https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-5059544888338696

رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

تونس..حكاية استرداد وطن مختطَف منذ عشر سنوات

قَدَرٌ الكبار

394

في زمن تتداخل فيه الحقيقة بالدعاية، وتختلط فيه النوايا بين الدعم الصادق والاستغلال السياسي، تصبح القراءة الدقيقة للمواقف ضرورة لا ترفًا. هذا ما ينطبق تمامًا على الهجوم المنهجي والمتكرر على مصر خلال الفترة الأخيرة، على خلفية ما تقوم به تجاه الحرب على غزة، ودورها التاريخي والميداني فى نُصرة القضية الفلسطينية.

لكن المفارقة أن الهجوم جاء فى وقت كانت فيه مصر تتحرك على الأرض – دبلوماسيًا وإنسانيًا – بشهادة خصومها قبل أصدقائها. وهنا، لا بد من تفكيك هذا التناقض: لماذا تُهاجم الدولة الوحيدة التي فتحت معبرها، وقدّمت المساعدات، وقادت التهدئة؟ وهل بات الصمت عن الإساءة فضيلة الكبار التي لا يفهمها صغار السياسة؟

فى عالم السياسة، قد يكون الرد على الإهانة حقًا، لكن فى حالة الدول الكبرى، يصبح تجاهل الإساءات أحيانًا أعظم من الرد.. مصر اختارت هذا المسار، ليس لأنها ضعيفة، بل لأنها تدرك أن تاريخها لا يحتاج إلى تبرير.

قديما قالوا “تكثر عليك السهام عندما تصيب الهدف” فمصر نجحت فى الفكاك من مخطط الفوضى، كما نجحت فى التصدي لأكبر عملية تصفية للقضية الفلسطينية (مخطط التهجير) وكشفت التفاصيل أمام العالم.

كما نجحت مصر فى إنقاذ المنطقة من مخطط إعادة التقسيم، بل إن الاضطرابات التي تضرب العديد من دول المنطقة لم تفلح حتى الآن للوصول للانهيار بسبب تحركات الدولة المصرية ودعمها المتواصل للدولة الوطنية والحفاظ عليها.

(1)

فى الوقت الذي تتشابك فيه خيوط الأزمات الإقليمية والدولية، وتتعالى فيه أصوات المتربصين والمشككين، تبقى مصر رقمًا ثابتًا فى معادلة الشرق الأوسط، تحمل على عاتقها مسئولية تاريخية وأخلاقية تجاه قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، دون أن تلتفت كثيراً إلى سهام التشكيك، أو إلى حملات الإساءة التي باتت تتكرر مع كل منعطف حرج.

فمارست مصر الضغط الدبلوماسي والسياسي فى كافة المحافل الدولية لوقف العدوان والسماح بدخول المساعدات إلى القطاع وكشفت تفاصيل حرب الإبادة الجماعية أمام العالم والقوى الدولية لتضع العالم أمام مسئوليته، وما أن شهد الأمر انفراجة رغم المعوقات من جانب العدو الإسرائيلي كانت قوافل المساعدات تنطلق برا وجوا من جانب الدولة المصرية، فى إطار مسئوليتها التي لم تتخل عنها يوما تجاه الدولة الفلسطينية رغم حملات التشكيك.

تذكرت ما قاله الرئيس السادات للأستاذ أنيس منصور فى لقاء بمنزل الرئيس السادات، عندما واجهت مصر هجمة شرسة من الأشقاء خلال التحرك نحو عملية السلام، وخلال جلسة للجنة فلسطين بإحدى الدول العربية، وُجهت لمصر سهام مسمومة من البعض، وكان رد الرئيس السادات: “إذا كانوا يتحدثون عن فلسطين، فلدينا الاستعداد الكامل لنجلس معا، ويتحدث كل منا عما قدمه لفلسطين وما قدمته مصر للقضية الفلسطينية”.

خلال الأشهر الماضية، تعرضت مصر لموجة من الانتقادات، بعضها صريح وعدائي، وبعضها الآخر جاء متدثرًا بثوب “النصيحة” أو “الغيرة على فلسطين”. تصدرت هذه الحملة منصات التواصل الاجتماعي، وشاركت فيها حسابات مشبوهة وجماعات منظمة، تنوعت أهدافها بين التشويه السياسي ومحاولة زعزعة الثقة بين الدولة وشعبها، وبين بث الفتنة بين مصر وأشقائها الفلسطينيين.

البعض حاول تصوير مصر وكأنها تعرقل الحل، أو تتواطأ مع الاحتلال، أو تتعامل ببرود مع المأساة الفلسطينية.

تلك السرديات التي لا تصمد أمام حقائق الميدان، ولا تليق بتاريخ طويل من التضحيات، دفعته مصر من دماء أبنائها واقتصادها واستقرارها، فى سبيل نصرة فلسطين منذ عام 1948 وحتى اليوم.

فالصمت ليس ضعفًا.. بل حكمة الكبار؛ حين اشتدت الحملة على مصر، لم نجد ردًا عنيفًا أو تصريحات متشنجة من القيادة السياسية.. لم تنزل مصر إلى مستوى التراشق الإعلامي أو الردح الرقمي.

لم تُذكّر أحدًا بما قدمته، ولم ترفع فواتير الدعم فى وجوه من تطاولوا.. هذه ليست سلبية، بل سلوك الدول الراسخة.

 فمصر، الدولة المركزية فى محيطها، ليست مطالبة بتبرير تحركاتها لكل من يصرخ على منصة، أو يزايد من وراء شاشة.

مصر تتحرك وفق منطق الدولة، لا منطق “الهاشتاج”.

وربما هنا يكمن الفارق بين من “يصنع الأحداث”، ومن “يعلق عليها”. فالقاهرة ليست دولة هامشية تبحث عن دور، بل هي طرف فاعل، تُطلب منه الوساطة ويُعوّل عليه فى التهدئة، وهو ما ظهر جليًا فى كل الملفات من غزة إلى السودان وليبيا.

وكان الرد الفعلي من جانب مصر.. نحن من نكتب التاريخ؛ فحين تعالت أصوات البعض متهمةً مصر بالخذلان، كانت المستشفيات المصرية تستقبل جرحى غزة.

وحين اتهموها بالصمت، كانت القاهرة تسعى خلف الكواليس لضمان وقف إطلاق النار، وتأمين المساعدات، وتوفير ضمانات لعدم إعادة احتلال القطاع.

هذا هو الفارق بين من يتحدث بلغة الانفعال، ومن يعمل بلغة الدول. مصر، ببساطة، لا تُعلّق على الأحداث… بل تصنعها؛ بل إن القيادة المصرية كانت أذكى من أن تنجر إلى خطاب العداء اللفظي، وفضلت أن تُذكّر كل من هاجمها بأمر بسيط: من الذي ظلّ، منذ عقود، يدافع عن القضية الفلسطينية فى كل محفل دولي؟ من الذي احتضن الفلسطينيين سياسيًا، وساندهم دبلوماسيًا، وأمّن حدودهم إنسانيًا؟ ومن الذي، رغم الضغوطات، رفض المشاركة فى حصار غزة؟

المفارقة المؤلمة، أن جزءاً من الهجوم على مصر جاء من شخصيات أو كيانات لم تقدم لفلسطين إلا الكلام. من قنوات تبث من خارج العالم العربي، وتمارس التهييج من مناطق آمنة، بينما تتحمّل القاهرة تبعات جيوسياسية وأمنية واقتصادية حقيقية، على حدودها ومع شركائها الدوليين.

وبينما كانت بعض القوى تروج لانفعالاتها على الهواء، كانت مصر تسابق الزمن لترتيب لقاءات بين الفرقاء الفلسطينيين فى القاهرة، رغم ما بينهم من انقسامات وتعقيدات.

إن تحمل الإساءة.. شجاعة لا يعرفها الصغار؛ ففي عالم السياسة، قليلون هم من يفهمون قيمة الصبر. وأكثر من ذلك، قليلون من يتحملون النقد الظالم بصمت، وهم يعلمون أن موازين الأمور ستنقلب لاحقًا، وأن الشعوب تعرف من يخدمها، ومن يتاجر بها.

لقد اختارت مصر أن تتحمل الإساءة.. لأنها تدرك الفرق بين من “يخدم القضية”، ومن “يخدم صورته”. وهي تعلم أن ما تبنيه اليوم من جسور مع الفلسطينيين، أقوى بكثير من كل حملات التشويه العابرة.

ولأن الكبار لا يتورطون فى المعارك الصغيرة، لم ترد مصر على الإساءة بإساءة، بل قابلت الحملات بسيل من المبادرات والتحركات والدعم. وهذا هو الرد الأذكى: لا تشرح… بل افعل.

(2)

فمنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة فى

 7 أكتوبر 2023، لم تتأخر مصر عن لعب أدوارها المتعددة: الداعم الإنساني، الوسيط السياسي، والحائط الحامي للمنطقة من الانفجار الكبير.

فبالنسبة للجهود الإنسانية والإغاثية قامت بفتح معبر رفح بشكل دائم، فى وقت منعت فيه إسرائيل دخول الإغاثة من معبر كرم أبو سالم.

وقدمت مصر 80% من حجم المساعدات المقدمة للقطاع لإيمانها الكامل بمركزية قضيتها وهي الحفاظ على الدولة الفلسطينية وعدم السماح بتصفية القضية.

كما استقبلت مصر أكثر من 6,000 مصاب فلسطيني وأسرهم للعلاج فى المستشفيات المصرية، بحسب إحصاءات الهلال الأحمر.

كما قامت بإنشاء مستشفى ميداني متكامل فى مدينة الشيخ زويد بمحافظة شمال سيناء، لتقديم خدمات علاجية عاجلة للجرحى.

وأرسلت القوافل الإغاثية، محملة بالأدوية، ومواد الإعاشة، والأجهزة الطبية.

وعندما تعثرت عملية إدخال المساعدات عبر المنافذ البرية (رفح وكرم أبوسالم) قادت بالتعاون مع الأردن والإمارات عمليات إسقاط جوي للمساعدات للتخفيف من حدة الأزمة التي صنعتها قوات الاحتلال فى قطاع غزة.

أما على صعيد الجهود الدبلوماسية والسياسية فقد استضافت القاهرة جولات المفاوضات غير المباشرة بين حماس وإسرائيل، بوجود وسطاء من الولايات المتحدة وقطر والأمم المتحدة كان أحدثها قبل أسبوعين مع وفود قطرية وإسرائيلية لمناقشة إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة وخروج المرضى وعوده العالقين فى القطاع.

كما أطلقت العديد من المبادرات لوقف إطلاق النار، قوبلت فى البداية بالتعنت الإسرائيلي، ثم أصبحت لاحقًا أساسًا لأي تفاوض.

كما حرصت على التنسيق المستمر مع الأشقاء فى الأردن، قطر، السعودية، والسلطة الفلسطينية لتوحيد الجهود السياسية عربياً.

كما عمد الرئيس عبد الفتاح السيسي على توجيه رسائل واضحة فى مؤتمرات دولية بأن “الحل ليس فى إدارة الحرب، بل فى إنهائها، عبر حل عادل وشامل”.

(3)

وقد حرصت مصر فى كافة تحركاتها الدولية على الرفض القاطع لمخططات التهجير.

فكانت الدولة الوحيدة التي أعلنت رسميًا، وبصوت عالٍ، رفضها تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وحذر الرئيس السيسي فى أكثر من مناسبة من أن هذا الطرح “سينهي القضية الفلسطينية، ويحوّل سيناء إلى ساحة صراع دائم”.

مواقف القاهرة أجبرت الولايات المتحدة وإسرائيل على التراجع المرحلي عن خطط التهجير، وفرضت فكرة “العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر” كمرجعية تفاوض.

وكشفت الأحداث الأخيرة والتحريض ضد السفارات المصرية من يقف وراء تلك المحاولات الخبيثة، فما بين قوى الشر والجماعة الإرهابية ودولة الاحتلال الإسرائيلي قاسم مشترك، وهو التعاون من أجل محاولة النيل من الدولة المصرية، الأمر الذي دائما ما يبوء بالفشل لقوة الدولة المصرية بشعبها وقيادتها ومؤسساتها فى مواجهة تلك التحركات الخبيثة.

لقد حاول القيادي فى حركة “حماس”، خليل الحية، أن يقدم صورة مغلوطة فكان الرد على أرض الواقع أبلغ رد، لعل “الحية” يتوارى خلف كلماته الزائفة.

إن تاريخ دعم مصر للقضية الفلسطينية لا يحتاج إلى تبرير، فقد قدمت أكثر من 100 ألف شهيد فى الحروب العربية-الإسرائيلية.

كما احتضنت منظمة التحرير، وقدّمت الدعم الكامل، واستقبلت قادة المقاومة مرات عدة، ودعمت غزة خلال الحصار فى 2006 و2008 و2014 و2021، رغم ظروفها الاقتصادية القاسية.

فكان الفعل أبلغ من القول، فبينما تنشغل بعض الدول ببيانات الشجب، كانت مصر تنقل مئات الأطنان من الإغاثة يوميًا. وبينما تظهر حملات إلكترونية تطالب بـ”التحرك”، كانت القاهرة تُمسك بخيوط وقف إطلاق النار فعليًا.

إن وعي القيادة المصرية بأبعاد المعركة جعلها تفهم أن العدوان على غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل محاولة لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية.

إن المشهد الحقيقي من داخل غزة يكشف من أنقذ الناس، وشهادات الفلسطينيين أنفسهم تكشف الصورة.

فالناطقة باسم وزارة الصحة فى غزة ثمنت، فى أكثر من مؤتمر صحفي، الجهود المصرية لإنقاذ المصابين، ومسئولون فى “الهلال الأحمر الفلسطيني” قالوا إن “الهلال الأحمر المصري كانت الأكثر تجاوبًا وسرعة فى التنسيق”، حتى إن مسئولين فى “حماس” أقرّوا بأن مصر لعبت الدور الأساسي فى إدخال الوقود والمساعدات.

إن ما تتعرض له مصر من هجوم، هو جزء من منطق مقلوب فى الوعي العربي والإعلامي حيث تُهاجم الدولة التي فتحت المعابر، وساعدت المرضى، وقادت الوساطات.. بينما تتم الإشادة بدول تكتفي بالتصريحات أو التحريض، دون أن تقدم غطاءً سياسيًا أو دعمًا حقيقيًا.

ربما لأن الصوت العالي يستهوي الجماهير أكثر من اليد التي تداوي، وربما لأن مصر رفضت أن تتورط فى شعارات جوفاء، فبدت للبعض “باردة”، رغم أن دفء أفعالها لا يخطئه ميدان.

إن من لا يعرف قدر مصر.. فليصمت على الأقل.. مصر ليست بحاجة لمن يُصفّق لها، ولا تُجادل من يهاجمها ولا تُلقي سمعًا لمن احترف التزييف.

لكنها تعرف تمامًا أن التاريخ لا يكتبه المغردون، بل من يتحملون مسئولية الدم والسلام، والمعركة والمصالحة.

وإذا كانت القاهرة اليوم تتحمل الإساءة بصبرٍ نبيل، وتواصل دعمها دون منّة، فلأنها تدرك أن القضية الفلسطينية أكبر من المزايدات، وأكبر من الشتائم، وأكبر من الذين يتاجرون بها من أجل لايكات أو نفوذ عابر.

مصر لا تبتز، ولا تُبتز. ومتى تكلم الكبار، يتوارى الصغار.