رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

مثلث ماسبيرو!

1321

بحثت كثيرًا عن رواية «يوم الثبات الإنفعالى» قبل أن تصلنى مع إهداء رقيق من الصديقة د. سهير المصادفة، لقد كنت شغوفًا بقراءتها بعد أن علمت أنها اتخذت من منطقة «مثلث ماسبيرو» مسرحًا لأحداثها، ونحن «دار المعارف» جزء أصيل من هذا المثلت ولنا معه والقائمين عليه.. وغيرهم حكاية لم تنتهى فصولها بعد!
فالرواية ترصد الواقع الأليم الذى كان يعيش فيه هذا الحى والقاطنون فيه،كما تكشف عن «التحولات» والتغيير السريع أحيانًا الذى لحق بهذا المثلث.. والذى كان يجمع بين تناقضات متعددة، صف من المبانى الفاخرة والحديثة يحتل واجهة المثلث على شاطئ النيل.. حيث فندق خمس نجوم ومبنى الإذاعة والتليفزيون ووزارة الخارجية.. ومجموعة من العمارات الحديثة تضم شققها سفارات أجنبية وشخصيات مهمة..هذه الواجهة «النظيفة» تخفى وراءها منطقة عشوائية بائسة أقيمت على أنقاض أثار ملكية لم يبق منها غير متحف المركبات ومسجد السلطان أبو العلا.
ويبدو أن عشوائية المكان قد انعكست على حياة وتصرفات أبطال الرواية وكما أرادت المؤلفة!.. فالرواية تتناول ما جرى لمجموعة من شباب المثلث اختارتهم منظمة مجهولة لقضاء بعض الوقت على جزيرة مهجورة بالنيل لتدريبهم على ما يسمى «بالثبات الانفعالى».. أى قدرة الإنسان على التحكم فى انفعالاته المختلفة،بحيث يتسم تصرفه بالثبات والهدوء فى كافة المواقف، وبحجة أنهم الصفوة المختارة لقيادة العالم مستقبلًا!، وكان التدريب عبارة عن دروس فى الطاعة المطلقة مع كبت المشاعر وتنحية الحواس الخمس، ليكون رد الفعل مدروسا ومتأنيا وغير متوقع.
وتكشف الرواية أن تلك المنظمة المجهولة ما هى إلا «وكلاء» لما يسمى «بالرأسمالية المتوحشة» التى ترغب فى الاستيلاء على أرض المثلث ونقل سكانه إلى مكان آخر.. لإقامة مجموعة من الفنادق والبنايات الإدارية الحديثة.. وهم يسارى علمانى وناشط سياسى وعضو مجلس شعب ومحام.
وهؤلاء تتسم تصرفاتهم وأحاديثهم بالازدواجية والتناقض كما هو حال المثلث وناسه أيضًا، فالأخ اليسارى الثورى ومعه الناشط السياسى يقيمان بقصور فارهة بالقاهرة الجديدة، بعد ما استفادوا من عملية «السمسرة» فى بيع أرض المثلث!، وكذلك عضو مجلس الشعب عن المنطقة وغيره من الشلة.. حيث تجدهم على شاشات التليفزيون يدافعون عن مواطنى الحى وحقهم فى حياة كريمة، مع أنهم فى حياتهم الخاصة يمارسون كل أنواع الفساد الأخلاقى والمالى والغريب أن «شباب المثلث» لم يختلفوا عنهم كثيرًا، حيث الازدواجية فى التصرفات واختلاف المظهر عن الجوهر، فمنهم «راوية» خريجة الإعلام التى تعمل معدة فى التليفزيون صباحًا، وهى أيضًا «شمس» المغنية فى بار خاص مجهول للعامة، وسوسن الفتاة اللعوب التى تحولت إلى مذيعة مشهورة، وصافى الراقصة المزواجة، والترزى الذى تدهورت أحواله بعد انتشار الملابس المستوردة، ولم ينج من ذلك سوى إثنين فقط أولهما الشيخ صلاح.. الرجل البركة، وماسبيرو ابن الترزى الذى ارتبط بعشق متبادل مع راوية وعاشا معًا فى حياة كاملة بدون زواج!ولكنه كان مثالًا للمواطن المصرى الذى يتحايل على ظروف الحياة وما يحدث بها من تغيرات سريعة ومختلفة، حيث عمل بكل الصنايع ولكن بخته كان ضايع فيها كلها، فقد ورث محل والده الترزى وغيره إلى محل فيديوهات ثم أجهزة كمبيوتر، إكسسوار التليفون المحمول.. وانتهى به المطاف للعمل على توك توك، كل ذلك مع هواية تربية الحمام.. وصناعة النكت والتكسب منها!
وقد لا أجيد استخدام أدوات النقد الأدبى، مثل وصف أحداث الرواية «كأنها خيال خصب يتقاطع مع الواقع» ولكننى استمتعت بقراءتها.. بل عشت أحداثها وكنت شغوفًا بمعرفة ماذا سيحدث لأبطالها وكأنهم أشخاص حقيقين يعيشون بيننا وهذه قدرة على السرد الممتع تجيدها الروائية والمترجمة والشاعرة.. د. سهير المصادفة.
أما حكايتنا مع مثلث ماسبيرو والتى لم تنته فصولها بعد، فقد تعامل معنا البعض ومنذ عام 2005، وكأننا جزء من عشوائيات المنطقة يجب إزالته وغاب عن هؤلاء أننا مؤسسة قومية ثقافية تعمل على نشر الثقافة الرفيعة ومنذ أكثر من مائة وعشرين عامًا!، فنحن أحد أعمدة وركائز قوة مصر الناعمة، وكنا ومازلنا وسوف نستمر فى أداء دورنا التنويرى من خلال ما ننتجه من ثقافة رفيعة شهد بها القاصى ..قبل الدانى!