تحقيق : روضة فؤاد
عدسة : خالد بسيونى
أن تتصدى للكتابة عن قبيلة العبابدة، فهذا أمر صعب، فهم ليسوا قبيلة صغيرة يمكن أن توجز تاريخها، وترصد حياتها وعاداتها وتقاليدها في سطور قليلة، ولكنها قبيلة كبيرة ذات تاريخ قديم وعريق يمتد لعبدالله بن الزبير.. قبيلة ربطت بين مصر والسودان بعلاقات نسب ومصاهرة وعادات وتقاليد طوال مئات السنوات ولا تزال.
وإذا كانت الصورة الذهنية قديمًا عن العبابدة أنهم قبائل تعيش في الصحراء، فإن الأمر اختلف الآن، فكثير منهم الآن يعيش في المدن، ونال حظًا وفيرًا من العلم والمعرفة ويعتمد على التكنولوجيا الحديثة في حياته وتعاملاته، لكنهم لا يزالون يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم التي توارثوها عن الأجداد منذ مئات السنين.
” أكتوبر” حاولت أن تلقي الضوء بشكل أكبر على حياة العبابدة سواء في مصر أو السودان، ففي مصر كانت زيارتنا لمحافظة أسوان التي استمرت عدة أيام، حيث قمنا بالذهاب لقرى مختلفة يسكنها العبابدة، التقينا شيوخها وشبابها، حضرنا أفراحهم، رصدنا مشاكلهم وأحلامهم، وفى السودان تواصلنا مع شيخ مشايخ العبابدة الذي استكمل لنا بقية الصورة التي ترصد تاريخ وحياة أحد أهم وأقدم القبائل العربية التي تربط بين دولتي وادي النيل.
عبدالله بن الزبير
بداية جولتنا في مدينة دراو، حيث يوجد مقر مشيخة العبابدة في مصر.. استقبلنا الشيخ عبدالمجيد عثمان – شيخ مشايخ القبيلة في المحروسة، النائب البرلماني السابق الذي تولى هذا المنصب منذ عام 1990، بترحاب وحماس شديدين، وقبل بداية الحديث، طلب من أحد المتواجدين جلب خريطة توضح أماكن تواجد العبابدة في الصحراء الشرقية، والتي تبدأ من مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد، بالإضافة إلى وادى العلاقى حتى خط عرض 22، وتمتد حتى شمال شرق السودان.
وبعد شرح واف للخريطة بدأ عثمان الحديث قائلًا ” قبيلة العبابدة واحدة من أهم وأقدم القبائل العربية، يعود أصلها ونسبها لعبدالله بن الزبير، وقد تفرع منها 4 قبائل كبيرة هم العشاباب، الفقراء والمليكاب، العبودية والشناتير، ثم قبائل الجميلية التي عاشت منذ البداية في الحضر، فلم يكن لها آبار ووديان فى الصحراء، لأن جدهم الأكبر استقر بعيدًا عن الصحراء وحاليًا يتواجدون فى محافظة قنا، وتحديدًا فى مركز قوص ونواحيها، وقد تفرع من كل قبيلة من القبائل الأربع 100 قبيلة أصغر أو بطون كما نطلق عليها، وإذا كانت جذورنا تعود إلى الصحراء الشرقية، فإن وجودنا حاليًا لم يعد يقتصر على الصحراء، بالطبع لا يزال هناك تواجد للعبابدة فى الصحراء، والوديان والجبال، لكن النسبة الأكبر تتواجد فى معظم محافظات مصر، خاصة الإسكندرية، سوهاج، الشرقية، البحيرة ومرسى مطروح”.
حرّاس الجنوب
وواصل الشيخ قائلًا: ” منذ فجر التاريخ، تُعد قبائل العبابدة والبشارية حماة حدود مصر الجنوبية، ويُطلق عليهم محاربي الصحراء، وقد شاركوا في الدفاع عن الوطن في كل الحروب التي خاضتها، ويعود نشأة سلاح حرس الحدود في بدايته لأبناء العبابدة والبشارية، لأننا نحفظ جيدًا دروب الصحراء، كما أننا قصاصون للأثر، وهو ما جعلنا خبراء في هذا المجال”.
” كم يبلغ عدد العبابدة فى مصر؟” كان هذا سؤالي للشيخ عثمان الذي أكد أن عددهم لا يقل عن 10 ملايين عبادي، منهم قضاة، مستشارون، أطباء، مهندسون، قيادات كبرى في القوات المسلحة، إضافة إلى برلمانيين.. هذا الرقم الكبير دفعني لتوجيه سؤال آخر يتعلق بمدى التزام العبابدة بالعادات والتقاليد التي أسسها الأجداد منذ مئات السنين، فقال ” بالطبع تختلف العادات والتقاليد طبقًا للمكان الذي يعيش فيه العبادي، فالذين يعيشون في الصحراء والوديان لا يزالون يحتفظون بعادات الأجداد، فعند الزواج –على سبيل المثال- يكون المهر عبارة عن ناقة أو اثنين إذا كانت الظروف المادية متيسرة، وقد يكون عبارة عن خروف أو ماعز إذا كانت ظروفه المادية لا تسمح.
و استطرد: ” يختلف الأمر بالطبع بالنسبة للعبابدة الذين يعيشون فى المدن، وأصبحوا ملتزمين بأعراف المكان الذي يعيشون فيه، وعلى الرغم من اختلاف العادات، إلا أن هناك أشياء لا يمكن تغييرها، مثل الأخلاقيات وكلمة الشرف التى يجب أن يلتزم بها العبادي، مهما كان الأمر”.
قضاء عرفي
استمر الحوار مع الشيخ عثمان بحضور العديد من شباب العبابدة وشيوخها، وتطرق الحديث إلى القضاء العرفي، وهو وسيلة متعارف عليها للتحكيم بين الخصوم، وأحكامه لها قوة الإلزام الفاعلة، ويشتهر بها العديد من العائلات الكبيرة أو القبائل، وقال عنه الشيخ عثمان: ” يظل القضاء العرفي جزءًا أساسيًا في حياة العبابدة، ولا يتغير بتغير الزمن أو مرور السنوات، ففي حال حدوث أي مشكلة أو خلاف سواء داخل العبابدة أو بين العبابدة وأحد القبائل الأخرى يتم اللجوء لشيخ العبابدة في المنطقة لفض المنازعات، وإنهاء الخصومة، وإذا لم يستطع، يتم استدعاء شيخ مشايخ العبابدة ليتدخل ويحل الأمر، وقد نلجأ أيضًا لشيوخ البشارية، وهذا ما يفعله البشارية أيضًا في مواجهة مشكلاتهم، فقد يلجأون لأحد شيوخ العبابدة للفصل في مشكلاتهم”.
هل يلتزم الجميع بالأحكام التي يصدرها شيوخ العبابدة؟
أجاب الشيخ سريعًا: ” في معظم الأحوال يكون هناك التزام تام من الجميع، سواء الشباب أو الشيوخ بالأحكام التي نصدرها، فنحن لدينا التزام قبلي، وفى حالات نادرة يتم رفض هذه الأحكام، فنكرر المحاولة بشكل ودي، وفى النهاية إذا لم يلتزم العبادي بالحكم، نحول الأمر برمته للشرطة للفصل فيه”.
صوت العبابدة
سنوات عديدة قضاها الشيخ عبدالمجيد عثمان – ولا يزال – في خدمة العبابدة، سواء كشيخ مشايخ العبابدة، أو عضو مجلس شعب، وخلال هذه الفترة عاصر العديد من الرؤساء منذ الرئيس السادات وحتى الرئيس السيسي، فقال: ” منذ انخراطي في العمل العام، حرصت على نقل صوت العبابدة للمسئولين، والمساهمة في حل مشكلاتهم، وكانت الدولة تستجيب في حدود الإمكانيات المتاحة، ولكن المشكلة الأكبر التي تواجهنا منذ سنوات تتعلق بالتنقيب عن الذهب في وادي العلاقي، والقصة باختصار أن هذا الوادى هو أحد أودية الصحراء الشرقية، ويقع جنوب أسوان، وتبلغ مساحته نحو 500 كيلو، يضم الوادي نحو 300 منجم ومحجر، فهو غنى بالمعادن المرتكزة فى باطن الأرض مثل الذهب، الفضة، الميكا، السبار وغيرها، ومنذ اكتشاف هذه المناجم، بدأ أبناؤنا في التنقيب عن الذهب باستخدام أجهزة خاصة، وتمكن العديد منهم من الحصول على جهاز “جي بي” للبحث عن المعادن، فهم يعتبرون الذهب الموجود بالوادي ملكًا لهم، وهذا ما ترفضه الدولة، معتبرة أن ما يقومون به غير شرعي، فتقوم الشرطة بملاحقاتهم أثناء التنقيب، وتوجيه التهم لهم، ومحاكماتهم، وإصدار أحكام بالسجن، مما تسبب في حدوث أزمة كبرى، فمن جهة يعانى شبابنا من قلة فرص العمل، والظروف الاقتصادية السيئة، مما يدفعهم لهذا الأمر، ومن جهة أخرى، ترفض الدولة التنقيب غير الشرعى، مما أدى لمقتل وإصابة العديد من أبناء القبائل، والقبض على عدد كبير منهم أثناء مطاردتهم، وطوال السنوات الماضية سعيت لدى الرئاسة لحل المشكلة، وكانت البداية عام 2009، حيث ذهبنا للقاء الرئيس الأسبق مبارك، وعرضنا عليه القضية بكل تفاصيلها، ووعد بحلها ولكن لم يحدث شيء، تكرر الأمر نفسه مع محمد مرسى، الذى أكد لنا أن القضية سيتم حلها، ولم يحدث أى استجابة حقيقية، ولكن مع تولى الرئيس السيسى الحكم، اختلف الأمر، فعندما ذهبنا للتحدث معه ومناقشة القضية، تفهم الرئيس مطالبنا، ووعد بتنفيذها، وبالفعل صدرت تكليفات رئاسية للمهندس إبراهيم محلب مساعد الرئيس للمشروعات القومية للانتقال إلى المنطقة على الطبيعة، كما تم تأسيس شركة حكومية تعمل على استخراج الذهب، وكانت شركة ” شلاتين للثروة المعدنية” التي يتم فيها الاستعانة بأبناء قبيلتى العبابدة والبشارية”.
وادي العلاقي
واستكمل الشيخ عثمان حديثه قائلًا: “نتمنى من الدولة أن يستمر دعمها لأبناء قبائل العبابدة والبشارية، من خلال تعمير وادى العلاقى، فكما قلت سابقًا، يضم الوادي عشرات المناجم والمحاجر، وعندما تأتى الشركات الكبرى للعمل والاستثمار فى الوادى، يستعينون بعمال تابعين لهم، وشبابنا جالسين فى منازلهم بلا عمل، لذا نطالب الدولة بتعمير وادى العلاقى بأبنائه من قبائل العبابدة والبشارية، وهناك حوالي 50 ألف فدان من أجود الأراضي فى هذه المنطقة قابلة للاستصلاح والزراعة الفورية، فنطالب بتوزيع بيت و5 فدادين على كل شاب من أبناء العبابدة والبشارية.
تعمير هذه المنطقة أمر مهم جدًا، فمن ناحية، هي منطقة حدودية، ولابد من إعطاء مزيد من الاهتمام لها وتعميرها، ومن ناحية أخرى سيتم القضاء على البطالة بين الشباب، ومن ثم تتوقف عملية التنقيب غير الشرعية”.
قبل نهاية حوارنا مع الشيخ عبد المجيد عثمان، كان لا بد من سؤاله حول التواصل والارتباط بين العبابدة في كل من مصر والسودان، فيقول ” لا يوجد أى فرق بين العبابدة فى الدولتين، فنحن كيان واحد، يوجد 40% فى مصر، و60% منه فى السودان، فقد يكون هناك عبادي مصري وشقيقه عبادي سوداني، وجميعنا أبناء عمومة وأقارب، وهناك تبادل تجارى وثقافي كبير، وزيارات لا تنقطع، وقبل أيام قليلة كان لدينا وفد سوداني كبير في المشيخة، كما نحرص على المشاركة في جميع أنشطتهم واحتفالاتهم، كما نحرص دائمًا على أن يكون لنا دور في توطيد العلاقات بين البلدين لأن المصير التاريخي مشترك.
إدفو .. معقل العبابدة
انتهى حوارنا مع شيخ مشايخ العبابدة، ولكن مهمتنا لم تنته بعد، فكانت محطتنا التالية في مدينة إدفو، التي يقال عنها أنها معقل العبابدة، فلا يمكن أن تمر بقرية هناك، إلا وتجد غالبيتها من أبناء تلك القبيلة العريقة.. هذا ما قاله لنا الشيخ ” عبدالحكيم عبد الباسط” شيخ العبابدة فى إدفو، الذي استقبلنا في ” المندرة” الخاصة به، والتي تشهد تواجدًا مكثّفًا من أبناء العبابدة.. الجميع يتحدث، يناقش، ويبدى آراءه في العديد من القضايا، وعادة ما تكون مشروبات الشاي، و” الجـَبَنَة” – قهوة يتم تحضيرها عن طريق وضع البن الأخضر في المقلاة، على الفحم حتى يتم تحميصه، ثم يُدق جيدًا، ويتم تحضيره مع الجنزبيل المطحون بالحبهان والحلفا بر- رفيقًا أساسيًا في أى جلسة للعبابدة.
كان سؤالي الأول للشيخ حول القضاء العرفي، خاصة أننا شهدنا إحدى جلسات الصلح التي أقيمت بين اثنين من العبابدة، فقال: ” منذ قديم الزمن، اعتدنا أن تكون الجلسات العرفية وسيلتنا الوحيدة للفصل في النزاعات، فهى جزء أساسي من تاريخنا وتراثنا، وجميع المشكلات والنزاعات التي تحدث فى القبيلة تخضع للقضاء العرفي، بدءًا من شجار بين أطفال، حتى قضايا المواريث أو نزاع بسبب حدود أرض”.
وشرح الشيخ خطوات الحكم في أي مشكلة أو قضية تواجههم قائلًا: ” في البداية عندما نسمع عن وجود أي مشكلة بين طرفين، أرسل إليهم بعض الرجال الحُكماء ليطلبوا منهم الهدوء، وعدم اتخاذ أي مواقف متسرعة، حتى يتم الاتفاق على عقد مجلس عرب، وبالفعل ينعقد المجلس، ويحضر الطرفان اللذان يوقعان على ما يسمى ” محضر تفويض” يقران فيه بتفويض المجلس العرفي المكون من عدد من الأشخاص يتم اختيارهم بعناية، كما يوقعان على إيصالات أمانة بمبالغ معينة تتحدد على حسب حجم المشكلة، بعدها تقوم اللجنة التي شُكلت للحكم في المشكلة بمعاينة الأزمة على الطبيعة، والتحدث مع الطرفين، وسماع شهود الواقعة، ثم يتم عقد جلسة أخرى لتقرر اللجنة حكمها، ولابد أن تتكون اللجنة من عدد فردى، لأنه إذا احتاج الأمر للتصويت، فلابد أن يكون هناك صوت يُرجح الحكم، ثم تقوم اللجنة بكتابة الحكم، ويقوم الطرفان بالتوقيع عليه حتى قبل معرفته، ثم يتم إعلان الحكم، وإذا لم يلتزم أي من الأطراف بالحكم، نقوم بإعطاء الطرف الآخر إيصالات الأمانة، ليقوم برفع دعوى قضائية في المحكمة”.
الأفراح والزواج
الحديث مع الشيخ لم يقتصر فقط على الجلسات العرفية، فالعادات والتقاليد الخاصة بالعبابدة شغلت حيزًا كبيرًا من الحوار، يقول الشيخ ” الدنيا تغيرت، فعلى سبيل المثال، أفراح العبابدة حاليًا أصبحت تشهد وجود “دى جى” وذهاب العروس للكوافير، وعديد من الطقوس التي لم يكن ممكن حدوثها فى الماضي”.
ويتذكر الشيخ عادات الأفراح والزواج عند العبابدة في الماضي، فقال: ” عندما يقرر الشاب الزواج، يطلب من والدته أن تبحث له عن عروس مناسبة، وبالفعل تذهب الأم لبيت العروس، وتتأكد أنها ليست مخطوبة، ثم يذهب العريس مع والده وأقربائه للتقدم بطلب الزواج، ويتم دفع المهر، الذي كان في البداية عبارة عن ناقة أو أكثر، ثم تطور الأمر ليصبح مبلغًا ماليًا يتم الاتفاق عليه، ويتم الزواج فى منزل العروس، حيث يقوم والد العروس ببناء حجرة أو حجرة وصالة في منزله، لكي يقيم فيه ابنته وزوجها، وقد يقيمان عامًا أو اثنين، حتى يتمكن الزوج من بناء منزله الخاص”.
وعن طقوس الفرح قديمًا، استكمل الشيخ حديثه: ” يوم الفرح كان عبارة عن ليلة قرآن، يقوم المقرئ بقراءة ربع أو اثنين من الكتاب الكريم ، ثم يتناول الضيوف العشاء، وفى اليوم التالي للفرح، يذهب الأهل والجيران والأصدقاء لتقديم ” النقوط” للعروس، أما في اليوم الثالث فتذهب سيدات القرية لمنزل والدة العروس حاملين معهم الدقيق والدجاج هدية للعروسين، كنوع من أنواع التكافل الاجتماعي بين أبناء القبيلة”.
خور أبو صبيرة
من إدفو انتقلنا لمكان آخر ومزيد من تفاصيل تاريخ وحياة العبابدة في خور أبو صبيرة، وهى قرية صغيرة قوامها ثلاثة آلاف نسمة معظمهم من العبابدة.
في طريقنا للقرية مررنا بمنطقة محاجر ومناجم، يعمل بها عدد قليل من العمال، طوال الطريق جذب انتباهنا عدم وجود سيارات أخرى تسير بجانبنا، فلا وجود لأصوات آلات تنبيه سيارات أو أى مواصلات أخرى، وكأن القرية منعزلة في منطقة مهجورة، وصلنا إلى هناك لنجد اجتماعًا أو جلسة عقدها الشيخ مصطفى الحاج شيخ العبابدة بحضور العديد من شيوخ القرية وشبابها.
في صدر الاجتماع جلس الشيخ وبجواره رجال العبابدة، وأمامهم مشروب الجَبَنَة، يتحدثون في موضوعات شتى، ولكن أهمها الاستعدادات الأخيرة لإقامة فرح أحد شباب القبيلة.
السلمة
كان من اللافت للنظر أثناء الجلسة العصا التي يستخدمها الشيخ سواء فى توجيه الكلام أو طلب شيء من أحد شباب العبابدة، سألته عنها فقال: ” تسمى هذه العصا “السلمة” وهى عصا مصنوعة من خشب شجر لا يشرب المياه، ويعتمد على مياه الأمطار، لذا فخشبه شديد ويتحمل، وهذه العصا هي رفيقتي التي لا استغنى عنها”.
بدأ الشيخ مصطفى الحاج حديثه بالإشارة إلى غياب عدد كبير من رجال القرية بسبب نزول المطر، ويفسر ذلك قائلًا ” نحن فى الأساس قبيلة رعوية تعيش على الأمطار، وترعى الإبل والأغنام، وعندما ينزل المطر، يذهب الرجال للبحث عن المراعى فى الجبال، فنزول المطر مناسبة سعيدة تقام لها الاحتفالات”، دفعني حديث الشيخ لسؤاله عن أبرز المهن التي يعمل بها العبابدة بجانب الرعي، فأجاب: ” حوالي 90% من أهل القرية يعملون في الرعي، أما النسبة الباقية فتعمل في التجارة، مثل تجارة الجمال بين مصر والسودان، حيث يسافرون بها 45 يومًا عبر الصحراء من شقيقة الجوار إلى مصر”.
كان سؤالي الثاني يتعلق بالتعليم، خاصة أننا وجدنا مدرسة ابتدائية في أول القرية، فأجابني الشيخ : ” في الماضي، لم يكن التعليم يمثل شيئًا أساسيًا فى حياة العبابدة، ولكن منذ سبعينيات القرن الماضي اختلف الأمر، وباتت الأسر حريصة على تعليم أبنائها، والآن لا يوجد قرية من قرى العبابدة إلا ويوجد فيها مدرسة ابتدائية على الأقل، ويمكن أيضًا مدرسة إعدادية، حتى وادي العلاقي يوجد بها مدرسة، رغم أن عدد التلاميذ فيها 6 فقط، ويفضل بعض الأهالي أن يكتفي أبناؤها بالتعليم حتى المرحلة الثانوية، وإذا وجدوا الابن ميّالًا إلى التعليم بدرجة كبيرة، يشجعوه على استكمال تعليمه في المرحلة الجامعية، أما بالنسبة للفتيات، فيُسمح لهم بالتعليم، وهناك بعض الفتيات يدخلن الجامعة أيضًا، ونفضل أن يلتحقن بجامعات في نطاق المحافظة”.
زي القبيلة
و واصل الشيخ مصطفى حديثه حول أبرز العادات والتقاليد التى لا يزال العبابدة يحتفظون بها حتى الآن، وخاصة فيما يتعلق بالملابس والمأكولات والمشروبات، فيقول ” بالنسبة لزى العبابدة فهو واحد منذ الأجداد حتى الآن، وهو عبارة عن السروال الطويل، العرّاقي، السديري السواكني –ويجب أن يكون بجيوب كبيرة من الداخل والخارج، بالإضافة للعمامة”، مشيرًا إلى حرص العبابدة، خاصة الذين يسكنون الوديان والجبال على ارتدائه في الأفراح والمناسبات المختلفة، أما فيما يتعلق بالمأكولات، فأشهرها على الإطلاق السلات، وهو عبارة عن لحم مشوي على الزلط، حيث نجمع الحطب، ونضعه في الزلط، ونشعل النار، وعندما يسخن الزلط، نفرش عليه اللحمة، هناك أيضًا القراصة التي تُصنع من دقيق القمح الذي يُعجن بالماء، ويوضع على الصاج، وتكون القراصة إلى حد ما سميكة.
التربلة والسيرة
نأتى إلى عادات الزواج والأفراح عند العبابدة التي شاهدنا جزءًا منها، عندما دعانا الشيخ مصطفى لحضور أحد أفراح شباب العبابدة، وتميز كغيره من أفراح العبابدة بالرقص بالسيف والكرباج، وأغانِ تراثية وقصائد حماسية.
وحدثنا الشيخ مصطفى قائلًا: ” في البداية عندما يقرر الشاب الزواج، لابد أن يتم الأمر بالشورى بين عائلته، فالأخوال والأعمام والأقارب يجب أن يكون لهم دور، ولابد أن يحصل على موافقتهم، ويُفضل أن يتزوج العبادى من داخل القبيلة، ولكن إذا أراد الزواج من قبيلة أخرى، فلا يوجد مشكلة، ولكن- كما ذكرت سابقًا- لابد من الحصول على موافقة العائلة، وبعد أن يتم الاتفاق بين الأهل، يتم التحضير للفرح الذي يتجلى فيه التمسك بالعادات والتقاليد الخاصة بالعبابدة، رغم اتجاه الكثيرين إلى المدنية والحداثة، ومن أشهر طقوس الفرح رقصة التربلة، وهى عبارة عن رقصة بالسيف، حيث يقوم شابان بالإمساك بسيف، والتلويح به بشدة، لاستعراض قوتهما فى هز السيف، ويكون ذلك أمام مجموعة من الشباب الذين يقفون فى صف يغنون ويدقون الكفوف، ثم يتناوله بعد ذلك شباب آخرون، وهناك رقصة السيرة، حيث يقوم العريس بضرب أصدقائه من الضيوف الشباب بالكرباج، والحد الأدنى للضرب اثنان، ويكون ذلك على أنغام الأغاني الحماسية التراثية للقبيلة، وتُستخدم آلة الطمبورة لعزف الأغاني، وتعد هذه الآلة من تراث العبابدة، وتُصنع من خشب الأشجار وجلد الجمل، ومشدود عليها خمسة أوتار.
يلتقط طرف الحديث الشيخ ” سيد الصاوي” –وهو من شيوخ العبابدة- قائلا: ” ومن الطقوس المهمة في الأفراح أيضًا قصائد الشعر الحماسية التى تتحدث عن مآثر وأمجاد العبابدة، حيث يحفظ العبابدة العديد من القصائد التى تحكى عن الانتصارات التى حققها أجدادنا على المغيرين على أرضنا، مضيفًا: ” أحرص عند حضوري أي فرح على إلقاء قصيدة أو أكثر مليئة بالحماسة والزهو بتاريخنا وتراثنا، ومن الأبيات التي أعتز بها، وأعتز بإلقائها دائمًا ” بيقولوا عبابدة اسم عز ووسام.. أهل كرم الفراسة ورث لهم وعادة.. هم فرسان قيادة وسيادة.. عادى الموت عندنا زى الفرح والزفاف”.
صفحات ” فيس بوك”
بعيدًا عن العادات والتقاليد، استوقفني عند الحديث مع العديد من شيوخ وشباب العبابدة هذه القدرة المدهشة على التواصل، والمعرفة الدقيقة لأماكن تواجد العبابدة سواء في مصر أو السودان، حتى إن أحدهم قال لى ” إذا ذكرت لى اسم عبادي أستطيع أن أقول لك عائلته والمحافظة أو المدينة الذي يعيش فيها”، مما دفعني للسؤال حول كيفية حدوث هذا التواصل بهذا الشكل.
أجابني “محمد عبدالنبى” – من شباب العبابدة الذين حملوا على عاتقهم خدمة أهالي القبيلة: ” ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة فيس بوك على مزيد من التواصل بين العبابدة، وأعتقد أننا من أكثر الفئات التي استفادت من هذه التكنولوجيا، وقد حرصت على إنشاء صفحة خاصة للمساهمة فى خدمة القبيلة، وقد ضمت الصفحة التي حملت اسم ” المجلس الأعلى لمشايخ العبابدة بمصر” آلاف العبابدة ، ومنذ إنشائها، لم يقتصر نشاطها على التواصل والحديث، ولكن الهدف الأساسي كان خدمة أهلنا، وتلبية احتياجاتهم في حدود استطاعتنا، فعلى سبيل المثال إذا كان هناك عبادي في أسوان ويريد السفر للإسكندرية سواء للسكن أو العلاج ، نتواصل مع أهلنا هناك لمساعدته، وتذليل أي عقبات تواجهه، وبالإضافة لذلك كانت تلك الصفحة وصفحات كثيرة أخرى للعبابدة نواة لمؤتمر جماهيري كبير للقبيلة أقيم في دراو بأسوان، وحضره 50 ألف عبادى من كل محافظات مصر، حيث كان الفيس بوك وسيلة الدعوة لحضور المؤتمر”.
وقال الشيخ ” سيد الصاوي” الذي أنشأ صفحة أخرى بعنوان ” خيمة العبابدة بوادي النيل”: ” لا يقتصر نشاطنا على خدمة أهلنا فى مصر فقط، فالعبادة فى السودان جزء لا يتجزأ منا، ولهذا أنشئت تلك الصفحة التي تهدف للتواصل وتقديم أى خدمة أو مساعدة يحتاجها أشقاؤنا، وأتذكر أن بعض العبابدة تركوا مصر واستقروا فى السودان، ولكن كان لهم أقارب فى مصر، وطلبوا منا –عبر الصفحة- مساعدتهم للوصول إليهم، وبالفعل نجحنا فى لم شملهم من جديد”.
اللغة البجاوية
لم يكن ممكنًا ترك أسوان دون الحديث عن قبيلة البشارية، وهى من أكبر القبائل العربية أيضًا، وتعيش جنبًا إلى جنب مع قبيلة العبابدة بالصحراء الشرقية فى جنوب مصر ما بين محافظتي أسوان والبحر الأحمر.
فقال الشيخ نصر كرار شيخ مشايخ البشارية في أسوان: ” أبناء قبيلتى العبابدة والبشارية مختلطون ببعضهم البعض، وتجمعهم الأنساب، والعادات، والتقاليد، حتى يصعب التفريق بين القبيلتين”.
وأضاف الشيخ نصر عن تاريخ قبيلة البشارية قائلًا: ” تنتمي البشارية إلى قبيلة البجا، وقد تفرع منهم العديد من العائلات، ويتحدث كثير من أبناء البشارية اللغة البجاوية، وهى مثل اللغة النوبية تُنطق ولا تكتب، ويصل عدد البشارية في مصر لنحو 4ملايين، يعيش بعضهم فى مناطق وعرة بين دروب وجبال البحر الأحمر، وهناك النسبة الأكبر التى تعيش في المدن”.
ولفت الشيخ نصر إلى أن كثيرًا من أبناء البشارية ممن يعيشون في الوديان والصحراء يعانون من الإهمال ونقص الخدمات، حتى إن كثيرًا منهم لا يزال يعيش فى الكهوف، ويطالب الشيخ نصر ببناء قرية أو اثنين للقبائل التي تعيش في الصحراء.
استكمل الحوار الشيخ “عوض هدل” رئيس جمعية العبابدة والبشارية بمحافظة أسوان، وأحد أكبر مشايخ البشارية في مصر، متحدثًا عن الجمعية ودورها، فقال :” أُشهرت الجمعية عام 1972، وكانت قبل ذلك مضيفة، وتهدف الجمعية بشكل أساسي إلى جمع شمل القبائل، والقضاء على أى مشكلات تواجه أبناء القبيلتين، كما تقوم الجمعية بأنشطة كثيرة ثقافية واجتماعية، كما نقيم دورات لمحاربة الأمية.
ملامح من الحياة في شقيقة الجوار
إذا كان النيل يتفرع إلى فرعين يصبان فى البحر المتوسط، هما فرع دمياط فى الشرق، وفرع رشيد فى الغرب، فقبيلة العبابدة لها فرعان، الأول في مصر، والثاني في السودان، وإذا كنا قد عايشنا حياة العبابدة في مصر، فكان لابد من إكمال الصورة برصد مظاهر حياة عبابدة السودان، وهو ما ساعدنا فيه ناظر عموم قبيلة العبابدة بشقيقة الجوار، حيث تحدث معنا فى حوار شامل عن تاريخ العبابدة، وأماكن تواجدهم فى السودان، وعاداتهم وتقاليدهم التي تتطابق مع أشقائهم فى مصر، فقال ” أحمد الباقر سعيد” –الذي تولى هذا المنصب منذ عام 2005، ويدير القبيلة من مدينة بربر بولاية نهر النيل، التي تعتبر عاصمة العبابدة التاريخية : ” دخل عرب العبابدة السودان في فترة من الزمان مبكرة، وذلك بعد فتح مصر على يد عمرو بن العاص، وبعد اتفاقية عبد الله بن أبى السرح، وكانوا أهل إبل وماشية، حيث انتقلوا للسودان طلبًا للمراعى، حتى وصلوا إلى ولايات غرب السودان كردفان ودارفور، ولهم هناك بطون وفروع، وحاليًا يسكن العبابدة في معظم ولايات السودان ، فهم يتواجدون في الولاية الشمالية فى دنقلا، والدبة، والسليم، وكريمه، وبشاري، وفى ولاية نهر النيل فى أبو حمد، وبربر، وكنور، وفى الدامر شرق النيل وغرب النيل، كما يوجد عدد كبير فى ولاية النيل الأبيض، وكثير من العبابدة يسكنون مناطق البحر الأحمر بورتسودان، وطوكر، وأوسيف”.
حديث السيد أحمد الباقر عن انتشار العبابدة فى السودان دفعني لسؤاله حول العدد التقريبي له، فقال: ” كما ذكرت سابقًا، قبيلة العبابدة منتشرة في السودان، الإحصائيات الدقيقة للعدد الكلى صعبة، ولكننا في الانتخابات التى جرت عام 2010، وحسب متابعاتنا في التسجيل وإجراء الانتخابات، تبين لنا أن العدد الكلى نحو مليونى نسمة، وهى كما ترين صورة تقريبية، إذ أن المرأة لم تكن حينذاك فى ميدان السباق، ولذا أعتقد أن العدد أكبر من ذلك بكثير، إذا أضفنا المرأة والذين حق لهم بلوغ السن القانونية”.
واستكمل ” الباقر” حديثه الذي يرسم لنا فيه ملامح من حياة عبابدة السودان، فقال : ” أغلب العبابدة الآن يعملون بالرى، والزراعة، والتجارة الخاصة بين مصر والسودان، وآخرون ينقبون عن الذهب في وادي قبقبة، وقليل منهم موظفين فى الدولة، وبالنسبة للأزياء التى يفضلون ارتداءها، فمثل أهلنا فى مصر، فالزى الغالب لأفراد القبيلة عند الرجال العراقي، والسروال الطويل، والسديري، أما النساء فمازلنا محجبات ومحتجبات، أما عن عادات الزواج لدينا، فالحياة الزوجية سهلة، وميسورة، وخالية تمامًا من العقد، والدولة تساهم فيه فى كثير من الأحيان مثل الزواج الجماعي، والذي يتعدد فى المناسبات، كالعيدين والمولد النبوى الشريف، والرجل الزوج هو المسئول عن البيت ونفقات الأسرة، وعليه أن يدبر معاشها وسكنها بالطريقة التي يستطيعها حسب البيئة التي يعيشون فيها، وفيما يتعلق بأبرز الأكلات التى نقبل عليها فى السودان، فقد وجدنا أهلنا يشكلون مائدتهم من العصيدة والكسرة، وكلاهما من دقيق الذرة، ولا يزالان من الأكلات المفضلة لدى كثير من العبابدة”.
مشكلات العبابدة
ويعدّد ” أحمد الباقر” المشاكل التي تواجه العبابدة، قائلاً: ” لا يزال العبابدة أهل بادية، وفيهم ينتشر الفقر، الجهل، والأمية، ومن يسكنون المدن يعلمون أبناؤهم إلى مرحلة الأساس، والسعيد منهم من يدخل المدرسة الثانوية، أما البنت عندنا فما تزال تحتاج إلى الرعاية، العناية، والتعليم، ورفع سن الزواج، ولكن في المقابل نال كثير من أبناء القبيلة الشهادات العليا من الجامعات، وفيهم كثير من المتخصصين، ومن حملة الماجستير والدكتوراة، وكثير منهم وصل لدرجة المستشار والأستاذية، منهم على سبيل المثال وليس الحصر، اللواء محمد الباقر أحمد نائب الرئيس السوداني الأسبق المشير جعفر النميرى، إبراهيم غندر وزير الخارجية السوداني السابق، عبد الرحيم حمدي وزير المالية الأسبق.
لم يكن ممكنًا أن ينتهي الحوار مع ” أحمد الباقر” دون سؤاله عن أوجه التشابه بين عبابدة مصر والسودان، فيقول ” الشيء الملاحظ أن أهلنا العبابدة في مصر أشبه ما يكونون بأهلهم في السودان، من حيث الشكل واللون، وطريقة العيش، والكرم الفياض، فأنت لا تجد فرق بين العبادي المصرى والسوداني إلا في بعض نبرات الحديث، فلا فرق يلحظ إلا فى هذا الجانب”.