رئيس التحرير
في حضرة أمهات الشهداء
By mkamalمارس 20, 2022, 15:11 م
948
لحظات فى حياة كل منا يجد فيها كلماته لا تسعفه.. وقاموسه اللغوي يعجز عن أن يجد بين مفرداته مفردة يمكن أن تعبر عن لحظة فى حياته أو لقاء .. كان لقائي الأسبوع الماضي مع عدد من أمهات الشهداء أحد تلك اللقاءات التي ستظل كلماته محفورة فى ذهني.
فقد شرفت باستقبال أربعة من أمهات الشهداء بمكتبي قبل بدء الندوة التي عقدتها مجلة أكتوبر وبوابة دار المعارف بمناسبة يوم الشهيد وعيد الأم لتكريمهن.
وعلى مدى 40 دقيقة تقريبًا قبل بدء الندوة دار حوار بيني وبينهن، أظن أن أحداثه وتحليل دلالاته تحتاج إلى 40 مقالًا بلا مبالغة.
بدأ الحوار من حالة الرضا والاطمئنان بما قدموه لوطنهم، ووجوههن المستبشرة التي لا تفارقها البسمة الصافية رغم تحجر الدموع فى العيون والتي يغالبونها أحيانًا فتغلبهن، فتجدهم سريعًا يكفكفن دموع بعضهن البعض ويشددُن على أيديهن.
مرورًا بتفاصيل حياة الأبطال من الشهداء الذين تتشابه فيها رواياتهم رغم اختلاف أسمائهم ومواقعهم على خط المواجهة.
ومع قصص البطولة تجد نفسك أمام نماذج حفرت أسماءها فى سجل التاريخ بمداد من نور، وصنعوا مجدًا لوطنهم فضربوا المثل والقدوة فى التضحية والفداء من أجل الوطن.
عند استقبالي لهن كانت بداخلي تساؤلات كثيرة عند لقاء صناع الأبطال من أبنائنا من القوات المسلحة والشرطة، لكي أتعرف عليهن عن قرب وأستمع إليهن ويسعدني شرف تقبيل رؤوسهن.
نعم كنت قد التقيت من قبل عددًا من أمهاتنا من أمهات الأبطال من الشهداء خلال الاحتفالات التي تنظمها القوات المسلحة ويحرص الرئيس عبدالفتاح السيسي خلالها على تكريم أسر الشهداء والاستماع إليهم.
تذكرت يوم الأربعاء الماضي وأنا معهم الجملة التي قالها الرئيس خلال الندوة التثقيفية الخامسة والثلاثين «يا ريت لو تسمعوا ما يقوله لي أسر الشهداء».
(1)
بوجه باسم منير، جاءت إلينا المهندسة عزة محمد عثمان والدة الشهيد رائد بحري مصطفى محمد الملقب (بوتشر) أحد أبطال العمليات الخاصة البحرية.
روت لنا كيف ربت أبناءها الأربعة على حب الوطن منذ الصغر وغرست فيهم القيم والأخلاق، وكانت أمنيتها التي تطلبها من الله أن تكون مثل «الخنساء».
سيدة عظيمة بكل ما تحتويه الكلمة من معنى، بل أجد تلك الكلمة الواصفة لحالها لا تكفيها.
عندما تحدثت عن مصر تمنيت لو أن كل الشعب المصري (الـ100 مليون) يسمعونها معي؛ فقد حرصت على غرس حب الوطن لدى أبنائها إيمانًا منها بأن حب الأوطان جزء من الإيمان.
ترعرع أبناؤها على حب الوطن، فالتحق ابنها الأكبر بالكلية البحرية، وكان الابن الثاني الشهيد «مصطفى» الذي حصل على الثانوية العامة بمجموع أهله للالتحاق بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية، لكن حلمه الأكبر كان الالتحاق بالكلية البحرية مثل شقيقه، وظل منتظرًا النتيجة بعد اجتيازه كافة الاختبارات المؤهِّلة، وتحقق حلمه وانضم إلى لواء الوحدات الخاصة البحرية، وأتم كافة الفرق التدريبية المتخصِّصة فى وقت قياسي، وكان يستعد للسفر إلى الخارج فكانت عملية حق الشهيد فالتحق بزملائه من الأبطال فى لواء الوحدات الخاصة لحماية مياهنا الإقليمية وحدودنا البحرية أمام سواحل سيناء.
لتروي لنا تفاصيل يوم استشهاده وكيف قتل 4 من العناصر التكفيرية وأصاب 3 آخرين فى معركة قاتل فيها باحثًا عن عهد وقسم أبر به «النصر أو الشهادة».
تذكرت وهي تروي لي تفاصيل ما حدث يوم استشهاده ما قاله لي اللواء بحري «حسن حسني» أحد أبطال إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات .. وهو يروي كيف أنه وزملاءه خالفوا القواعد العسكرية وقطعوا الاتصال بين لانش الصواريخ 504 الخاص بهم وبين القاعدة البحرية ببورسعيد لإتمام العملية والثأر لزملائهم، وإغراق أكبر القطع البحرية الإسرائيلية فى مياه المتوسط ليهتز العالم وتعيد المدارس العسكرية البحرية النظر فى عدد من النظريات، كان فى ذلك الوقت اللواء حسن حسني برتبة الملازم أول وقائد السرب هو النقيب أحمد شاكر.
تذكرت ذلك عندما قالت المهندسة عزة إن البطل اندفع لمسافة 3 كيلومترات حتى وصل إلى منطقة الاشتباك بين العناصر الإرهابية وأبطال القوات المسلحة بشمال سيناء واعتلى تبة كانت أعلى منطقة الاشتباك وبدأ الاشتراك فى المعركة ليقتل 4 من العناصر التكفيرية ويصيب 3 آخرين حتى تم اكتشاف موقعه من قبل العناصر التكفيرية، وأصيب خلال المعركة لينال ما تمناه «الشهادة فى سبيل الله والوطن».
وعندما كنت أقول لوالدة الشهيد الرائد بحري «مصطفى محمود» إن ما قدمه ابنها لمصر شرف عظيم كانت ترد، «لا يساوي شيئًا مما قدمته مصر لنا».
لتواصل قائلة: «مصر هي من علمتنا وعلمت أبناءنا، مصر منحتنا قبل أن نمنحها أبناءنا.. مصر تستحق منا الكثير، وإذا كان أبنائي على جبهة القتال واستشهد أحدهم فلدي ثلاثة آخرون أكبرهم فى القوات البحرية ولا يغلى على مصر ولدي استعداد لتقديم أبنائي الأربعة لها فداء».
ولكن كل منا فى مكانه يقاتل وعليه أن يحافظ على وطنه، لأن الوطن غال.
تلقت خبر استشهاده برباطة جأش وقوة صبر وشدت على يد زوجها قائلة له: «اصبر واحتسب إنما الصبر عند الصدمة الأولى».
واصلت قائلة: «أن ما شهدته مصر من بناء وتعمير خلال السنوات الماضية يفوق ما كان من الممكن أن يتحقق خلال 50 عامًا، عندما ذهبت إلى العاصمة الإدارية، لأزور المشروعات الجديدة وأسير فى المناطق التي تم تطويرها أتأكد أن ما قدمه أبناؤنا من أرواحهم فداءً لوطنهم جزء بسيط».
سيدة تمتلك قدرة على أن تمنحك طاقة إيجابية غير عادية.
عندما قلت لها إن تنشئة أبنائك كان لها دور كبير فى تكوين شخصيتهم، قالت: «نعم لقد حرصت أن أربيهم على القيم والأخلاقيات وحب الوطن ولكن عندما انضموا إلى صفوف القوات المسلحة أضافت لشخصيتهم الكثير – إنها بحق مصنع الرجال».
(2)
وبعد 15 دقيقة وصلت والدة الشهيد البطل مؤمن عادل عبدالمجيد النعمان، الأستاذة ميرفت سكر، قادمة من الإسماعيلية، وكنت قد سبق لي شرف لقائها عند زيارتي للعريش خلال تكريم أسر الشهداء هناك.
وما أن وصلت ومعها الوالد العزيز الأستاذ عادل عبدالمجيد نعمان؛ وبعد الترحيب بهم، والاطمئنان عليها وعلى الوالد الكريم واصلنا الحديث حول ما كان يحدث فى سيناء، خاصة وأنهم كانوا من المقيمين فى العريش حيث وُلد الشهيد وتربى، وعندما التحق بكلية الشرطة طلب أن تكون شمال سيناء هي مكان خدمته.
عقب تخرجه من كلية الشرطة ظل والده منتظرًا حتى خرج كل زملائه وعندما تأخر فى الخروج من الكلية قلق والده.. وعندما سأله عن سبب تأخره قال «كنت قد تم توزيعي للخدمة بمديرية أمن السويس، إلا أنني انتظرت لأقوم ببدل مع أحد زملائي للخدمة فى شمال سيناء».
وما أن بدأ الحديث عن الشهيد مؤمن وما كان يقوم به، سواء قبل الالتحاق بالحياة العسكرية، أو عقب التحاقه بكلية الشرطة وتخرجه وجدت والدة الشهيد بحري مصطفى محمد تقول «ألم أقل لك إنهم متشابهون فى حياتهم، فعندما تحكي عن شهيد تجد نفسك وكأنك تحكي عن صفات جمعتهم جميعًا».
كان الشهيد مؤمن مرتبطًا بوالدته ارتباطًا قويًا يروي لها تفاصيل حياته عدا أسرار عمله، خلوق يحبه كل من يتعامل معه، وتجد أثره الطيب فى كل مكان يمر به.
كانت لحظة استشهاده من أصعب اللحظات على أسرته.
وتقول والدته «رغم أن أحداث كثيرة مرت بنا فى العريش قبل 2011 وبعد 2011، فقد قام سكان القطاع باجتياح الحدود المصرية مرتين فى سبتمبر 2005 ويناير 2008، أما عقب يناير 2011 فالمشهد كان مختلفًا، فعناصر حماس فى شوارع العريش تحمل السلاح أمام الجميع.
وكان الأمر يزداد خطورة لولا استعادة الدولة لقوتها سريعًا وقيام القوات المسلحة والشرطة باستعادة الأمن لكن الحرب على الإرهاب مختلفة عن الحروب التقليدية».
تقول والدة الشهيد مؤمن: «لقد كان خيرًا حتى أننا عندما استشهد لم يكن قد أبقى من راتبه جنيهًا واحدًا، فقد كان دائم العطاء محبًا للخير حريصًا على فعله».
كان يتمنى الشهادة، وكلما استشهد أحد زملائه يتساءل لماذا تأخرت عليه، وكان أكثر ما يشغله هو تأثير الخبر على والدته ووالده، وهو الأمر الذي كان يقلقه عليهما.
(3)
ثم شرفت باستقبال السيدة أميمة عبدالحميد والدة الشهيد عقيد أركان حرب محمد سمير إدريس.
وكنت قد التقيت الشهيد محمد إدريس قبل استشهاده بأكثر من عام، وقال لي أحد القادة حينها إن «إدريس» قد رصدت التنظيمات التكفيرية لمن يقتله 2 مليون دولار.
فقد كان يسبب لهم حالة من الهلع بمجرد قيادته لمداهمة أو خروجه فى عملية من العمليات.
وجدتها مثل باقي أمهات الشهداء صابرة محتسبة تتحدث عنه قائلة إنه كان القدوة لإخوته، وكان السند لأسرته وكان خلوقًا محبًا لوطنه.
وقالت: «أشعر أن الشهيد محمد أتى من الجنة إلى الدنيا ثم عاد إليها».
لقد كتب وصيته وطلب ألا يدفن حتى تتلى وصيته على أهله وكأنه كان يعلم أن ما يتمناه سيتحقق؛ أن يفوز بالشهادة.
(4)
انضمت إلى الحوار السيدة كريمة إبراهيم والدة الشهيد رائد محمد غنيم، والتي ما أن تحدثت لتروي لنا تفاصيل مواقف لا تُنسى مع الشهيد، وبعد أن روت صفاته من حسن خلق وعلم وقوة إيمان وتشابه كبير مع زملائه ممن اصطفاهم الله ليمنحهم شرف الشهادة، قالت: «محمد لم يكن يرغب أن أعلم أنه فى سيناء وظل يكتم هذا الأمر عني، وعندما أسأله يقول: يا أمي لا تسأليني عن مكان العمل ولكن يمكن أن تطمئني وأنا يوميًا سأطمئنك على».
وأضافت السيدة كريمة: «عندما استشهد وجدت الجيران يبلغوني بالخبر، فقد كنا نستعد لزفافه.. فقرر أن يكون زفافه إلى الجنة، فى آخر مكالمة لي معه قال لي: تستحقي أن تكوني أمي، لم أدرك معنى ما قاله، وظللت أفكر فى الجملة حتى أدركتها عندما توجني بلقب أم الشهيد».