رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

أكتوبر .. حكاية وطن

512

يظل التاريخ شاهدًا على ما قدمته الشعوب لبناء أوطانها والحفاظ عليها؛ وتظل فى حياة الشعوب مراحل وفترات تكشف طبيعتها وقدرتها على البناء والتقدم والصمود والانتصار.

على مدى تاريخ الدولة المصرية يؤكد شعبها يومًا بعد يوم قدرته على صناعة التاريخ وبناء المستقبل؛ لمَ لا وهو شعب لا يقبل الانكسار أو الهزيمة، شعب يؤمن بالبطولة والفداء، يدرك قيمة الوطن والحفاظ عليه.

يبني ليصنع حضارة، ويدعو إلى السلام ليصنع التنمية، إنه شعب يؤمن بالنور ويكره الظلام، يؤمن بالحرية ويكره الاستعمار.

لم تكن روح أكتوبر التي نتحدث عنها هي تلك الروح التي ظهرت فى المعركة، لكنها جزء من تكوين الشعب المصري عند الشدائد والأزمات، عندما يدرك المصريون أن الوطن فى خطر، فيقف الجميع صفًا واحدًا لمواجهة تلك المخاطر.

فروح أكتوبر هي روح النصر والعزة والكرامة، تلك الروح التي ترفض الهزيمة ولا تقبلها قط، مهما كلّفتها من تضحيات.

فالمصريون رفضوا عبر التاريخ القديم والحديث أي محاولة للمساس بوطنهم أو احتلال جزء منه، بل إنهم بتلك الروح هبّوا لنصرة الأشقاء والدفاع عن الأرض والعرض والدين، وستظل تلك الصفحات من تاريخ مصر مضيئة بتضحيات الأبطال من أبناء الشعب المصري.

فأكتوبر 1973 سبقته ملحمة عظيمة هي حرب الاستنزاف كبّدت العدو فيها خسائر فادحة، بل استطاع المصريون أن يقطعوا الذراع الطولى لإسرائيل فى أسبوع تساقط الفانتوم، بعد إنشاء حائط الصواريخ وأصبح ذلك التاريخ عيدًا لقوات الدفاع الجوي (30 يونيو) إنها إرادة من حديد يمتلكها الشعب المصري من المدنيين والعسكريين.

فقد كان القرار واضحًا فى العاشر من يونيو 67 أننا سنحارب وكان الشعار «ما أخذ بالقوة لن يسترد بغير القوة»، ولأن مثل تلك القرارات لها تبعات على الشعوب وعلى كل المستويات الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري؛ كما أن الشعب هو حجر الزاوية فى تلك المعركة، لما سيتحمله من آثار اقتصادية.

(1)

لقد ظهرت تلك الروح عندما تصدى المصريون لزحف المغول فانتصروا عليهم فى عين جالوت، كما ردّوا زحف الصليبيين فى حطين وحرروا المسجد الأقصى، كما تصدوا لكل محاولات الاعتداء على الدولة المصرية فى العصر القديم والحديث فتصدوا للحملة الفرنسية وحملة فريزر.. إنها روح الشعب المصري الذي يرفض الهزيمة دائمًا أو الانكسار.

يقف الشعب المصري دائمًا خلف كل من يعمل على بناء الدولة المصرية ويحافظ على مقدراتها وترابها الوطني، فكان حائطًا صلبًا وسدًا منيعًا وداعمًا قويًا لكل من يعمل على البناء والتنمية.

إنها روح أكتوبر.. حكاية هذا الوطن، روح الصمود والتحدي التي سادت مصر فالشباب فى الجامعات ينادون «هنحارب» والعمال فى المصانع يواصلون الليل بالنهار لدعم المجهود الحربي، الشعب بأكمله وكل أطيافه وطوائفه يطالبون بالحرب.

شهدت الأسواق شحًا فى السلع والبضائع وأصبحت المواد الغذائية تُصرف من الجمعيات بصعوبةٍ بالغةٍ.. وتحمل الشعب لأنه يدرك أن الوطن فى أصعب فتراته ويحتاج إلى تكاتف الجميع فالهدف غالٍ ولا بد أن يكون الثمن على قدر الهدف.

لقد كان الهدف هو استرداد الأرض والعدو لن يفرّط فى شبر اغتصبه من الأرض العربية بسهولة، فالمعتقد يرسخ لديه هذا المفهوم الخاطئ (أرض الميعاد) ولأن المعركة وفق المقاييس العسكرية يصبح من الصعب الانتصار فيها على العدو الإسرائيلي، الذي كان ينعم ولا يزال بالدعم العسكري اللامحدود من قِبل القوى الكبرى وتحت ستار أكاذيب يرددها (نظرية الأمن الإسرائيلي) يحصل من العديد من الدول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تأتي على رأس قائمة الداعمين، يحصل على كل احتياجاته من الأسلحة بما يضمن له التفوق النوعي.

ففي الوقت الذي قرر فيه مجلس الأمن عقب حرب يونيو وقف توريد الأسلحة للمنطقة، لم يطبق القرار سوى على مصر وسوريا، وظلت إسرائيل تواصل بناء ترسانتها العسكرية مما جعل قدرتها العسكرية تصل 3 إلى 1 وهو ما جعلها تطمئن إلى أنه ليس من الطبيعي أن يقدم المصريون على حرب مواجهة لاستعادة الأرض، بل إن «جولدا مائير» رئيسة الوزراء الإسرائيلية، فى ذلك الوقت، اعتبرت أن دخول مصر فى حرب كهذه هو جنون.

لم تدرك «مائير» وجيش الدفاع التابع لها أنهم أمام جيش وشعب يقهر المستحيل ويصنع المعجزات على مر التاريخ، ولن تُوقفه حسابات عسكرية تقليدية لاستعادة أرضه.

إنه يمتلك خير أجناد الأرض وهم الأقوى من ترسانة الأسلحة الإسرائيلية، لقد كان المقاتل المصري هو معجزة المعركة (نصر أكتوبر)، فحطّم العديد من النظريات العسكرية وصنع نظريات جديدة ما زالت المدارس والأكاديميات العسكرية على مستوى العالم تدرسها حتى الآن.

لقد حوّل الجيش المصري هزيمة الأيام الستة إلى انتصار الست ساعات، وحطّم مقولة الجيش الذي لا يقهر، كما حطم نظرية الأمن الإسرائيلي.

(2)

لقد استطاع المقاتل المصري وخلفه الشعب أن يؤكد للعالم عقب يونيو 67 وفى نهاية الشهر ذاته، أن مصر لن تصمت ولن تستكين وأن جيشها لن يستسلم أبدًا للهزيمة فكانت معركة «رأس العش».

وفى أكتوبر من نفس العام وبالتحديد يوم 21 أكتوبر 67 حطم الجيش المصرى نظرية القطع البحرية الكبيرة عندما أغرق المدمرة إيلات بواسطة أحد لانشات الصواريخ التي كانت حديثة الدخول للخدمة بالقوات البحرية المصرية، وفى حرب أكتوبر 73 استطاع المقاتل المصري من المشاة أن يواجه الدبابة ويتفوق عليها، وأبهر المقاتل المصري السوفييت فى ذلك الوقت عندما استخدم الصاروخ Malyutka AT-3 (ميلوتيكا) الملقب بمغتصب الدبابات، وكانت احترافية استخدام المقاتل المصري للسلاح محل دراسة من جانب الروس فى ذلك الوقت، فهو يتطلب تدريبًا متواصلاً ومركزًا من المشغل.

لقد استطاع الجيش المصري وخلفه الشعب أن يحقق نصرًا ونحن نحتفل بالعيد الذهبي له نؤكد أن ما كان ذلك ليحدث لولا روح أكتوبر التي هي جزء من تكوين الشعب المصري.

ودعونا نتوقف عند بعض المشاهد، ففي الوقت الذي كانت الحرب الشاملة لم تظهر فى الأفق كان الشعب يساند قواته المسلحة بقوة، شاهدنا ذلك مع كل عملية إغارة يقوم بها الأبطال خلف خطوط العدو خلال حرب الاستنزاف.

كان الشعب يساند قواته المسلحة خلال فترة الاستعداد للمعركة فلنا أن نتخيل حجم ما يحتاجه جيش يستعد لحرب شاملة من موارد، ولم يغضب الشعب يومًا من الأزمات لأن الهدف أكبر وهو استرداد الأرض والكرامة.

لقد صنع المصريون ملحمة فى حرب أكتوبر 1973 بكل ما تعنيه الكلمة سطروا بها بطولة بأحرف من نور فى تاريخ الدولة المصرية.

(3)

توقفنا فى العدد الماضي عند اجتماع المطبخ الذي عقدته جولدا مائير واسترخى كل الحضور عقب سماعهم لموشيه ديان، وتقرير مساعد مدير المخابرات الحربية اربيه شلومو، وفى صباح السادس من أكتوبر وعقب اتصال تم بين زافى زامير ومائير حول تأكيد قيام الحرب على الجبهتين المصرية والسورية فى السادسة مساءً (مع آخر ضوء- وهو بحسب المدارس العسكرية فإن العمليات تبدأ إما مع آخر ضوء أو مع أول ضوء) وهو ما يتطلب من مائير أن ترفع درجة الاستعداد وتأمر بالتعبئة للاحتياط.

فى الوقت ذاته كانت أنباء الحشد على الجبهتين قد أصبحت واقعًا أمام القيادة الإسرائيلية، واقترح رئيس الأركان الإسرائيلي توجيه ضربة ضد القوات المصرية، لكن مائير رفضت لأن تنفيذ ضربة كتلك لن يمكن إتمامها فى ذلك اليوم، وأبلغت وزير خارجيتها فى ذلك الوقت أن يبلغ كيسنجر بأن يطمئن العرب ويؤكد لهم أن إسرائيل لن توجه أي اعتداءٍ على كل من مصر أو سوريا.

ولقد كاد الأمر أن يُكشف عندما لم تدخل سماء مصر على غير العادة أي طائرات، وفطن قائد القوات الجوية للأمر بعد أن أرسلت إسرائيل طائرة استطلاع فوق البحر المتوسط وشمال الدلتا، فأصدر قائد القوات الجوية توجيهات بصعود عدد من طائرات التدريب إلى السماء وبمجرد أن فعلت مصر ذلك هدأ بال إسرائيل.

وفى الثانية وخمس دقائق بعد الظهر كانت الموجة الأولى للطيران والتي أربكت العدو وفتحت الطريق نحو النصر.

 لقد استطاعت القوات خلال الست ساعات الأولى للمعركة (2-8 مساء) أن تحقق النصر بعبور قناة السويس والسيطرة على خط بارليف وكل حصونه.

وتم بناء 5 رءوس كباري على الضفة الشرقية للقناة.

إنها حكاية شعب صمم على ألا يستجيب لحالة اليأس التي حاولوا أن يزرعوها بداخله خلال 6 سنوات من الحرب النفسية وواصل العمل حتى النصر.

(4)

وبعد 50 عامًا من معركة الكرامة يواصل المصريون بطولتهم وعلى مدى 9 سنوات ينجحون فى بناء وطنهم والحفاظ عليه والصمود فى مواجهة أقوى المعارك الحديثة (الحرب النفسية)، والتي استهدفت إحداث حالة من الفوضى لإسقاط الدولة المصرية والتي تعتبرها الجائزة الكبرى.

أدرك المصريون حجم المخطط من قبل قوى الشر وأدواته المستخدمة من أجل صناعة ما أسموه بالشرق الأوسط الجديد وإعادة تقسيم حدود الدول.

فوقف المصريون صفًا واحدًا خلف دولتهم ومنحوا قواتهم المسلحة تفويضًا لمواجهة الإرهاب، والتفوا حول قائدهم الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي لبى نداء الشعب فى 2014 لأنهم أدركوا حجم ما تواجهه الدولة المصرية من مخاطر وتهديدات وتحديات.

وخلال السنوات التسع الماضية حرص المصريون على تحمل تبعات البناء والإصلاح وواجهوا التحديات والمشكلات المتراكمة.

فكانت ثقة الشعب فى قيادته هي حجر العثرة أمام تنفيذ مخطط قوى الشر الذي يستهدف تفكيك الدول.

من هنا كان التحرك وبقوة مستخدمين أدواتهم الإعلامية وعمليات الحرب النفسية وتزييف الوعي ونشر الشائعات والأكاذيب من أجل النّيل من تلك العلاقة القوية التي تربط المصريين بقائدهم.

لقد استطاع المصريون بروح أكتوبر المتجذرة فيهم أن يصنعوا معجزة عبور جديدة بالدولة المصرية من حالة الفوضى إلى حالة الأمن والاستقرار والبناء.

إنها معركة من أقوى وأشرس المعارك فى التاريخ الحديث فى ظل وجود عدو غير واضح وتحديات متصاعدة، نظرًا لما يشهده العالم من اضطرابات وأزمات متلاحقة.

إن إصرار المصريين على بناء وطنهم والحفاظ عليه واستكمال مشوار بناء الدولة سيكون بمثابة الضربة القاضية لقوى الشر التي لا تستهدف الخير لمصر.

إن الرهان على وعي المصريين دائمًا ما تكون له الغلبة لأن هذا الشعب على مدى التاريخ قادر على الحفاظ على وطنه ومتمسك دائمًا بقيادته الوطنية.

تحيا مصر بشعبها الواعي وقائدها المخلص الأمين.