صالون الرأي
أبو طرطور والباشا هندي!
By mkamalديسمبر 23, 2018, 14:25 م
1209
أحزننى جدًا اختفاء مئات الكيلو مترات من خط السكة الحديد الذى كان ينقل خام الفوسفات من حقل أبو طرطور فى الوادى الجديد إلى ميناء سفاجا على شاطئ البحر الأحمر.
فقد تمكن بعض معدومى الضمير من سرقة القضبان والفلنكات باستخدام الجرافات فى الفترة التى غابت فيها الدولة بعد أحداث يناير 2011، ومع ذلك فقد عاد هذا المشروع القومى للحياة مرة أخرى بعد إسناد تبعيته إلى وزارة البترول، حيث تغير نظام استخراج الخام من الحفر العميق باستخدام الأنفاق إلى التعامل مع الطبقات السطحية ومعالجتها والاستفادة من كل الخامات الناتجة عن عمليات الفرز والغربلة، مع إقامة مصانع للمعالجة لتصنيع السماد بدلًا من تصدير الفوسفات كخام للخارج.
نعم لقد دبت الحياة فى هذا المشروع من جديد، خاصة أننا نمتلك مخزونًا ضخمًا من هذا الخام «الفوسفات»، مع رجاء للجهات المسئولة بسرعة إقامة المصانع المكملة لنشاط الاستخراج.
من جهة أخرى أذهلنى حجم التطور والتغيير الذى يجرى فى تلك المحافظة التى كانت بعيدة عن القلب وبالتالى بعيدة عن العين، مع أنها كانت أول ما يتم استهدافه من الغزوات الخارجية أو القبائل المهاجمة من جهة الغرب أو الجنوب، ويزداد الحزن عندما تعلم أن هذا الوادى الضخم من المساحة يعوم على بحيرة من الآثار لجميع العصور القديمة بداية من الفرعونية، إلى الرومانية، ثم القبطية، والإسلامية، والفارسية، وأخيرًا البطالمة.
ويكفى أن تعلم أنه على أرضه وفى بحر الرمال العظيم دفن جيش القائد الفارسى «قمبيز» والذى كان يبلغ تعداده أكثر من 40 ألفًا، عندما تجرأ وحاول هدم معبد آمون الذى تنبأ كهنته بهلاكه!، ومازال الجيش بكامل معداته مدفون تحت الرمال.
وتجدر الإشارة أن الأثرى المصرى د. أحمد فخرى قد نجح فى اكتشاف العديد من المواقع الأثرية فى محافظة الوادى الجديد، ولذلك يحبه أهل الوادى ومازالوا يذكرونه بكل الخير.. حيث كان سببًا فى توجه الكثير من البعثات الأجنبية للعمل فى واحات الوادى المختلفة وخاصة البعثة الألمانية التى اكتشفت مقابر الأسرة الفرعونية السادسة، وقد شيدت البعثة بيت حديث «منزل سنورس» والذى يحكى كيف كانت الحياة فى العصور القديمة.
وهناك أيضًا مدينة «القصر» والتى تشبه القرى العادية فى الريف المصرى قبل أن تزحف عليه المبانى الخرسانية، وتتميز بضيق شوارعها وانخفاض سقفها كإجراء أمنى ضد القبائل المغيرة من الغرب، وقد استقبلت هذه القرية القبائل الإسلامية بداية من العام خمسين للهجرة..، وظهرت حديثًا فى فيلم سينمائى قام ببطولته كريم عبد العزيز ومنى ذكى وطلعت زكريا، وغنى فيها أحد مطربى الواحات أغنية «مريم» الشهيرة!
أما أطرف ما شهدناه فى الوادى، فقد كان وادى الجمال، حيث تسببت الرياح الشديدة المحملة بالرمال فى تحول صخور الوادى إلى ما يشبه الجمال بجميع أوضاعها، وهذا الوادى يقع فى مدخل قرية بشندى التى لها قصة طريفة، فقد استقر فيها أحد الشيوخ الهنود، وتمكن بعد فترة من تشكيل جيش محلى لمحاربة الروم المحتلين وانتصر عليهم وأشهر إسلامه وسمى نفسه محمد الباشا هندى، وبمرور الأيام حور الأسم إلى البشندى وسميت القرية به، والطريف أن هذا الباشا كان يجمع خمسة قروش من الأهالى كل شهر يستخدمها فى توفير البنية الأساسية وتجهيز الجيش وبعد وفاته استمر أهل القرية فى تجميع المبلغ وأقاموا جمعية تعاونية تمكنوا من خلالها من إنشاء مصنع بسيط لصناعة السجاد والكليم والتوب الفرعونى باستخدام أصواف الأغنام، ويحرص كل من يزور الوادى على المرور على تلك القرية النموذجية التى تتمتع بالاكتفاء الذاتى فى كل شىء وبها جميع المرافق والخدمات الأساسية.
وكل ما تقدم تضمه واحة الداخلة، أما واحة الخارجة فحدث ولا حرج عن التطور السريع الذى تشهده والحجم الضخم من الآثار تحت ترابها!
ويكفى أن بها معبد هيبس، ومقابر القبوات ومعبد دوش، ومعبد الزيان، ومنطقة الرمال الناعمة.. وغيرها الكثير مما يحرص زوار الوادى على مشاهدته، بخلاف الصناعات الحديثة لتعبئة التمور، وعصر الزيتون، وتعبئة عسل النحل.. والفواكه المختلفة ولكن لفت نظرنا اكتمال القرى النموذجية الجديدة بمشروع الألف فدان والتابعة لشركة الريف المصرى، فالطرق ممهدة ومرصوفة والمساكن بها جميع الخدمات من مياه وكهرباء وصرف صحى، وقد افتتحها الرئيس منذ عامين أو يزيد، ومع ذلك فمازالت فارغة تقاوم الرياح المحملة بالرمال العاصفة.. ولست أعلم إلى متى ستستمر على هذا الحال.. ولماذا لا يتم التوزيع على المستحقين الذين تقدموا بطلباتهم منذ أكثر من عام ونصف؟!
تبقى الإشارة إلى الفنون فى الوادى، حيث لديهم نماذج مبهرة من الرسامين الموهوبين باستخدام الرمال والمواد الطبيعية المتوفرة من صخور وأحجار وغيرها، ومنهم الفنان عادل الذى حول منزله إلى متحف مفتوح، وكذلك الفنان أحمد وهبة الذى تميز برسم لوحات بيئية بالرمال الطبيعية مختلفة الألوان، ونظرًا لجودتها فقد وصل سعر بعضها إلى أكثر من 10 آلاف جنيه للوحة الواحدة، كما فاز أحد الشباب بجائزة مسابقة «إبداع» فى الرسم والتى تنظمها وزارة الشباب والرياضة على مستوى الجمهورية.
ويبدو أن الذى يحتضن هؤلاء الموهوبين هى مراكز الشباب، حيث لم نلحظ دورًا مؤثرًا لقصور الثقافة بالمحافظة، وقد نظم لنا القائمون على مراكز الشباب فى كل من واحتى الداخلة والخارجة حفلين فنيين فى غاية الروعة، حيث استمعنا لآلة «المرغونة» التى يشتهر بعزفها أبناء الوادى، وكذلك التابلوهات الراقصة التى عرضتها الفرقة الفنية الخاصة بمركز شباب الخارجة، ومطربها الموهوب ذو الصوت الصوفى المعبر وقدرته الهائلة على الارتجال بأشعار جميلة.
فكل الشكر لوزارة الشباب والرياضة لتنظيمها هذا البرنامج «أعرف بلدك» وكل التحية لأبناء الوادى الجديد الطيبين المتسامحين وخاصة الأصدقاء بهاء وجمعة والصينى وغيرهم.
نعم.. نحن نحتاج إلى إن نعيد اكتشاف بلدنا والتعرف على كنوزنا الظاهرة والتى مازالت مخبأة تحت ترابها.. فنحن أمة ذات تاريخ وحضارات متعاقبة ولم ينتشر تعبير «مصر أم الدنيا».. من فراغ!
حفظ الله مصر.. وألهم أهلها الرشد والصواب