحاولات الاحتلال الفارسى والبيزنطى والرومانى والإغريقى حتى الفرنسى والإنجليزي، مرورًا بنوايا الهدم من جانب آلة القتل والتدمير المغولى والتتارى، ثم دعاوى الخلافة العثمانية الباطلة وانتهاءً بالصلف والعدوان الصهيونى، وتحت مسميات مختلفة ومتباينة لعلاقات الآخرين مع مصر على مدار التاريخ القديم والمعاصر لم تستطع حضارة أن تؤثر سلبًا على منظومة القيم الأخلاقية التى اتصف بها المصريون بل كانت مصر نموذجًا فى الرُقى الأخلاقى لتلك الحضارات وأشباه الحضارات التى لم تستطع الصمود أمام تيارات الأزمنة المتتالية حتى فنت عن آخرها فلم يبق منها إلا ذكرى تُفسد نقاء الإنسانية، وخارج التاريخ المصرى والحكى الشعبى وعن حضارات أخرى تحكى الأساطير عن أن امرأة دافعت عن قومها من عدوان جيش المغير على أرضها بحيلة افتعلتها وضحت بشرفها مقابل قتل قائد جيش المغير، أما الحقائق فى تاريخنا على الجدران الباقية وكتيجان المسلات الواضحة أن المرأة المصرية تقدم زوجها ووليدها وأخوها دفاعًا عن شرفها وشرف أرضها وهذا هو الفارق بين حضارتنا وأخلاقنا وحيائنا وبين الآخر! وربما كان الحقد (طبقًا لنظرية المؤامرة التى نعيش ملامحها كاملة الآن) هو السبيل لتغير الموروث من صفات أولئك المصريين الذين يقاتلون من أجل المبادئ الإنسانية وسمو أخلاقها، فى مصر فقط يُقام للشرف عتبات مقدسة وتعلو هامات الحياء فلا يقترب منها متعد أو خادش، وربما تعالت قيمة الشرف حتى انتقلت من غيرة الرجل وحفاظه على بيته إلى التضحية فى سبيل ذلك بالنفس والدم حفاظًا على الأرض التى هى كل الشرف لهذا المصرى، وحال الحياء دون الحياة إذ دنست هذه الأرض، وأقيمت الأفراح لهؤلاء الشجعان الذين يقدمون أرواحهم دون وطء ثراهم المقدس، هكذا علم المستشرقون والحاقدون عن أهل مصر تعظيمهم للحياء وتقديسهم للشرف ومدى ارتباطهما بالعرض والأرض، لذا كانت من الأهمية تفعيل نصيحة موشيه دايان التى قالها بعد تحقيقات لجنة أجرانت الموسعة على القادة المهزومين فى معركة كيبور والمخادعين بأكذوبة الجيش الذى لا يقهر، وقد لخصها فى كتابه «مذكرات موشيه دايان» فى جملة واحدة: «إنكم لن تستطيعوا هزيمة المصريين بالمعركة العسكرية وربما من الممكن بمعارك أخرى»، ولم يمض من الزمان سوى عقدين وخرج علينا جوزيف صموئيل ناى بنظرياته عن القوى الناعمة ذاك العميد المتقاعد بالعمليات النفسية بالمخابرات الحربية بالبنتاجون ومساعد وزير الدفاع للشئون الأمنية الدولية فى حكومة بيل كلينتون وأول من نحت مصطلحى القوة الناعمة والقوة الذكية والتى من أقاويله: «إن أمريكا كانت قادرة على كسب المعركة مع العراق بقوتها الناعمة من دون تكلفة تذكر» بل ويحذر من الإفراط فى القوة العسكرية، متأثرًا بأفكار كتاب بول كينيدى «صعود وانهيار القوى العظمى»، وهنا تكمن آليات القوة الناعمة واستخداماتها لتحقيق أهداف استراتيجية ومنها فى أول القائمة «هوليوود» صانعة الدراما الموجهة وبرامج التوك شو ويليها «الميديا» من صحف عالمية ووكالات مصورة وفضائيات جميعها تعمل على هدم الثقافة الوطنية للشعوب المراد حربها بأسلحة القوة الناعمة وفرض ثقافة جديدة شيئا فشيئا لتحل محل الموروث وباستغلال وتطبيق نظريات الدعاية للتأثير على الحشود من خلال التقليد والترويج للأفكار الاستهلاكية وتلبية احتياجات الغرائز والشهوات بالدرجة التى تدعم سطوتها لتعلو على أى قيمة سواها، فانتشرت الموضة الفاضحة والمهلهلة، وتداول الشباب ألفاظًا كانت محل الغرف المغلقة أو من الخجل ترديدها فى الفضاء العام، واستهلكت تلك العادات الوافدة رصيدًا كبيرًا من الحياء العام حتى بات اعتياديا على الرجل (القليل منهم) أن يرى تعريا فاضحا لجسد المرأة فهانت قدسية المحرم، وبتكبير الصورة قد يهون العرض الأكبر أو الأرض، وبالتالى لن يُخدش الحياء فقط بل سيُذبح على أعتاب العولمة والتحضر الزائف.

ولم يكن أمام أبطالنا إلا أن يتغنوا بأناشيد المهرجانات بل يخرج على جمهوره ذاك البطل عاريًا ومتحليًا بالأساور والسلاسل لا يُغنى ولا يُطرب بل يخلق بسحر التقليد الأعمى طقسًا جماعيًا يُنحر فيه الحياء العام! وتعج الفضائيات بأحاديث أدق من الخاصة ولا تحترم مقدمة البرنامج (تجاوزا المذيعة) تقاليد وأعراف وقيم المجتمع الذى كاد يقدس المرأة، فتنهش تلك المذيعة وزميلاتها فى أعراض عامة وخاصة ولا مانع فى أدق تفاصيل العلاقات، وتمتلئ الدراما بالخادش من الألفاظ التى لا نملك حيلة إلا فى الاستسلام لسطوتها أو بالابتعاد والتجاهل، والأصعب هو النظر باندهاش – فقط – عندما يكتشف الوالد أن ابنه الطفل يتحدث بلغة المهرجانات وينادى فى البيت: «أنا الحكومة» وتزول سريعًا حكومة البيت الصغير إيذانا بزوال شمس البيت الكبير! الذى فقد حياءه، ويتحول الطفل إلى أسطورة ليست كأسطورة زويل أو مجدى يعقوب أو مو صلاح، بل إلى أسطورة يمسك بالسلاح ليس كما كان الأطفال قديما يحملون الألعاب من المسدسات والبندقيات تشبهًا بفرسان الوطن، ولكن الأمر الآن مختلف تمامًا، فالأطفال يحملون سلاحًا حقيقيًا بمسميات الشاطورة والكزلك والسنجة والخرطوش ليتشبهوا بالأسطورة الذى قتل الحياء علانية فى الشارع العام عندما يُجبر جاره وصديقه على ارتداء ملابس نسائية، كما حدث فى المنيا والإسكندرية فى واقعتين أودتا بحياة بطليهما المفعولين بهما، ناهيك عن الشتائم التى تخطت السب إلى قذف المحصنات ويتباهى الصغار بسلاسة تفوههم بالساقط والبذىء من السباب، حتى أنك لم تعد تكترث كثيرًا مع بواكير النهار عندما يُصبّح الأصدقاء (الاصطباحة) فى الميكروباصات والتكاتك على بعضهما البعض وهم يسبون أمهاتهم ولا حياء للمنادى والمنادى عليه، ولا عزاء لهذا الشرف المقتول على ناصية الشارع العام، ولم يعد ابن الحتة الشهم المجدع يخجل من خدش حياء بنت الحتة، فهو ذاته من يؤذى سمعها بألفاظه وهو أيضًا من يقترب عدوانا وتحرشًا بجسدها الذى كان عند آبائه من المقدس والمُحرم! غير مبالٍ بكونها أخت صديقه أو حليلة جاره أو ابنة الأسطى والمدرس والواعظ، تلك كانت أهداف القوة الناعمة التى وجهها الأعداء لنحورنا حتى يتحول هذا الشباب من فارس مدافع عن عرضه وأرضه إلى مسخ بلا ملامح حتى تحول ظله على الأرض إلى شيء آخر غير كونه رجلا!

هل نجرؤ الآن لغسل أيدينا من دم الحياء المسفوك، وهل نستطيع أن ندرك ما فاتنا من مسئولية تجاه هذا الشاب ليعود الحياء تاجًا والشرف حياة نتفاخر بهما على من دوننا من الحضارات ونحفظ بهما العرض والأرض!