ثمة توافقات جوهرية بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والجانب الأمريكي، على ضرورة إعادة تشكيل منطقة «الشرق الأوسط» بما يتماشى مع مصالحهما الاستراتيجية، وهو ما يتضح عند الحديث عما يسمى بـ «إسرائيل الكبرى» كنواة لهذا المشروع بتوسعة رقعة مشروع «الاستيطان» من خط فيلادلفيا حتى بحر الليطاني فى لبنان، ومناطق من شرق نهر الأردن بالمملكة، مرورًا بجنوب غرب سوريا وربما أكثر وأوسع.
من الوهلة الأولى يبدو أن مفهوم «الشرق الأوسط» مفهوم متحرك غير مستقر بالمعنى التاريخي، حتى فى أبعاده الجغرافية والسياسية فى ظل تغير الصياغات السياسية والجغرافية، وتتباين أفكاره ورؤاه الاقتصادية والثقافية، حسب المستجدات وتطورات الأحداث، ووفقًا لاختلاف مصالح الدول والقوى التي تقف وراءه وتعمل على إنجازه وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فى ظل الموقع المتميز والاستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط، وثرائه الحضاري والثقافي.
تقسيم منطقة «الشرق الأوسط»، يندرج فى إطار تغييرات جذرية تعمل على تدجين الثقافة العربية والقضاء على ذاكرتها التاريخية، وأمركة الفكر العربي، لتقبل الشراكة مع الكيان الصهيوني، وتقسيم دول المنطقة إلى دويلات مبينة على أسس قومية ومذهبية وطائفية وعرقية، عن طريق إشعال الحروب الأهلية، وإجراء تغييرات تعيد رسم المنطقة تحت مزاعم الحرية والديمقراطية.
مشاريع التقسيم الاستعمارية فى المنطقة العربية، ليست فى ذاتها محض خيال لكنها مرتكزة على خطط وضعها السياسيون والاستراتيجيون الأمريكيون، وعلى رأسهم هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأسبق ومستشار الأمن القومي الأمريكي، وفق ما عرف حينها بـ «خريطة الشرق الأوسط الكبير»، والتي تم تعديلها عدة مرات بما يتناسب مع مقتضيات السياسة المرحلية، والقائمة فى النهاية على تكريس الصراع الأمريكي الروسي، واستخدام إيران فى تغذية الفوضى فى المنطقة وتغليب حكم الميليشيات و«اللادولة على الدولة»، والتي تستند حاليًا على معطيات تمهد الواقع وفق إيديولوجيات دينية وسياسية، ومعتبرة أن هجوم السابع من أكتوبر2023، وما تلاه من حرب دائرة فى غزة ولبنان، يمثل بداية حقيقية لإنهاء حكم حركة «حماس» وتفكيك بنيتها العسكرية والسياسية، وضرب كل الداعمين لها مثل «حزب الله»، وضرب العاصمة «طهران»، وإنهاء حكم أذرعها فى المنطقة.
النظريات والاستراتيجيات التي تتبعها الإدارة الأمريكية فى إعادة رسم «خريطة الشرق الأوسط» تعمل على تطويع دول الحضارة الشرقية، ووضعهم فى طور التبعية والخضوع والهيمنة المطلقة، ابتداءً من الهيمنة العسكرية، ثم الهيمنة الفكرية والثقافية، مرورًا بمشاريع «التقسيم الجغرافي» التي وضعها برنارد لويس، لتحويل دول الشرق الأوسط إلى دويلات خاضعة وعاجزة، انتهاءً بنظرية «صراع الحضارات»، للمفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون، التي يتم إدارة كل الملفات الدولية فى إطار مضمونها ومحتواها.
قبل وفاته فى مايو 2017، قدم زبجنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي، محاور الاستراتيجيات الأمريكية فى التعامل مع الشرق الأوسط، فى مقال نشرته مجلة «The American Interest» تحت عنوان «إعادة النظام العالمي»، من أبرزها توظيف «الأصولية الإسلامية» فى تحقيق دائرة المصالح الأمريكية، تحت لافتة صحوة «الديمقراطية العالمية»، ما يعزز ويساهم فى خلق انقسامات طائفية ومذهبية فى العالم العربي والإسلامي، مع استمرار استراتيجية مكافحة الإرهاب، وإثارة الفوضى والحرب فى المنطقة.
في كتابه «العدالة فى الثورة والكنيسة»، يقول «جوزيف برودون»، أحد منظري «اللاسلطوية»، إن الفوضى ليست غياب النظام أو الغوغائية أو عدم المسئولية بل الحالة التي يصلها مجتمع ما وقد تطوّر حتى استغنائه عن أيّ نظام مفروض عليه بالقوة.
تغيير خريطة «الشرق الأوسط» لن تكون بعيدة عن دوائر الإسلام الحركي التي تمثل الأداة الأكثر فاعلية فى تمرير السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط والمنطقة العربية، انتهاءً بالدول الإفريقية الموضوعة الآن على مائدة اللعبة السياسية، ومرتكزات التنافس الاستعماري.
تناول وسائل الإعلام الغربية والمنابر الدولية لمصطلح «الشرق الأوسط الجديد» يتزايد خلال المرحلة الراهنة فى ظل التعديلات الجيوسياسية، وإشعال «الصراعات الدموية» التي تشهدها كل من غزة والجنوب اللبناني، على أيدي قوات جيش الاحتلال، فضلًا عن تقليم أظافر الحركات المسلحة فى اليمن وسوريا والعراق، الموالية لقوات «الحرس الثوري» الإيرانية، والتى تخوض نيابة عن طهران حربًا بالوكالة فى عمق المنطقة العربية والشرق الأوسط.
خريطة «الشرق الأوسط الجديد» التي رفعها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حملت أبعادًا رمزية وجيوسياسية معقدة، تعمل على تحولات دبلوماسية جديدة فى العلاقات مع دول المنطقة العربية، ولا تقتصر على توصيف جغرافي أو سياسي فحسب؛ بل تعكس حقبة جديدة من العلاقات الدولية والنظام الإقليمي.
خلت الخريطة التي تم رفعها فى العديد من المحافل الدولية من أي إشارة للدولة الفلسطينية، شاملة مناطق تربطها «اتفاقات سلام» مع إسرائيل، أو تخوض معها مفاوضات لتطبيع العلاقات، واكتست باللون الأخضر، بينما أخرى صبغت باللون الأسود، ضمت إيران وحلفاءها فى المنطقة؛ سوريا والعراق واليمن وكذلك لبنان.
معنى ذلك أن خريطة «الشرق الأوسط» الجديد التي ترغب دولة الاحتلال الإسرائيلي فى تمريرها برعاية البيت الأبيض، تستهدف فى المقام الأول إعادة صياغة الواقع الجيوسياسي للشرق الأوسط، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية والأمنية، وبما يتوافق مع رؤيتها السياسية والتاريخية للمنطقة، مع تجاهلها التام لقضية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما تلقي الخريطة ضوءًا على نمط جديد من العلاقات الإقليمية، يركز على الاتفاقيات الثنائية بين إسرائيل والدولة العربية.
تعود إيديولوجيا مشروع تقسيم «الشرق الأوسط» إلى المؤرخ البريطاني برنارد لويس»، وفق ما نشره فى مقال بمجلة الشئون الخارجية، بعنوان «إعادة هيكلية الشرق الأدنى» عام 1992، وسبقه الرئيس الإسرائيلي الأسبق، شمعون بيريز، وفق ما طرحه حول مفهوم «الشرق الأوسط الجديد» عقب مؤتمر «مدريد للسلام» عام 1991، فى كتابه الذي حمل نفس العنوان، داعيًا إلى اختراق العالم العربي، من خلال النشاط الاقتصادي بالتوازي مع الدعم الأمريكي السياسي والاقتصادي للمنطقة العربية.
ثم جاء تقديم مصطلح «الشرق الأوسط الجديد» New Middle East للعالم فى يونيو 2006 من تل أبيب، وقدمته وزيرة الخارجية الأمريكية فى ذلك الوقت، كونداليزا رايس (التي أسندت إليها وسائل الإعلام الغربية الفضل فى نحت المصطلح)، ليحل محل المصطلح الأقدم والأكثر مهابة «الشرق الأوسط الكبير» Greater Middle East.
عمليًا ما بشرت به كونداليزا رايس، تم تنفيذه فى كل من العراق واليمن وسوريا ولبنان ومناطق الحكم الذاتي الفلسطينية، حيث غاب «مفهوم الدولة» بمؤسساتها وجيشها الوطني وأمنها واقتصادها، لمصلحة ميليشيات ذات طابع مذهبي، تدين بولائها وبسلاحها إلى رأس محورها، وتغلِّب مصلحته على مصلحة البلد الذي تحمل هويته.
يعتبر مشروع «الشرق الأوسط» الجديد، محاولة لاستكمال ما بدأته القوى الاستعمارية فى بداية القرن العشرين، ولكن هذه المرة، بالتركيز ليس فقط على إعادة تقسيم جغرافي للمنطقة، بل على إعادة تشكيل الأنظمة السياسية والاقتصادية والعسكرية للدول بما يتناسب مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية، مع ضرورة الهيمنة الأحادية القطبية للنظام الدولي، فى إطار محاولة احتواء أي تعمل على تنمية مصالحها بالشرق الأوسط، مثل إيران وروسيا والصين، أو تستهدف توسيع تعاونها من خلال تجمعات دولية مثل «البريكس» وغيرها.
اكتسب الشرق الأوسط أهمية استراتيجية بالغة بوصفه ساحة للصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، إذ شهدت المنطقة تنافسًا حادًا للنفوذ، ومع انتهاء الحرب الباردة، بدأت الولايات المتحدة تظهر كقوة هيمنة فى المنطقة، لا سيما من خلال تدخلاتها فى الخليج العربي، والحرب على الإرهاب التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر 2001، وقد أفضت هذه التدخلات إلى إعادة رسم الخريطة السياسية والعسكرية للمنطقة، وأثارت جدلًا واسعًا بشأن مفاهيم السيادة، والتدخل الخارجي.
كما برز النفوذ الإيراني ليشكل عاملًا رئيسًا فى الشرق الأوسط الجديد، من خلال تعزيز تحالفاتها الإقليمية، وتوسيع دائرة نفوذها، وهو ما يشكل تحديًا للسياسات الأمريكية، فى ظل جيوسياسية معقدة أبرزها الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، الذي يظل محور كثير من التوترات الإقليمية والدولية، ونزاعات كثيرة، تتداخل فيها القضايا القومية مع الأزمات الإنسانية والتحديات الاقتصادية والسياسات الخارجية للقوى العظمى.
ربما يرى العديد من المحللين الاستراتيجيين أن عمليات إبادة فى عمق القطاع والجنوب اللبناني، وتطبيق استراتيجية «قطع الرءوس» التي ينفذها جيش الاحتلال برعاية الإدارة الأمريكية، واستهدفت قيادات الصف الأول والثاني، داخل الميليشيات الموالية للمرشد الإيراني، والتي بدأت بحركة «حماس»، و»حزب الله»، وتدمير بنيتهما التنظيمية والحركية وخروجهما من المعادلة السياسية والعسكرية، لا يمثل فى ذاته مجرد رد فعل على عملية «طوفان الأقصى»، إنما تستهدف تمرير سيناريوهات توسعية استعمارية بهدف تغيير موازين القوى والتحالفات الإقليمية فى المنطقة العربية، وتغيير موازين القوى والتحالفات الإقليمية، وإعادة رسم خريطة النفوذ والسلطة فى الشرق الأوسط، وصناعة مجموعة من الدويلات تتمتع بالحكم الذاتي أو الفيدرالي، تحت مظلة تعميق خلافاتها الداخلية عن طريق الحروب الأهلية.
رغم هذه التحولات الجيوسياسية التي تتم واقعيًا فإن مشروع «الشرق الأوسط الجديد» لا يبتعد عن محاور «الإسلام السياسي»، لكن من خلال تعزيز التيارات والمجموعات الفكرية، المعتمدة على «الفوضى العبثية» (irregular irregularity) التي تدعم بناء المرتكزات الطائفية والمذهبية والحروب الأهلية.
التفكك التنظيمي لجماعات «الإسلام السياسي»، وسقوطها على مستوى المنطقة العربية، لا يعني بحال انتهاء تغلغلها وتأثيرها فى ظل تطويع وسائلها للانتقال إلى حالة السيولة والتمدد الفكري، وبناء مسارات وخطوط فكرية افتراضية، تعمل على التأثير فى هوية الدول العربية والإسلامية من خلال مجموعات عنقودية يتم تحريكها وإدارتها بشكل غير مركزي، ما يجعل التغيير السياسي والاقتصادي والثقافي من المسائل الممكنة فى المنطقة العربية.