نجوم وفنون
«آل فابلمان» .. قصيدة لم تكتمل !
By amrديسمبر 12, 2022, 15:55 م
635
كانت المشكلة الواضحة فى فيلم “آل فابلمان” للمخرج ستيفن سبيلبرج، والذي عرض فى افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي فى دورته الرابعة والأربعين، أن العمل فقد سحره فى جزئه الثاني، وتحديدا عندما انتقلت الأسرة مع رب الأسرة بيرت الى عمله فى شركة كمبيوتر ضخمة.
كان الجزء الأول حافلا بالخيال، وبالمشاهد السينمائية التي تجسد حب سامي ابن الأسرة للسينما، ومهارته المشهودة منذ الصبا فى إخراج أفلام بدائية، وكأننا أمام قصيدة شعرية كتبت بالضوء والحركة فى محبة الخيال وسحر العالم الموازي، ولكنها لم تكتمل مع الأسف، حيث صرنا فجأة فى عالم جديد واقعي، يشبه الى حد كبير أجواء المسلسلات، التي تدور فى أماكن مغلقة، وفي المدارس، وفي عالم المراهقين، لتحكي قصص حبهم الساذجة.
هنا مشكلة كبيرة وضخمة، لا أعرف كيف فاتت على سبيلبرج، المشارك أيضا فى الكتابة، والذي بدا حائرا فى استلهام ذكريات عائلية وسينمائية معا، بحيث لم يندمجا بشكل متقن. لا أعني بذلك فقط أن واقع الأسرة يصارع خيال السينما، أو أن تفاصيل العائلة والمراهق تصارع سحر صنع ومشاهدة الأفلام، ولكني أعني أيضا ذلك التفاوت بين المستوى فى الجزئين، فالأسرة والسينما يندمجان فى الجزء الأول، بينما يفترقان فى الجزء الثاني، ويصطنع سبيلبرج علاقة ما تعيدنا الى السينما، بعرض فيلم التخرج لدفعة بطل الفيلم الشاب، وهو المعادل الفني لسبيلبرج نفسه.
وبينما يسيطر الصبي والمراهق سامي فابلمان على الكاميرا فى الجزء الأول، ويجعلنا نرى العالم كله، بما فيها الأسرة وأسرارها، من خلال الكاميرا، بل وتكتشف الكاميرا لحظة حب يبن أمه ميزي، وصديق والده بيني، أي أن السينما تكشف الواقع، فإن الجزء الثاني يجعل الكاميرا بليدة تسجل عالم المدرسة التقليدي، وتستطرد فى مسألة نبذ سامي، والتنمر به لأنه يهودي الديانة، بل إنه يضرب بقسوة من زميل له، وتتواصل الخفة فى علاقة حب سامي مع زميلة له، ونهبط الى واقع شاهدنا مثله كثيرا، ولا نعود الى الكاميرا، سلاح سامي الوحيد، إلا قرب النهاية، مع محاولة للتفلسف الفارغ عن فيلم التخرج، وعلاقة الواقع والسينما، ثم قبول سامي فى شركة هوليوودية للعمل كمساعد، ولقائه مع المخرج العظيم جون فورد، الذي لم يقل له سوى أن خط الأفق أعلى التكوين، وخط الأفق أسفل التكوين، هما وحدهما الجديران بالإهتمام، وكأنه يعطيه أول درس فى السينما وفي الحياة معا، فالأعلى والأدني هما الجديران بالإهتمام، أما من يقف فى المنتصف فلا يثير أدنى أهمية أو اهتمام.
فى الجزء الأول والثاني تظهر مشكلة اكتشاف علاقة حب بين أم سامي، وبين بيني صديق زوجها، ولكن الكاميرا تكون هي الوسيلة فى اكتشاف تلك العلاقة فى الجزء الأول، ويقوم بيني نفسه بإهداء كاميرا لسامي، أي تندمج الأزمة العائلية مع حب السينما، بينما نصبح فى الجزء الثاني، أمام مشكلة عائلية عادية وساذجة أيضا، فالزوجة تقتني قردا تسميه يبني، ثم تطلب الإنفصال من زوجها، وتذهب للإرتباط بصديق الزوج.
وفى حين تكشف الكاميرا الواقع فى البداية وتفضحه بل وتعيد تشكيله، عندما يصنع سامي أفلاما قصيرة مؤثرة عن الحرب، وعن عالم الكاوبوي، تفتقد الصوت والمؤثرات، ولكنه يعوض ذلك بالموسيقى وبالمونتاج بل وبعمل ثقوب على شريط الفيلم، فإن الكاميرا تصبح كائنا بليدا فى الجزء الثاني، حيث تدفن فى صندوقها، أما فيلم التخرج فيكلف به سامي المهمش أصلا فى مدرسته، والذي يريد أن يغادر المكان، إنه حتى لا يهرب من واقعه بالسينما، ثم يستمع الى درس عجيب من زميله الفتوة فى النهاية بأن الواقع يختلف عن السينما.
المشهد نفسه يقول إن زميله تأثر بما رآه فى فيلم التخرج، أي أن السينما أثرت عليه، ومن هنا وصفت المشهد بالتفلسف الفارغ، لأن كلام الزميل عكس ما شاهدناه، وإنما هو محاولة للعودة الى السينما، بعد أن ضاع الجو الساحر المدهش الذي قدمه الفيلم فى جزئه الأول.
كان التحول جذريا فى المعالجة، ما بين سينما تسيطر عبر كاميرا سامي، الى واقع يكتسح فى مرحلة المدرسة، والغريب أن الروح الشاعرية المحلقة لسامي تتراجع، فى الوقت الذي يقترب فيه الأب، مهندس الكمبيوتر النابغ، من تحقيق الحلم الأمريكي الخاص، باقتناء منزل أكثر رفاهية، وكلما صعد الأب ماديا، وكلما تحقق فى مجال عمله، تتفكك العائلة، بانفصال الزوجة، أم سامي، عن عائلتها، وارتباطها بالصديق بيني.
كانت الأسرة نفسهاعنصرا محوريا فى سحر الجزء ألأول، بل وكان بيني الصديق فى قلب هذه العائلة، ولم يشأ سبيلبرج أن يخدش هذه العلاقات المرحة الدافئة، فجعل الزوجة تؤكد لابنها سامي، أنها أحبت بيني فقط، ولكنها لم تقم معه علاقة جسدية، فكأن حلم سامي بالسينما وعالمها، بل وصنعه للأفلام القصيرة المدهشة فى وقت مبكر، يندمج مع الحلم الأمريكي بعنصريه: نبوغ الأب فى عمله، كأحد رواد صناعة الكمبيوتر، ووجود عائلة مستقرة وسعيدة مركزها الزوجة عازفة البيانو، حتى لو كانت هناك أسرار مؤلمة، وراء الصور السعيدة.
تترجم سحر الجزء الأول مشاهد كثيرة لا تنسى كتبت ونفذت بكثير من البراعة، الى درجة توهمنا فيها أن سبيلبرج يريد أن يصنع “سينما باراديزو الجديدة” الخاص به، وهو عنوان تحفة تورناتوري البديعة.
كان هناك شعاع من النور يظهر فى كثير من المشاهد، بل يمكن اعتبار مشهد مثل رقصة الأم ميزي على ضوء كشافات السيارات خلفها، تحية للخيال وللنور وللجمال معا، كما يمكن اعتبار أن رحلة سامي فى عالم السينما، قد تطورت من الخوف والفزع عندما شاهد على الشاشة انقلاب القطار فى فيلم سينمائي، الى السيطرة على هذا الخوف بصنع السينما، ونراه فعلا وهو ينفذ فى البيت مشهد سقوط القطار نفسه، أي أن السينما حررت سامي من مخاوفه، وجعلنه يسيطر على حياته، وكشفت له حقائق عائلته من خلال لقطة الأم العاشقة لصديق زوجها.
ولكنني نكتشف مع عالم المدرسة الثانوية المرتبك كتابة وتنفيذا، أن سامي يرتد خائفا ومهمشا، وتزيد مساحة الحوار فى بعض المشاهد، وتكرر الأم حديثها عن حبها لصديق زوجها، وتظهر الصنعة كبديل عن عفوية وتلقائية سابقة، بل ويبدو كما لو أن سبيلبرج يلح على مشكلة ديانة بطله اليهودية، وتتوه فكرة العالم من خلال السينما، اللهم إلا لو اعتبرنا أن فيلم “آل فابلمانز” نفسه هو شهادة سبيلبرج على نفسه، وفي هذه الحالة فهو يقدم نفسه كمبتكر ومستقل، وكشخص مرتبك معا، كرجل يرضي نفسه، و لكنه يحاول إرضاء الآخرين فى الوقت نفسه ! ولعله اعتراف لاشعوي يضيف فوضى جديدة لفيلم بدأ بداية ساحرة، وانتهى بصورة فاترة ومفاجئة.