صالون الرأينجوم وفنون
دخل الربيع يضحك فسقطت كل الأقنعة
By amrديسمبر 04, 2024, 14:54 م
711
أسعدتني هذه التجربة السينمائية الطموحة، التي تمتاز بكثير من النضج والحيوية والإتقان، مع أن هذا الفيلم، وعنوانه “دخل الربيع يضحك”، والذي عرض في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الخامسة والأربعين، هو العمل الروائي الطويل الأول لمخرجته ومؤلفته نهى عادل، ومن إنتاج المخرجة كوثر يونس، ولاشك عندي الآن، بعد أن شاهدت الفيلم، أنه من أفضل الأفلام المصرية التي شاهدتها قبل نهاية 2024، وأن مخرجته الشابة ستكون اسما مهما في عالم الإخراج والتأليف.
الفيلم، الذى استوحى عنوانه من رباعية شهيرة للراحل صلاح جاهين يقول مطلعها ” دخل الربيع يضحك لقانى حزين”، يحقق نجاحه الفنى أولا بفكرته اللامعة، فالربيع كما هو معروف هو شهر البهجة والغناء وتفتح الزهور وحفلات عبد الحليم وفريد الأطرش، والأخير صاحب أشهر أغنية عن الربيع، ولكن الربيع فى مصر أيضا هو شهر العواصف والخماسين المتربة، وشهر أبريل مثلا ، وهو عز الربيع، هو شهر الغبار والأكاذيب” كما جاء فى رواية نجيب محفوظ “ثرثرة فوق النيل”، أى أننا أمام فصل هو مزيج من الجمال والقبح، فرحة وبهجة سرعان ما تتحول إلى عواصف، ثم يروق الجو، وقد تنزل أمطار قليلة أحيانا، تغسل التراب العالق فى الهواء.
نهى أخذت أحوال طقس الربيع المتقلب، ونقلتها ببراعة وذكاء إلى عالم الطبيعة البشرية المتقلبة والمعقدة، وسردت أربع حكايات مصرية نسائية عجيبة تحدث فى شهور الربيع الأربعة : مارس وأبريل ومايو ويونيو، تبدأ كل حكاية بثرثرة عادية لا معنى لها، وسط أجواء فرحة وأغنيات، ثم فجأة تسقط الأقنعة، وينكشف المستور عن القبح الإنساني، ويبدأ الصراع والردح ، وتنطلق الشتائم، وتظهر الفضائح، ثم تهدأ الأمور، بعد أن حدثت تعرية كاملة للنفوس وللضمائر.
هكذا تقوم “تيمة” واحدة بربط القصص الأربع، رغم انفصال كل حكاية بأحداثها المستقلة، وهذه “التيمة ” هى “سقوط الأقنعة فى فصل الربيع المتقلب”، ثم تغلق نهى فيلمها بالعودة إلى الحكاية الأولى، لتمنحنا أملا فى شهر سبتمبر بأن الفرحة ما زالت ممكنة، وأن المشاعر الجميلة، يمكن أن تأخذ فرصة، فى فصل قادم، أكثر استقرارا من تقلبات الربيع.
ضربت الفكرة عدة عصافير بحجر واحد: فالحواديت نسائية مصرية بامتياز، فيها الخصوصية المحلية، ولكن فيها المعنى الإنسانى العام، عن تعقد البشر، وصعوبة السيطرة على تناقضاتهم، كما أن الفكرة فرضت شكلا صعبا تم ترجمته كتابة وتنفيذا بامتياز، بحكايات منفصلة الشخصيات، ولكنها متصلة ومتكاملة المعنى، كما فرضت حلا فنيا صعبا، تحقق أيضا بدرجة مدهشة من النضج، وهو الاعتماد على الحوار ، وعلى وحدة الزمان والمكان فى كل قصة، ولكن دون ملل، كما تحقق أيضا أمر آخر، هو ذلك المزيج الممتنع والصعب جدا، من الغناء والثرثرة والشجار والضحك والصراخ والبكاء، والمذهل بالنسبة لى أن تنجح نهي، مع فريق تقنى ممتاز، ومع ممثلين فى أدوارهم الأولى فى معظمهم، فى أن تتحكم فى “مود” كل حكاية، صعودا وهبوطا، وأن تضحكنا وتبكينا كيفما شاءت، وأن تفاجئنا أيضا بنهاية كل حكاية، مثلما يفعل كبار المخرجين، وأن نتقبل هذا التقلب الإنساني، ثم ننغمس معها داخل كل حكاية، فلا نستطيع الخروج منها، إلا بالانتقال إلى حكاية أخرى، وتبقى أخيرا كل الحكايات معنا فى الذاكرة، نتأملها، ونستغرب من أحوال الناس، وربما نخجل أيضا من تقلبات لا نراها، ولا نلاحظها فى داخلنا، وقد لا نفهمها أيضا.
ربما اختارت نهى حكايات النساء بالذات، لأنهن أكثر حساسية وتقلبا من الناحية العاطفية، ولأن من السهل اختبار تقلبات الفرحة والحزن والغضب فى قصص وطقوس معروفة تتعرض لها المرأة فى يوم زفافها مثلا، أو ربما لأن نهى كتبت عن تجارب ملهمة تعرفها.
لكن معنى الفيلم فى رأيى يتجاوز المرأة، إلى فكرة الظاهر والباطن عند البشر عموما، ولعبة الوجه والقناع، والصراعات الداخلية الصعبة التى تكمن فى داخلنا، مع الدراسة النفسية والاجتماعية البارعة للبشر، واختبار تأثير بعض العادات والتقاليد الاجتماعية على السلوكيات الغريبة، والمرأة بالذات تعانى من هذه التقاليد، وتتحدد مصائرها من خلال تلك العادات والتقاليد، وتقوم المرأة بدورها بمحاولة التكيف والتظاهر فى مواجهة تلك الضغوط، ثم سرعان ما يحدث الانفجار المتوقع، والذى تم تقديمه بدرجة مدهشة من التنوع والقوة.
لم يحدث أبدا أن كانت كل حكاية أقل من سابقتها، بل إن كل قصة تتكامل مع القصة الأخرى، وتقدم تنويعة على نفس التيمة، وصولا إلى نهاية أكثر تفاؤلا بعد هذه الجرعة المكثفة والمشاعر الصاعدة والهابطة، الرقيقة والقاسية، ففى الحكاية الأولى تتحول زيارة من جار عجوز وابنه إلى جارتهما العجوز وابنتها، من حديث لطيف ورقيق، إلى عنف لفظى مفزع، لأن ابنة الجارة ترفض أن يتقدم الجار العجوز للزواج من أمها، ويتحول الأمر إلى تعرية كاملة لخبايا النفوس، تجبر الجار العجوز وابنه على الانسحاب.
وفى القصة الثانية، يتحول عيد ميلاد سيدة ثرية متعالية، إلى فضيحة غير مقصودة، عندما تتسرع السيدة بالاعتراف بأن زوجها قد تزوج عليها سيدة سورية، وفى القصة الثالثة التى تدور فى محل كوافير شعبي، تتحول فرحة تزيين عروس، إلى إهانة مؤلمة لكل الحاضرات، وبالذات للعاملة التى تزين شعر العروس، بعد أن تعرضت للاتهام، بأنها سرقت خاتم العروس، ويتأزم الموقف أكثر عندما نعرف ، بعد خروج العاملة من المحل، أن ابنها هو الذى سرق الخاتم، ونهاية هذه القصة مفتوحة، فرغم ثورة الأم على ابنها السارق، وضربها له، إلا أنها تسير معه، دون أن نعرف هل ستعود إلى المحل لتسليم الخاتم من باب الأمانة؟ أم سيعودان إلى بيتهما بالخاتم المسروق انتقاما من إهانات ومذلة العروس؟
وفى الحكاية الرابعة، تحوّل آخر فى جلسة تصوير عروس، من الفرح والسعادة، إلى الشجار مع ضيفة جريئة، لا ترغب أم العروس فى وجودها، فتكشف الضيفة المستور عن عريس الفتاة، ثم تكشف الفتاة نفسها عن مفاجأة مدوية.
نعود فى النهاية إلى الحكاية الأولى بعد شهور، حيث يلتقى الجار العجوز مع جارته فى مطلع سبتمبر، تعرض عليه تذكرة لحفلة سيغنون فيها أغانى فريد الأطرش، فيقبل التذاكر بعد تمنّع، ويغنى مع جارته العجوز أغنية “الربيع”، فينفتح الباب لبداية جديدة، خاصة أن الجارة العجوز قد أحضرت معها قطا جميلا، لكى يتزوج من قطتها الوحيدة.
تفصيلات شديدة العذوبة، نسجت بإتقان فى مكانها، وصورت بكاميرا مختبئة متسللة، فمنحت الفيلم كله طابعا تسجيليا عفويا وتلقائيا، مع أن كل شيء تم التدريب عليه.
قالت لى كوثر يونس منتجة الفيلم، والتى شاركت بدور الضيفة غير المرغوب فيها فى الحكاية الرابعة، إن هذا المستوى من أداء الممثلين، لم يكن ممكنا بدون بروفات كثيرة، وقد توقعتُ أنهم استخدموا خمس أو ست كاميرات فى وقت واحد، لكى نرى مثل هذه الطبيعية والتلقائية والفوضى الحرة فى الانفعال فى كل المشاهد بلا استثناء، ولكن كوثر فاجأتنى بأنهم استخدموا كاميرتين فقط فى وقت واحد، ثم تم توليف المادة المصورة، وانتقالات الكاميرا المحسوبة، بمونتاج بديع قامت به سارة عبد الله، فتحقق هذا التنوع فى الجو والانفعال، وبأداء ممتاز حقا من كل الممثلين والممثلات.
وإذا جاز لى أن أشير إلى بعض التميّز، يمكننى الحديث بشكل خاص عن الرائع د. مختار يونس، والد كوثر، فى دور العجوز، الذى ذهب بحسن نية للزواج من جارته العجوز، والذى تتغير تعبيراته من الفرح إلى الحزن والشعور بالمهانة والخذلان، وكذلك أداء الممثلة التى لعبت دور السيدة الثرية فى عيد ميلادها، وصفاقتها وتعاليها على غريمتها، ثم اعترافها، وشعورها بالصدمة والضعف والهوان، بعد أن تسرعت وفضحت نفسها دون داع، ولا أنسى أيضا تميز كوثر يونس فى دور الضيفة غير المرغوب فيها، ونجاحها فى التنقل بين اللمسة الكوميدية والمواجهة الجادة والعنيفة.
أن تنجح مخرجة وكاتبة فى فيلمها الطويل الأول فى تقديم أربع قصص متكاملة بهذه الدرجة من البراعة، لهو أمر يدعو إلى السعادة والبهجة، ننتظر منك الكثير يا نهى، وشكرا لكل فريق هذا الفيلم البديع، الذى أكد لنا ما كنا نقوله بأن السينما المصرية بخير، طالما فيها كل هذه المواهب الحقيقية، فى فروع الفيلم المختلفة.
هذه التجربة الناجحة ترجمت حرفيا أيضا ما كنا نكرره بأن الأفلام ليست بالميزانيات الضخمة، ولكن بالرؤية ونضج المعالجة، وبتوظيف العناصر الفنية والممكنة بأفضل طريقة.
وقد حقق فيلم “دخل الربيع يضحك” كل ذلك بامتياز، مقدما نماذج مركّبة من القسوة والرقة والجمال والقبح فى مزيج متفرد، إنسانى جدا، وممتلئ ببهجة جميلة أغنيات كثيرة، وظفت فى مكانها ببراعة، ووسط طوفان من صرخات الغضب الساطع، ودموع المهانة والخذلان.