مصر
هزيمة كيبور
By amrأكتوبر 02, 2023, 17:10 م
513
انتصرنا .. نعم
انهزمتم .. نعم
هذه هي الحقيقة التى ستبقى خالدة بين سطور التاريخ، وفي وجدان كل مصري وعربي مفتخرًا بالنصر العظيم، وستبقى محفورة، وفي ذاكرة كل إسرائيلي، مكسورا معترفًا في قرارة نفسه بالهزيمة الثقيلة.
حطمنا نحن المصريين أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وقطعنا الذراع الطولى “الطيران”، وحطمنا خط بارليف دون قنبلة ذرية كما كانوا يدعون.
خمسون عاما مرت على حرب أكتوبر، هذا النصر المجيد، وفي كل عام سبق كنا نحيي هذه الذكرى الخالدة بالحديث عن البطولات والأمجاد، التى صنعها المقاتل المصري، وإن طالت السنون مرات ومرات عن هذا العدد سيبقى معين البطولات فائضا لا ينضب، يشجينا، ويثرى أقلامنا بالكتابة بتفاصيل مذهلة عن عظمة هذا المقاتل الذي أذهل العالم أجمع في أشرف معاركه بالعصر الحديث.
اخترنا أن نحي هذا العام الذكرى الذهبية للنصر المجيد، بطريقة مختلفة عن كل عام، فقد كنا في الأعوام السابقة نتحدث ونتفاخر ببطولات وأفعال أبطالنا في الحرب المقدسة، مؤكدين على نصر من أغلى وأنبل الانتصارات في تاريخنا وتاريخ العرب أجمعين، لكن هذه المرة قررنا أن نوثق لهذا النصر من الجانب الآخر، ونؤكد حقيقة حاول العدو على مدار سنوات طويلة -وما يزال- أن ينكرها، حقيقة انتصارنا وحقيقة هزيمته.
تنقل الصفحات التالية وقائع الهزيمة المرة لجيش إسرائيل في حرب “يوم كيبور”، من الداخل الإسرائيلي.. اعترافات “جولدا مائير”، ذئب السياسة العجوز، والقادة العسكريين وقت الهزيمة والحالة النفسية التى انتابتهم وقتهما ووصلت بهم لحد محاولة الانتحار والتخطيط لاغتيال بعضهم، وكيف نقلت وتحدثت الصحف العبرية والعالمية عن الانهيار العظيم في صفوف الجيش الذي لا يقهر.
روايات مدنيين عن اليوم الأول للحرب فى إسرائيل
الغضب المصري
يخترق صمت «يوم الغفران»
طبول الحرب دقت، ووقت الحسم حان.. المصريون والسوريون يتحركون لتحرير أراضيهم فى مفاجأة لم يتوقعها الإسرائيليون. فى يوم السادس من أكتوبر لعام 1973 خاصة المدنيون منهم، فى أسوأ كوابيسهم.. هدوء شديد يسود أنحاء إسرائيل صباح يوم كيبور (الغفران)، وهو أكثر أعياد اليهود قدسية.. السماء صافية، والجو جميل يدعو للاسترخاء، لم يكن يعلم هؤلاء الذين استيقظوا مبكرا للاستمتاع بيوم الإجازة بعدما بدأوا من مساء الليلة السابقة الاحتفال، أن الأجواء سوف تتحول، والسماء سوف تمطر عليهم غضبا شديدا، تدفعه الرغبة المصرية العارمة للأخذ بثأر أبنائها، الذين أخذوا غدرا فى 5 يونيه 1967.
دقائق معدودة بعد الساعة الثانية من ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، حتى تحولت السماء إلى كتلة من نار يملؤها زئير الأسود المصرية، التى جاءت للانتقام.. يتحول الصمت إلى قوة صراخ وعويل مع انطلاق صافرات الإنذار، التى تنادي على الجميع للاحتماء والاختباء فى الملاجئ كما الفئران للنجاة بحياته من المارد المصري، الذي جاء مصمما على أن يسترد كرامته ويثأر لدماء شهدائه.. سيارات الإسعاف تجري فى الشوارع، التى كانت شبه خاوية بعد الفرار الكبير من المواطنين، فيما يحاول البعض اللحاق بالأتوبيسات والسيارات الأجرة؛ للهروب من صوت صافرات الإنذار الذي تطارده صوت الطائرات المدفعية المصرية، فيما تسمرت السيارات الملاكي فى مكانها للاختباء؛ خوفا من غضب مجهول لا يعلمون من أين سيأتي لإصابتهم، وهرول أصحابها للنزول إلى المخابئ والملاجئ.. صراخ هنا وصوت استغاثة هناك، وفى نهاية الشارع يأتي صوت تنبيه، وتحذيرات بينهما مشاهد كثيرة تترجم حالة الحرب التى أعلنت فجأة فى إسرائيل، بعد الثانية من ظهر “يوم كيبور”.. هذه المشاهد يروى بعض تفاصيلها مواطنون شاهدوها، وعاصروها، ونقلتها عنهم صحف ووسائل إعلام عالمية وقتها.
كل الرجال اختفوا
هذا “نورم فرانكل”، شاب أمريكي، استيقظ – حسبما روى لموقع JWeekly الأمريكى – مبكرا فى الكيبوتز «معسكر شبابى للزراعة والتدريب»، بمنطقة وادى جزريل، واتجه مباشرة مع أصدقائه من المتطوعين الأمريكيين إلى حمام السباحة، حيث استلقى مغلقًا عينيه وأذنه، لا تسمع سوى الهدوء، الذى لا يكسره سوى همهمات وضحكات أصدقائه وقطرات الماء المتطايرة، فيما يتساءل عقله «ما عساه أن يحدث فى يوم بهذا الجمال؟»، لتأتى الإجابة من رجة الأرض، التى فتحت عينيه ليرى الطائرات الحربية تعبر فوق رأسه مباشرة معلنة انتهاء وقت الهدوء والاسترخاء من يوم صار «مؤلما.. ومؤلما جداً».
يقول فرانكل: مع اندلاع صافرات الإنذار قفز جميع المتطوعين الأمريكان تحت موائدهم فى الكافيتيريا، قبل أن يذهب الجميع إلى المخبأ، اختفى خلال ساعات قليلة كل الرجال الإسرائيليين تحت سن الـ45 من حولنا، ورأينا صفوفا عديدة من المدرعات الإسرائيلية تسير فى اتجاه الشمال، كانت الأجواء حزينة جدا وكئيبة.
قلوبنا تدق بشدة
أما الكاتبة الإسرائيلية “روشيل سيلفتسكى”، فتحكي فى مقال لها نشر فى موقع «أورتز شيفا 7» قائلة: على بعد كيلومترات عدة للدفة فى القدس المحتلة، انشغل المدنيون صباح العيد بالوقوف مصلين داخل المعابد، لتسرى إلى الآذان همهمات دارت فى المكان، شىء غير طبيعى يحدث بالخارج، سيارات تعبر الشوارع الخاوية فى مشهد غير معتاد الحدوث فى «كيبور»، فتتأكد الشكوك بدوى صافرات الإنذار فى أنحاء المدينة.
وأدركنا، وقلوبنا تدق بشدة من الخوف، وأيدينا ترتعش ونحن نجمع بعض احتياجاتنا الأساسية فى حقائب قبل أن نركض لمخبأ المبنى، أن تلك السيارات كانت لجيش الدفاع، تتوقف لتجمع الجنود وقوات الاحتياط، والأحذية، وشالات الصلاة، وكل شىء، قل عدد الرجال بشكل واضح فى صلوات بعد الظهر، والصلاة الختامية للعيد، لكن كان هناك دموع أكثر بكثير مما هو آت، كنا قد سمعنا، ولا أتذكر من أين، أن القوات العربية حاولت استرداد الجولان وخط بارليف بغرب سيناء.
حظر التجوال
وفى المكان نفسه، القدس، كانت طالبة التمريض إيثار سالم بوليتى، فى منزل خالتها فى «بات يام»، تقضى اليوم المقدس صائمة ككل الإسرائيليين، عندما دوت صافرات الإنذار فجأة.. «سريعًا جمعت أغراضى وذهبت إلى المخبأ بالأسفل».
كانت «بوليتى»، (19 عامًا) فى ذلك الوقت، كما روت لموقعJWeekly، لا تزال تدرس التمريض فى عامها الأول بمستشفى الحداثة بالقدس «كان كل الجيران يستمعون للراديو فى المخبأ».
وينقل JWEEKLY عن «بوليتى» كانت إسرائيل كلها تعيش حالة من حظر التجول، الكل عليه أن يغلق أنواره فى المساء، ويتم تطبيق ذلك بشكل حازم وإجبارى، لكن «بوليتى» لم تشعر بذلك بشكل كبير، حيث قضت كل وقتها فى وقت الحرب داخل المستشفى، «نسيت الخوف لأننى كنت مشغولة جدًا».
وتسترجع الممرضة تلك اللحظات التى قضتها فى مساكن الممرضات بالمستشفى فى أوقات الراحة، تلعب ألعاب الذكاء مع زميلاتها، وتستمع إلى الراديو، ومنه أخبار بالعبرية من مصر، وتتذكر أنها سمعت أحد المذيعين يقول إن «القدس تحترق».
خطاب جولدا
تحول «كيبور» من عيد إلى يوم فاصل فى حياة طالبة أخرى فى نفس عمر «بوليتى»، هى “شيلى هيربيت”، كما حكت عنه للموقع السابق نفسه.
«أتذكر خطاب جولدا مائير للشعب فى ليلة الحرب، كنت أجلس أشاهد تليفزيونى الأبيض والأسود، كان الهجوم المفاجئ صدمة كبيرة، الفكرة نفسها، فكرة أن تخاف من شىء قادم تجاهك، لكنك لا تعرف حجم السوء الذى سيكون عليه، كان هذا هو ما أشعر به تجاه كل ما يحدث».
تروى «هيربيت»: «فى يوم كيبور كل شىء فى حياتى تغير، كان الأمر غريبًا، أتذكر جلوسى فى غرفة معيشتى مع أصدقائى نتفرج على مسلسل، بينما قلبنا يقفز من مكانه مع كل دقة على الباب، كل مكالمة هاتفية، لكننا استمرينا فى مشاهدة التليفزيون، محاولين أن نوهم أنفسنا بأننا فى مسرحية»، تقول الفتاة الإسرائيلية، عن ذلك الوقت: مر يوم الحرب واختارت «هيربيت» أن تتطوع للعمل فى مكانين، أولهما تعبئة الأدوية فى شركة أدوية، وكذلك العمل فى مخبز بيرمان الشهير فى القدس.
عانت إسرائيل من خسائر فظيعة على كلتا الجبهتين، المصرية والسورية، فى حرب الـ6 من أكتوبر، كما تروى «هيربيت» فى قصتها، «الخوف تملك من البعض، حتى إن إحدى الزميلات الإسرائيليات، قالت لى يوما لاحقا، بعد الحرب، إنها شعرت حينها بأننا كلنا مصيرنا أن نموت».
الأرض تهتز
وفى كيبوتز كفار بلوم، شمال الأراضى المحتلة، كان المراهق صاحب الـ15 عاما، “يوال كان”، يستمتع بإجازته بعيدًا عن المعبد، حيث فضل أن يتمشى فى الخارج فى يوم بدا وكأنه بديعًا.
كان يومًا جميلًا، جبال لبنان تلوح فى الغرب ومرتفعات الجولان، تظهر بشكل ضبابى من الجنوب الشرقى، كان كل شىء هادئًا» يقص المراهق الأمريكى ما يتذكره عن يوم 6 أكتوبر 1973 لـJWeekly. «كان من المتعارف عليه فى تلك الفترة تطوع الأمريكان اليهود فى الكيبوتز فى أوقات إجازاتهم.
فجأة بدأت الأرض تهتز، وسمعت صوتًا عاليًا جدًا، كان الأمر أشبه بزلزال خفيف لفترة قصيرة، ثم ظهرت طائرة (ميج) سورية، هنا بدأت تجربتى مع الحرب».
ركض ذو الـ15 عامًا سريعًا عائدًا إلى مساكن الطلاب، ليرى رجلا من رجال «الكيبوتز» يسحب بندقية، قبل أن يتم اقتياده وزملائه من الأمريكان، وكان عددهم 23 إلى المخبأ، تحسبًا لقصف الموقع.
كان المخبأ بدائيًا، ولم يكن به مساحة كبيرة، كانت غرفة طويلة وضيقة جدًا، لكننا قضينا معظم وقتنا خلال الأسابيع الثلاثة التالية بداخله. يقول الفتى «يوال»: «انضم كل الشباب الإسرائيلى فى الكيبوتز إلى الخدمة العسكرية، وفى غيابهم كان على كل من ظل متواجدًا أن يساعد».
أطفال الحرب
وبالقرب من تل أبيب، كان حاضرًا الطفل “بواز ديفير”،
(6 أعوام)، يحفر.. «كان يوم السادس من أكتوبر عام 1973، يوم كيبور، الحرب اندلعت فى الظهيرة كالعاصفة، لكنى لم أكن مدركًا، كنت طفلًا فى السادسة من عمرى ألعب مع أصدقائى فى شارع فارغ فى بيتاش تيكفا بالقرب من تل أبيب وأفوز، عندما ندهت لى أمى لأعود إلى المنزل تظاهرت بأننى لا أسمعها، لكن أصدقائى استغلوا الفرصة لهزيمتهم أمامى، وركضوا لمنازلهم، لكننى انتظرت كنت منتظرًا بائع الأيس كريم ليأتى، نعتهم بالجبناء وكنت أبكى وأنا أعود إلى المنزل».
ويكمل «ديفير» ذكرياته عن اليوم الفاصل فى الصراع العربى الإسرائيلى من قلب إسرائيل، فى مقال كتبه فى موقع «صن سنتينال»، ويقول «كانت أمى حينها فى الـ27 من عمرها، ولم تتعاطف معى، وقالت لى (هل يمكن أن نتحدث فى ذلك عندما ينتهى هذا الأمر)، كانت تقصد بهذا الأمر الحرب، كل الكبار كانوا يدركون ما يحدث لكنهم، لم يقولوا لنا نحن الأطفال، كان علينا أن نفهم الأمر وحدنا».
ويتابع من كان طفلاً فى وقت الهزيمة الإسرائيلية استدعاء الذكريات «فى حين انطلق الجنود إلى المعارك، حاولت أمى الحفاظ علىّ وأخى فى المنزل، نستمع إلى الراديو الذى تحدث عن مجموعات قتالية كمجموعة (كرة اللحم)، لم يكن الأمر منطقيًا بالنسبة لنا، لماذا ننتظر فى المنزل فى يوم جميل كهذا لنستمع إلى الراديو، لم ندرك حجم العاصفة».
صورة بالصدفة
على شواطئ سيناء، جلس الشاب “موشيه شارجال”، وأصدقاؤه يمضون وقتًا سعيدًا، يسبحون ويضحكون ويتأملون فى السماء الصافية، ويوجهون عدسة كاميرتهم صوب السماء ليلتقطوا مشهد العصافير الطائرة، لتعترض الرؤية طائرات حربية من طراز ميج تحمل العلم المصرى.
«أدركنا أن شيئًا ما يحدث، لكننا فكرنا أننا يمكننا أن ننتظر على الشاطئ لفترة أطول، لم ندرك حينها أننا صورنا بالصدفة البحتة اللحظة الأولى للضربة الجوية المصرية، التى بدأت حرب يوم كيبور»، كما يروى فى فيلمه الوثائقى Israel: A Home Movie.