رئيس التحرير
.. وانتصرت إرادة السلام
By m kamalأكتوبر 14, 2025, 13:11 م
66
في شهر النصر (أكتوبر) تتوالى الانتصارات، وتتسارع الأحداث، وتتلاحق التصريحات.. حالة من التفاؤل سادت الشرق الأوسط بل والعالم، بعد أن وجدت القضية الكبرى فى المنطقة (الحرب الإسرائيلية على غزة) مسارا للحل برعاية واستضافة مصرية لجميع الأطراف والوسطاء، فمصر
هي المبتدأ والخبر، ومفتاح الحل، لأنها تتعامل بشرف، وتؤمن بالحق والعدل.
عمل متواصل، ورجال لا يعرفون سوى النجاح مهما واجهوا من تحديات، عقيدتهم ثابتة، لا تعرف غير الحفاظ على الوطن وأمنه واستقراره، والعمل على قضاياه المركزية ليل نهار، فكان النصر حليفهم، لكي تنتصر إرادة السلام.

ترحيب عالمي ودولي وإقليمي، وتأييد عربي لما تم التوصل إليه من اتفاق لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة بعد عامين من المجازر والإبادة الجماعية من قبل الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني فى القطاع.. لم يكن يوما مسار السلام مستحيلا، لكنه دائما يحتاج إلى إرادة صلبة، وقدرة على التفاوض، وصدق فى التوجهات والعمل عليها.
(1)
أكثر من عامين، كانت من أصعب مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، بلغ عدد الشهداء خلالهما 68244 شهيدا فلسطينيا، وأكثر من 178924 مصابا، وأكثر من 2 مليون نازح، و18700معتقل، خلال الفترة من 7 أكتوبر 2023 وحتى 9 أكتوبر 2025.
خلال تلك الفترة كانت مصر ومنذ اللحظة الأولى للأزمة تطالب بضرورة إحكام صوت العقل، وإيقاف الآلة العسكرية، والوصول إلى سلام عادل يضمن الاستقرار للجميع ويفرض الأمن، وضرورة إعلان حل الدولتين، محذرة من الرؤية الداعمة لفرض السلام بالقوة، لأنه لن يحقق سوى مزيد من الكراهية والعنف.
نجحت مصر على مدى عامين أن تظهر للعالم حقيقة ما يجرى داخل القطاع وأن تعيد للمشهد توازنه.
عامان من العمل المتواصل وفق ثوابت لا تتبدل لأنها مبنية على الحق والعدل.
ثوابت دبلوماسية وسياسية، تأتي من قدرة على العمل بشرف، فمصر ترفض التدخل فى شئون الغير، كما ترفض الاعتداء واحتلال أراضي الغير، لأنها تؤمن بالسلام منهجا، لكن لا بد أن يقف خلف هذا السلام قوة تحميه، سلام الشجعان المبني على العدل، فحددت منذ بداية الأزمة مسارا واضحا، إنها لن تسمح بتهجير الفلسطينيين ولن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية على حساب أراضي الغير.
منذ البداية كانت الصقور المصرية تكشف التفاصيل، وتقرأ المشهد جيدا وترى حجم المؤامرة فقطعت على قوى الشر الطريق.
وجاء حديث الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى العالم منذ بداية الأزمة أن تهجير الفلسطينيين خط أحمر، ولن تقبل مصر تصفية القضية الفلسطينية، أضيف إلى الخطوط الحمراء التي حددتها مصر حفاظا على أمنها واستقرارها والحفاظ على أمن محيطها وعمقها الاستراتيجي. فلا تهاون عند أي محاولة للمساس بالأمن القومي المصري.
(2)
جاءت كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسي المرتجلة خلال حفل تخرج طلبة كلية الشرطة فى عيدها الخمسين الأسبوع الماضي، لتؤكد أن هذا الوطن لديه رجال يعملون ليل نهار فى صمت بعيدا عن ضجيج العالم الافتراضي أو أضواء الكاميرات، وصفحات الصحف.
جاءت كلمته تؤكد التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار فى غزة، ونجاح المباحثات التي تستضيفها مدينة السلام (شرم الشيخ) وتقوم بها اللجان التي تضم الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بوساطة مصرية قطرية أمريكية تركية.
كما وجه دعوة على الهواء للرئيس الأمريكي دونالد ترامب كي يكون حاضرا لمراسم توقيع الاتفاق بين الجانبين فى مدينة شرم الشيخ، والتي تبعها مباشرة إعلان الرئيس الأمريكي أنه سيزور مصر غدا الأحد أو بعد غد الإثنين المقبل كما سيزور إسرائيل ويلقي كلمة أمام الكنيست، ومن المحتمل أن يزور قطاع غزة، لكن ذلك الأمر لم يتم تأكيده حتى طباعة تلك السطور.
ووجه الرئيس السيسي حديثه للشعب المصري قائلا: “لا تقلقوا محدش يقدر يعمل حاجة مع مصر”، إنها رسالة طمأنة وتأكيد على قوة وقدرة الدولة المصرية ومؤسساتها فى حفظ أمن وسلامة مواطنيها والحفاظ على أراضيها.
(3)
أعود إلى الوضع فى القطاع حيث كانت مصر قد حذرت عقب السابع من أكتوبر 2023 من عواقب ما يجرى من عدوان إسرائيلي على غزة خاصة أن إسرائيل استغلت ما حدث فى السابع من أكتوبر وقامت بالترويج له دوليا فحصلت على أكبر عملية دعم غربي وأمريكي على المستوى العسكري والاقتصادي والسياسي، فقامت بعمليات بربرية ضد الشعب الفلسطيني بزعم ملاحقة عناصر حماس.
فى الوقت ذاته عملت مصر على الوصول إلى هدنة لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات وهو ما نجحت فيه بوساطة مصرية قطرية، فى أواخر نوفمبر 2023 لمدة 4 أيام تم خلالها تبادل 50 رهينة إسرائيلية مقابل إطلاق إسرائيل سراح 150 سجينا فلسطينيا، وكان المستهدف أن يستمر وقف إطلاق النار والوصول إلى حل سياسي، لكن استعراض حماس للقوة خلال عمليات تسليم الرهائن الإسرائيليين، وعدم اكتراث الحركة بتحذيرات الوسطاء من تلك العمليات الاستفزازية، وهو الأمر الذي دفع إسرائيل للتوسع فى العمليات العسكرية، لتحول القطاع إلى أطلال تطمر تحتها أجساد الفلسطينيين، وسط صمت دولي مُقبض، وصورة غير صحيحة تروجها إسرائيل غربا وشرقا.
هنا قامت الدولة المصرية التي حملت على عاتقها منذ بداية الأزمة أن تتصدى لعملية وصول المساعدات للقطاع، فقدمت أكثر من 70% من حجم المساعدات، وحرصت على تخفيف حدة الأزمة بإنشاء مخيمات داخل قطاع غزة استقبلت أكثر من نصف مليون فلسطيني.
رفعت المخيمات العلم المصري عليها، كما رفعه ساكنوها، لأنه يشعرهم بالأمان وسط حالة الخوف والرعب التي سيطرت على القطاع على مدى عامين، نتيجة الغزو الإسرائيلي البربري للقطاع.
(4)
فمنذ اندلاع المواجهات الأخيرة، لم تتوقف التحركات المصرية لحظة.
انطلقت الاتصالات من مكتب السيد الرئيس، مرورًا بجهاز المخابرات العامة ووزارة الخارجية، فى تنسيقٍ مكثف مع الولايات المتحدة الأمريكية وقطر وتركيا والأمم المتحدة، لتقريب وجهات النظر بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.
وبينما كانت لغة السلاح تتحدث فى الميدان، كانت القاهرة تكتب بلغةٍ أخرى: لغة الدبلوماسية الهادئة والمواقف الثابتة.
استندت مصر فى تحركاتها إلى ثلاثة محاور رئيسية:
المحور الأول: التحرك السياسي عبر حوارات مكثفة مع واشنطن والعواصم الإقليمية لخلق أرضية تفاهم مشتركة.
المحور الثاني: التحرك الأمني من خلال اتصالات مباشرة مع قيادات الفصائل الفلسطينية، لضمان التزام الجميع ببنود الهدنة.
أما المحور الثالث: فهو التحرك الإنساني بفتح معبر رفح أمام المساعدات والإجلاء الطبي، فى وقتٍ كانت فيه الكارثة الإنسانية تتفاقم داخل القطاع.
وظلت مصر تتحرك وفق ثوابتها الراسخة، وتقدم للعالم صورة واقعية لما يحدث فى غزة من مجازر وحرب إبادة، الأمر الذي على أثره كان تصويت 150دولة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومنها بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا والبرتغال وبلجيكا.
ومع طرح الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب مبادرة سلام من 20 بندًا تتضمن تبادل الأسرى وإعادة إعمار غزة، لعبت مصر دور المترجم الواقعي لتلك المبادرة. فقد عملت على تليين المواقف المتصلبة، ووضعت آليات تنفيذ تضمن استمرار الهدنة ومنع الانهيار فى أول اختبار.
لم يكن نجاح القاهرة وليد اللحظة، بل ثمرة رصيد طويل من الثقة والاحترام المتبادل. فمصر تتعامل مع الملف الفلسطيني باعتباره قضية أمن قومي لا ورقة ضغط سياسية، وتؤمن أن استقرار غزة هو جزء من استقرار المنطقة بأكملها.
وفى النهاية، حين أُعلن عن توقيع اتفاق وقف إطلاق النار فى شرم الشيخ، كان واضحًا أن البصمة المصرية موجودة فى كل سطر من نص الاتفاق، وأن القاهرة لم تكتفِ بدور الوسيط، بل تصرفت كـ”ضامن للسلام”.
لقد أثبتت التجربة من جديد أن مصر حين تتكلم، تصمت المدافع، وأن حضورها الإقليمي لا يحتاج إلى ضجيج إعلامي، بل إلى نتائج على الأرض تحقق السلام العادل والشامل الذي تؤمن به مصر.
(5)
لم يكن اختيار شرم الشيخ لتكون مكان توقيع اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة صدفة جغرافية، بل رسالة سياسية متكاملة المعاني، تؤكد أن مصر لا تزال العاصمة الفعلية لصناعة السلام فى الشرق الأوسط.
فالمدينة التي استضافت مؤتمرات القمم العربية والعالمية، واحتضنت قمم ومنتديات دولية، تعود اليوم لتؤكد أن السلام لا يولد إلا على أرضٍ تعرف قيمته.
منذ عقود، وشرم الشيخ تحمل على كتفيها ذاكرة سياسية كثيفة. فمنها انطلقت مبادرات تهدئة كبرى، وعلى أرضها اجتمع الخصوم والحلفاء، وفى قاعاتها صيغت تفاهمات غيّرت وجه الإقليم. لذلك، فإن توقيع الاتفاق فيها ليس مجرد إجراء بروتوكولي، بل تكريسًا لدور مصر كمحور استقرار ووسيط نزيه يملك من الحنكة ما يجعله مقبولاً لدى الجميع.
رمزية المكان تضيف عمقًا إلى الحدث. فشرم الشيخ، التي وُلدت من رحم الحرب فى سيناء، أصبحت رمزًا للتحول من الصراع إلى التنمية.
اختيارها اليوم يذكّر العالم بأن السلام ليس قرارًا سياسيًا فحسب، بل ثقافةٌ مصرية متجذّرة فى الجغرافيا والتاريخ.
لقد أدارت مصر الملف باحترافية عالية، ونسّقت مع الولايات المتحدة وقطر وتركيا لضمان شمول الاتفاق واستدامته، وكان المشهد الختامي فى شرم الشيخ، لتقول ببساطة وهدوء: هنا تصنع التفاهمات، وهنا يُعاد بناء الأمل.
إن شرم الشيخ اليوم ليست فقط مدينةً للسلام، بل منصة تؤكد الدور المصري فى رسم خرائط المنطقة. ومع توقيع الاتفاق فيها، تُغلق صفحة دمٍ وتُفتح أخرى عنوانها “التهدئة والبناء”.
فى النهاية، تثبت مصر أن المكان أحيانًا يتكلم ببلاغة السياسة؛ وأن شرم الشيخ ليست مجرد مدينة على البحر الأحمر، بل نبض دبلوماسي يذكّر العالم أن السلام يبدأ من هنا… من أرض مصر.