الكتابة عن أهلنا القاطنين فى الريف.. لم تعد ممتعة كما كانت، فلم يعد الفلاح المصرى كما وصفه المرحوم عبد الوهاب فى إحدى أغانيه «عايش متهنى ومرتاح.. وبيتمرمغ على أرض براح»!
فقد تبدلت أحواله.. وأدارت له الحكومة ظهرها، فقد أصبح يعانى من اختفاء المصدر الأساسى لمهنته الأصلية ونشاطه المتوارث.. وهو «الزراعة»، فقد جفت الترع والمصارف من مياه الرى، وتحول بعضها لمرعى للمواشى والأغنام والبعض الآخر لمقالب زبالة!
ولكن.. ولأن الأرض هى حياته وعرضه، فضلا عن تدينه الفطرى.. فلا يمكن أن يرتكب مثل هذه «الحرمانية» ويتركها «بورًا»!
ومن ثم لجأ إلى استخدام المياه الجوفية المتاحة، وبدأ فى استخراجها بـ «دق» مواسير بأعماق طويلة مع الاستعانة بماكينات الرى لرفعها بالقدر الكافى لرى أرضه.
ولكن المشكلة أن هذه المياه تتناقص سنويًا بسبب كثرة السحب منها وعدم وجود مصادر لتجديدها – بعد جفاف الترع والمصارف – وكانت النتيجة الطبيعية أن الفدان الواحد يستغرق حوالى عشرين ساعة لاكتمال ريه، بعد أن كان يستغرق حوالى عشر ساعات فقط، مع العلم أن تكلفة استخدام ماكينة الرى فى الساعة الواحدة 40 جنيها، والمعنى أن الماكينة شغالة والحسابة بتحسب!
وهذه مرة واحدة فما بالك أن أى محصول يحتاج لأكثر من 8 ريات حتى يكتمل نموه.
ومع العلم أيضا أن تكلفة رى المحصول هى أحد عناصره، فهناك البذور أو الشتلات، ثم الأيدى العاملة لزراعته وريه، ثم تكلفة الكيماوى للحماية، والمبيدات لمكافحة الحشرات وغيرها، وأخيرًا تكلفة الحصاد أو جمع ثمار المحصول.
زد على ذلك أن الفلاح كان يحصل على التقاوى من الجمعية الزراعية بالأسعار الرسمية، والآن يحصل عليها من «السوق» ومن خلال التجار بأسعار باهظة، وهكذا فى الكيماوى والمبيدات.
والنتيجة النهائية أن «الأرض» أصبحت تصرف أكثر من العائد منها، وهى ذات الأرض التى كان الفلاح ينتظر محصولها لزواج بناته أو بناء بيت جديد يتسع للأسرة بعد أن زاد عددها!
ولولا ستر الله وهجرة الأولاد الجبرية لبعض البلاد الأوروبية لسقط أغلب أهلنا فى الريف تحت خط الفقر.
والغريب أيضا أن الفلاح ذاته تغير.. فلم يعد لديه رغبة فى العمل الشاق الذى يميز الزراعة المصرية، وبدأ فى البحث عن الوظيفة الميرى.. وأيًا كانت طبيعتها.. والمهم أن تدر عليه دخلاً ثابتًا يتعايش منه هو وأولاده الذى أصبح يحرص على تعليمهم مهما كلّفه ذلك.
ولأن الحكومة «أغلقت» باب التوظيف فى الجهات التابعة لها، كما لا يمكن للقطاع الخاص استيعاب كل الخريجين سنويا فقد ارتفعت نسبة البطالة بين الشباب والفتيات فى الأرياف خاصة الحاصلين على شهادات عُليا، ومن ثم تكررت محاولات «الهجرة» إلى الخارج، رغم تكرار حالات الغرق فى مياه البحر المتوسط إلا من رحم ربى!
نعم.. لقد طال «التحديث» الفلاح المصرى، فأصبح يقطن فى منزل مجهز بجميع الأجهزة الكهربائية الحديثة، فضلا عن حمله أكثر من عدة تليفون محمول، بخلاف السيارة الخاصة للانتقال لواجب العزاء أو المشاركة فى الأفراح!
ولكن النتيجة العامة أن تفتتت الأرض الزراعية بسبب نظام «التوريث» المتوالى من جيل لآخر، وانخفض الدخل بسبب التوسع فى استخدام الأدوات الزراعية من حرث ورى وحصاد، مع تعليم الأبناء، ولولا ستر الله «لانكشفت» الكثير من العائلات الطيبة.
هذا عن الفلاح فى الريف المصــرى بصفة عامة، ولا أعتقد أن الأمر يختلف فى بحرى – حيث أنتمى – عن قبلى.
أما عن أحوال محافظتى – الشرقية – فأعتقد أننا لسنا محظوظين، فبعد المرحومين د. فؤاد محيى الدين، واللواء أمين ميتكيس لم يتول مسئولية المحافظة أحد آخر ترك بصمة يعتد بها.
وقد كتب العديد من زملائى الشراقوة عن الأحوال المزرية التى أصبحت عليها المحافظة، وبعد أن رأوها على الواقع فى زيارتهم لعائلتهم فى عيد الأضحى.
فقد كتب أحدهم عن سوء الطرق الداخلية بين مراكز ومدن وقرى المحافظة.. وكأنها لم يرها أو يمر عليها أحد من مسئولى المحافظة.
وكتب زميل آخر عن تلال القمامة التى تزاحم المارة فى ميادين وشوارع مدينة الزقازيق، وهى عاصمة المحافظة، فما بالك بالوضع فى المدن والقرى البعيدة نسبيًا عن عين المسئولين.
والأخطر ما كتبه زميلى سعيد صلاح عن محاولات دفع أهلنا لترك نشاطهم الأساسى فى الزراعة وتحويلهم للنشاط التجارى، ناهيك عما يسببه ذلك من تبوير للأرض الزراعية والتى ضاقت بما حملت من عمران جديد!
فمحافظ الشرقية الحالى – وهو من غير أبناء المحافظة – مشغول جدًا بسرعة الانتهاء من «سوبر ماركت» ضخم على الأرض الزراعية، وفى مكان يعد من أزحم مداخل المحافظة فضلا عن مجاورته لمقلب القمامة العامة لمدينة الزقازيق.
ألا يعلم السيد الدكتور المحافظ أن هذا «المول» الضخم الذى يستعجل إنشاءه سوف يتردد عليه الكثيرون بسياراتهم، فضلا عن سيارات النقل والتوزيع، مما يعنى «خنق» مدخل المحافظة الرئيسى للقادمين من القاهرة إلى المحافظة، هذا بخلاف تبوير الأرض الزراعية التى سيقام عليها المشروع؟
ألا يمكن أن يقام هذا المشروع فى صحراء بلبيس وهى شاسعة وتنعى عدم الاستفادة منها؟
ولكن.. يبدو أننا نحن الشراقوة غير محظوظين فيمن يتولون مسئولية القيادة فى محافظتنا والتى كانت توصف دائمًا بـ «أرض الخير»!