نجوم وفنون
“حرب أهلية ” أمريكا تنهار من الداخل
By amrمايو 27, 2024, 14:14 م
1016
ينتهى فيلم “حرب أهلية” من كتابة وإخراج البريطانى ألكس جارلاند بمشهد هام وقوي: القوات الإنفصالية التى تمثّل ولايات كاليفورنيا وتكساس وفلوريدا تقتحم مكتب الرئيس فى البيت الأبيض، أى ينتصر الجنوب على الشمال عكس الحرب الأهلية القديمة، يرافقهم الصحفى جو الذى أراد حوارا مع الرئيس قبل الهزيمة، فيخرج الرئيس الأمريكى مذعورا من تحت المكتب، ويطلب من الصحفى ألا يتم قتله، يصوب الجنود سلاحهم تجاه الرئيس، لا نعرف بالضبط مصيره، ينتهى الفيلم الهام والمحكم، والذى حقق إيرادات ضحمة، والذى يتخيل “ديستوبيا” مستقبلية فى صورة حرب أهلية انفصالية ضارية فى أمريكا.
محمود عبد الشكور
الفيلم فيه عناصر كثيرة مميزة، ولكن نجاحه التجارى يمكن ربطه أيضا ببذور قلق داخلى أمريكي، وانقسام وتوتر حقيقيين، ظهرا واضحين فى فترة حكم الرئيس ترامب، ومع أحداث اقتحام أنصاره للكونجرس فى مشهد سينمائى تم بثه على الهواء مباشرة، وفى فترة حكم بايدن نشب خلاف مع ولاية تكساس بسبب المهاجرين، وهددت تكساس بالإنفصال عن الإتحاد، وانضمت إليها عدة ولايات، ودوما وفى كل فترة، ينشأ توتر وصدام عرقى فى الولايات المتحدة، بسبب قتل الشرطة للسود،
أو إساءة معاملتهم، وهناك حوادث شهيرة جدا فى هذا المجال.
لكن “حرب أهلية” يبتعد عن كل هذه الأسباب كمبرر للحرب، إذ أنها حرب من أجل الحرية فيما يبدو، لن نعرف الكثير عن ملابسات ما فعله الرئيس، الذى يمارس مهامه لفترة ثالثة، وهو أمر طبعا ضد الدستور، الذى لا يسمح إلا بمدتين، كما نعرف أنه ألغى مكتب التحقيقات الفيدرالي، وقصف المتمردين بالطائرات، حفاظا، كما قال، على تماسك أمريكا، ورفضا للإنفصال، والحقيقة أنه كان يجب أن نعرف أكثر عن هذه الإنقلاب على الديمقراطية، مما يؤدى الى ديكتاتورية صريحة.
الفيلم يكتفى يهذه العناوين، وبدلا من أن نرى الأحداث من مكتب الرئيس، نراها من خلال عيون أربعة صحفيين من أجيال مختلفة: المصورة المحترفة لي، والصحفى الشاب جو، والصحفى المخضرم سامي، والمصورة الشابة جيسي، التى تريد ان تصبح مصورة حربية، والأربعة سيتجهون الى واشنطن لإجراء حوار مع رئيس على حافة السقوط.
أتاحت هذه الحيلة الدرامية عدة أمور: أولها توجيه التحية للصحافة، فهى عين الناس على السلطة، ومنذ البداية يبدو الصحفيون مع القوات الإنفصالية، وإن لم يمنع ذلك من تسجيل المصورة لى والصورة جيسى للفوضى، وانتهاكات القوات الإنفصالية لحقوق الإنسان، ويتم أيضا تسجيل وقوع مجازر مروعة.
منحت هذه الحيلة أيضا أن نرى الحرب من الشارع، وأن نصبح من حيث نوع الفيلم، أمام مزيج معقد من فيلم الحرب، وفيلم الطريق، حيث نتابع الرحلة الى واشنطن عبر طرق خطرة)، وفيلم الإثارة، حيث تزيد جرعة المفاجآت والكوابيس والمشاهد الصادمة كلما اقتربنا من لحظة اقتحام العاصمة واشنطن، ثم من لحظة اقتحام البيت الأبيض، وهذه المشاهد بالتحديد من أفضل مشاهد الفيلم.
تسجل الصورة الفوتوغرافية كل شيء، وتقطع هذه الصور بالأبيض والأسود، أو بالألوان، ما تسجله الكاميرا السينمائية، وبدلا من “الحلم الأمريكي”، نصبح أمام “الكابوس الأمريكي”، ورغم أن هناك إلحاحا بصريا على جمال الطبيعة، إلا أن كل ذلك سرعان ما تهزمه الفوضى، ومشاهد القتل والضرب والتعذيب، ولا ننسى أن عدة أجيال أمريكية يمثلها الصحفيون الأربعة، يشهدون هذا الإنهيار والدمار، ولى بالذات، التى صورت الحرب فى كل مكان، تبدو الآن وكأنها تغطى حربا فى دولة من دول العالم الثالث، وتحذيراتها المستمرة بألا يقع الأمريكيون فى فخ الحرب، وألا يفعلوا ما يفعله الآخرون، تذهب فى الهواء.
الملاحظ أيضا أن شخصيات نسمع عنها أو نراها، مثل والد لى ووالد جيسي، ومثل صاحبة متجر ملابس يزوره أبطال الحكاية، هم جميعا فى حالة انكار للحرب، أو انعزال عنها، بينما يموت الناس من الجانبين بالقرب منهم، والحقيقية أن تحطم الحلم الأمريكى أكثر بلاغة فى تجلياته من أى إنكار.
من الملاحظات الهامة كذلك أن فريق الصحفيين يفقد اثنين من بعض أفراده، بمايذكرنا بفريق فيلم “العظماء السبعة”، بل إن محاولة التحاق شابة صغيرة بالفريق، رغم انعدام خبرتها، تذكرنا بشاب مماثل قبلوا عضويته فى فريق “العظماء السبعة”، ورغم شجاعة الصحفيين، إلا أنهم لا يمتلكون قرارا كما تقول لي، ولكنهم يقدمون المواد التى تساعد صناع القرار.
ربما كان الفيلم يحتمل أن نعرف المزيد عن الصحفيين الأربعة، بالذات عن علاقتهم بالفكرة الأمريكية، ولكن الجانب الإحترافى والمهنى غطى على كل شيء، ومن ناحية أخرى، فإن إستسلام الجيش الأمريكي، والقبض على الرئيس أو قتله، أمران لا يمكن اعتبارهما نهاية على الأطلاق، بالنظر الى ما نسمعه فى أحد المشاهد بأن الإنتصار سيشعل الخلافات والإنقسامات بين الولايات المنتصرة، كما أن الفيلم يفتح الباب لاحتمالات كثيرة بعد احتلال واشنطن، فهل ستتاح حرية الإنفصال للولايات المختلفة ؟ أم سيعاد تأسيس الإتحاد وفقا لمعايير جديدة لأن المعايير القديمة
لم تعد صالحة؟
فى كل الأحوال، يبدو فيلم “حرب أهلية” صادما ومثيرا للتأمل، سواء فى نفى الحلم الأمريكي، بل وتحويله الى معركة مدمرة، أو حتى فى نفى فكرة الحرية والمساواة، وتحويلها الى وهم يستيقظ منه الجميع على كابوس، أو فى تحويل رئيس أمريكا الى ديكتاتور يقارنه الفيلم بشاوشيسكو وموسوليني، أو فى هزيمة القوات الفيدرالية، المدججة بالتأكيد بالأسلحة النووية، أمام قوات الولايات المتمردة، ويبدو أن عدم استخدام السلاح النووى كان بسبب كون الحرب أهلية بين مواطنين أمريكيين، وبالتالى فإن أى استخدام لها سيدمر أمريكا أيضا.
ثمة أمر آخر لافت، فالفيلم يكسر توقع المشاهد بالإيقاع السريع، وهناك مشاهد طويلة كثيرة مقصودة، يلعب فيها الحوار دورا هاما، نحن أمام لوحات متتالية، يحضر فيها المكان قويا ومؤثرا فى كل مرة، مع نقل الصراع أيضا الى العلاقة بين الصحفيين الأربعة، ورغم صدمة الدماء والأشلاء والقتل والتصفية بالرصاص، إلا أن هناك محاولة للتخفيف ، بالصمت بدلا من الصراخ، وبوضع أغنيات على شريط الصوت على مدار الرحلة، وأعتقد أن كل ذلك ساهم فى أن تكون هناك مساحة للتأمل، وليس فقط مساحة للتأثر ، رغم البناء الدقيق للحظات التوتر، مما جعلنا نرى الفيلم من أفلام الإثارة والتشويق أيضا، ورغم التدرج فى التورط فى الكابوس و”الديستوبيا” وفى “القبح ألأمريكي”، كلما اقتربنا من مشاهد اقتحام واشنطن والبيت الأبيض.يضاف الى كل ذلك التوفيق فى اختيار الممثلين الأربعة أبطال الفيلم، وإجادتهم لأدوارهم، وخصوصا كريستين دانست ، التى تحولت هنا من امرأة رقيقة جميلة، الى امرأة قوية ، تمتلك قوة بلا حدود، وأحزانا بلانهاية، ولاشك أن علاقتها بالمصورة المبتدئة جيسي، من أفضل خطوط الفيلم، ونهاية هذه العلاقة من أفضل الأجزاء المؤثرة فى الفيلم.
أعود من جديد الى مشهد النهاية، الذى أعتبره من أسوأ مشاهد رؤساء أمريكا فى أفلامها، فمن صورة الرئيس الأمريكى رمز الإتحاد، والبطل الشجاع الذى يقود أمريكا والعالم كله لهزيمة غزاة كوكب الأرض فى الفيلم الشهير “يوم الإستقلال”، نرى رئيسا أمريكيا جبانا يزحف مذعورا طالبا أن يحافظوا على حياته، ونراه فى بداية الفيلم وهو يدرب نفسه على إلقاء بيان كاذب عن هزيمة قوات الولايات الإنفصالية.
بين الصورتين جرت فى النهر مياه كثيرة، هزت الصورة، وما وهدمت ما يسمونه بالقيم ألأمريكية، أما العلم الأمريكي، الذى نراه فى مشاهد كثيرة فى فيلم” حرب أهلية”، فهو يرفرف على خراب ودمار، فيكمل صورة المأساة بكل تفاصيلها.