صالون الرأي
عندما طالب الخولى بقواعد سوفيتية في مصر
By amrديسمبر 30, 2019, 15:48 م
1482
غطت سحابات يونيه 1967 السوداء الملونة بدماء آلاف الضحايا سماء مصر، واستقر الحزن فى بيوت أهلها الصابرين الطيبين، وسكن الألم قلوب كل المواطنين، وعصفت التساؤلات المحيرة بالعقول، كيف؟ ولماذا؟، ولم تكن هناك إجابات، ومن بين كل هذا اجترأ الكاتب الشيوعى لطفى الخولى، وكتب مطالبا بقواعد سوفيتية فى مصر.
فى ذلك الوقت كان الكاتب يرأس تحرير مجلة الطليعة التى تصدر عن مؤسسة الأهرام، وحاول المراقبون معرفة ما إذا كان هذا تعبيرًا عن رأى هذه المؤسسة؟ أم أن الأمر بالون اختبار أمر به من يملك القرار لمعرفة رد فعل الناس على مثل هذه المطالبة التى تصطدم بالرفض الشعبى للاحتلال، أى احتلال فرنسى أو إنجليزى أو إسرائيلى أو روسى؟
احتار المراقبون، فالكاتب قيادة شيوعية بارزة، كما أنه رئيس تحرير مجلة تصدر عن مؤسسة الأهرام فى إطار منهج رئيس تحرير الأهرام ورئيس مجلس إدارته محمد حسنين هيكل فى أن يكون الأهرام جبهة وطنية تضم كل القوى والتيارات السياسية.
ومثل هذه الجبهة التى ضمت التروتسكين واللينينيين الماركسيين والناصريين واليمينيين والإخوان المسلمين يمكن أن تشهد عددًا من الصراعات فيما بينها، ولكن هيكل القوى بشخصيته وبعلاقته مع كل الأطراف وصلته الوثيقة بالرئيس عبد الناصر، كان قادرًا دائمًا على إدارة هذه الصراعات دون الوصول بها إلى مرحلة الأزمة، كما كان قادرًا على إقامة التوازن فيما بينها، وكانت مجلة الطليعة من نصيب الشيوعيين، فى حين كانت مجلة الأهرام الاقتصادى التى رأس تحريرها فى البداية الدكتور بطرس غالى ثم أتى من بعده الدكتور لطفى عبد العظيم هى المُعبّرة عن قوى اليمين، ثم صدرت بعد ذلك مجلة السياسة الدولية التى رأس تحريرها الدكتور بطرس غالى لتعبر عن القوى اليمينية أيضا.
والملفت للنظر أن لطفى الخولى كتب هذا المقال كافتتاحية للمجلة عدد شهر أكتوبر 1967، أى قبل أن تجف دماء الضحايا على رمال سيناء.
كان لطفى الخولى يطرق الحديد وهو ساخن، فمصر الجريحة المهزومة بقسوة قد فقدت معظم سلاحها، كما انهارت معنويات جيشها، وتعيش أزمة اقتصادية خانقة، كما أن قيادتها تعيش حالة من التوجس الأمنى خشية رد الفعل بين صفوف القوات المسلحة، وفى ذاكرتهم نتائج هزيمة 1948 التى أدت إلى انقلاب 23 يوليو 1952.
وكانت حاجتها لاستعواض خسائرها من الأسلحة والمعدات والذخائر شديدة وعاجلة حتى تتمكن من بناء أول خط دفاعى غرب القناة لمواجهة احتمالات إسرائيلية للتقدم غربا، ولإعادة تسليح وبناء القوات المسلحة.
ولم يكن هناك من مصدر سوى الاتحاد السوفيتى، ولكن هذا المصدر ليس جمعية خيرية، أى أن الذى يسعى لعقد صفقات للحصول على احتياجاته من السلاح، عليه أن يفكر فى دفع الثمن، وهذا الثمن، هو ما طرحه لطفى الخولى، أى أنه كان يحدد للقيادة السياسية المصرية الطريق الذى يمكن أن تسير عليه للحصول على احتياجاتها العسكرية والاقتصادية، ويمهد الرأى العام للقبول بالأمر، لقد قال بفجور وبجاحة، نعم أنا حامل الرسالة الشديدة المرارة لكم، وليس لكم فى مصر من طريق سوى هذا.
لقد كان يطرح الحد الأقصى المطلوب من مصر سوفيتيا، ولكنه حدد الطريق وترك المساومات لعملية التفاوض الشاقة التى لابد أن تبدأ، وفورًا، وثارت موجات عاتية من الغضب المكتوم فلم يكن هناك من يملك الإرادة أو الوسائل التى تسمح له بما هو أكثر من ذلك، وكان الصمت هو العلاج، ولكن أى علاج؟!
فمصر التى ناضلت لطرد المحتلين الهكسوس والفرس واليونانيين والرومان والأتراك والفرنسيين والإنجليز على امتداد 30 قرنًا، أو يزيد.. عليها أن تناضل على الطريقة الماركسية اللينينية، طريقة الجماعات الشيوعية والماركسيين المصريين ومن سار على دربهم من اليساريين، مثل هذا النضال يعنى أن تطأ أقدام أجلاف سيبريا أرض مصر وكرامتها وأن يرتفع فى سماء مصر علم المطرقة والمنجل.
وقد أتى هذا المقال ولم تمض على نكبة يونيه 1967 إلا 120 يومًا، كان المواطنون فى مصر لا يزالون يبحثون عن أسرار هذه الهزيمة الساحقة لجيشهم ونظامهم السياسى والتى لم تواجه مصر مثلها أبدًا عبر تاريخها برغم تعدد الغزوات والغزاة، المهم أن الخولى ودون أى إحساس بالخجل أو العار، كتب مثل هذا المقال الذى ليس له نظير فى التاريخ المصرى.. نعم كانت هناك خيانات فى أوقات الصراع الحربى أو على السلطة، ولكن أحدًا لم يكتب مطالبا بإقامة قواعد عسكرية أجنبية فى مصر، ولا شك أنه كان على بينة من أن أحدا لن يسأله أو يساءله، وفعلا كانت حساباته صحيحة، فلم يتعرض لأى مساءلة ولم يحاكم بل لم يلق مصيرًا مثل مصير الوزير الوفدى أمين عثمان!!
ولنقرأ معًا هذا المقال.. كان عنوان المقال «نحو مراكز ثورية.. ومشتركة» وتحت هذا العنوان المضلل بألفاظه الكبيرة، طالب بقواعد عسكرية سوفيتية فى مصر، شراكة واختيارا.
وإنه لأمر يجافى المنطق والمفاهيم الوطنية، فكيف يتحقق الاشتراك بين قوات الاحتلال وأبناء الوطن المعاديين بطبيعتهم وتاريخهم لكل أنواع الاحتلال؟ ثم كيف تكون القاعدة العسكرية مركزا ثوريا، ولكنها البراعة فى جعل الخيانة أمرا يمكن قبوله، والخداع فى بيع الفكرة.
وإنه لأمر مدهش ومفجع أن يطالب كاتب المقال مواطنى مصر بالاشتراك مع السوفييت فى احتلال مصر!!
ولم يكن من المعقول أن يتوجه الخولى مباشرة نحو الهدف، فلابد من مقدمة طويلة تتضمن أحداثا وتاريخا، ومن هذه الأحداث يبنى مدخلا نحو الهدف، بدأ الكاتب مقاله بقوله «لم تكن حربا عادية فى شىء» ويقصد معركة يونيه 1967، و«نستطيع أن نمضى دون حدود فى سرد العديد من المظاهر غير العادية لهذه الحرب ذات الأيام الستة».
ويربط الكاتب بين الإمبريالية والصهيونية وبين ما جرى فى فيتنام وما جرى فى الشرق الأوسط، وانتقل بعد ذلك ليحدد ثلاث مناطق رئيسية على خريطة العالم كمناطق مرشحة للعمل العدوانى الإمبريالى هى أفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية ودول أوروبا الاشتراكية.
أما أوروبا الشرقية فقد أصبحت فى إطار سياسة التعايش السلمى منطقة محرمة للعب بالنار وبالتالى فقد غدت مؤجلة فى الخطة الاستراتيجية الحالية للقوى الإمبريالية.
ويواصل الخولى: «سيتبقى إذن بعد ذلك أمريكا اللاتينية وأفريقيا وما يجاورهما من دول الشرق الأوسط، وفى معظم هذه المناطق تتعاظم قوى التحرر الوطنى بآفاقها الاشتراكية مهددة المصالح الاحتكارية، وهذه القوى تلتقى مع قوى المعسكر الاشتراكى وفى مقدمتها الاتحاد السوفيتى.. ومن هنا كما يقول الخولى «كان طبيعيا أن تركز القوى الإمبريالية ضرباتها ضد هذه النظم بهدف تصفيتها وعزلها عن عملية التفاعل مع القوى الاشتراكية»، وإلى هنا أصبح الطريق ممهدًا أمام رئيس تحرير مجلة الطليعة للوصول إلى هدفه.
إلا أن المطالبة بقواعد سوفيتية فى مصر ليس أمرًا هينًا لذلك كان لابد من الإشارة إلى القواعد العسكرية الغربية المنتشرة حول العالم والتى تساعد على نجاح التكتيك الإمبريالى الجديد، فمثل هذه الإشارة تسمح له بعرض مطلبه، فما دام الغرب له قواعد فى المنطقة تساعده على العدوان، فمن المنطقى أن توجد قواعد سوفيتية فى المنطقة أيضا تساعده على صد العدوان الإمبريالى، هكذا ببساطة شديدة.
إذا كان للغرب قواعد تدعم نفوذه فلماذا لا يكون للمعسكر الشيوعى قواعد عسكرية للمشاركة فى النفوذ؟
لقد آن الأوان ليشارك أو ليقتسم السوفييت النفوذ مع الأمريكيين، وبصراحة شديدة كتب الخولى، «أمران يفتقدهما المعسكر الاشتراكى والاتحاد السوفييتى بالذات كحليف للقوى الوطنية التقدمية، حيث لا توجد لديه فى أى بقعة من العالم قواعد عسكرية».
وبصراحة أشد واصل عرض وجهة نظره قائلا: «ومن هنا يصبح واجبا ملحا على كل القوى الاشتراكية والقوى الوطنية التقدمية أن تسرع إلى مواجهة التكتيك العدوانى الجديد بتكتيك ثورى مضاد وفعال، وإلا كان البديل لذلك هو ضرب وتصفية القوى الوطنية التقدمية من ناحية وتمهيد أرضية ملائمة لانتشار الاتجاهات المغامرة داخل هذه القوى من ناحية أخرى، الأمر الذى قد يصفى فى النهاية سياسة التعايش السلمى ويدفع العالم إلى كارثة الحرب النووية»، هكذا ببساطة شديدة يتحول أمر الموافقة على قواعد سوفيتية فى مصر واجبا ملحا على كل القوى الاشتراكية والقوى الوطنية التقدمية.
نفهم أن يقول إنه واجب ملح بالنسبة للشيوعيين والماركسيين، فهذا شأنه وشأنهم أما أن يحول الأمر إلى واجب ملح لكل القوى الوطنية التقدمية والقوى الاشتراكية فهذا شىء يثير العجب.
ثم يدخل الكاتب فى نهاية المقال نحو هدفه بعد هذه السياحة التاريخية التى نسج منها مقدمة طويلة، فيطالب «ببناء مراكز دفاع ثورية مشتركة اختيارية فى المواقع الاستراتيجية من البلدان الوطنية التقدمية تعمل فيها قوات مشتركة من البلدان الاشتراكية والوطنية التقدمية، وذلك لمواجهة القوات العسكرية الاستعمارية المنتشرة فى كل مكان فى العالم، حيث تسيطر الإمبريالية الأمريكية وحدها على 37 قاعدة منها، إن مثل هذه المراكز التى تختلف جذريا عن القواعد العسكرية بسبب العامل الاختيارى فى تكوينها والمشاركة على أساس المساواة فى بنائها، وسياسة الدولة القائمة عليها، والحرية الكاملة لها فى إنهائها، من شأنها أن تكون درعا لا تستطيع دولة وطنية صغيرة فى حدود زمن قصير نسبيا أن تحصل عليه بمفردها».
وهكذا أصبح المواطن المصرى نتاج حضارة عشرات الآلاف من السنين من السذاجة والبلاهة ليصدق أن الاحتلال الروسى يختلف عن أى احتلال آخر، المحتلون الآخرون إمبرياليون عدوانيون، أما المحتل الروسى فليس إمبرياليا أو عدوانيا، ودروس الواقع أوضحت أنهم ملائكة لا قتلة، وأمامنا درس بولندا عام 1955، والمجر عام 1956، وتشيكوسلوفاكيا 1968 ثم أخيرًا أفغانستان لتؤكد للجميع أنهم من الملائكة، فى هذه الدول سحقت القوات السوفينية آمال المواطنين فى الحرية بقسوة لا مثيل لها.
والآن وبعد أن مضى هذا الوقت الطويل على مطالبة لطفى الخولى بإنشاء قواعد سوفيتية فى مصر لم نسمع أو نقرأ اعتذارًا عن هذه الخيانة المفجعة والمشينة وليس مفهوما هذا الصمت فى مواجهة مثل هذه الخيانة!!
ويذكر الجميع أن أمين عثمان وزير مالية الوفد قد دفع حياته ثمنا لمجرد جملة علّق بها على معاهدة 1936 بقوله «إنها مثل الزواج الكاثوليكى بين مصر وبريطانيا العظمى، مجرد تعليق قاده إلى حتفه، أما هذه المطالبة فمضت بدون ثمن.. لماذا؟ ليست هناك إجابة.
والأدهى أن وزارة الثقافة ومجلسها الأعلى قد منحته جائزة الدولة التقديرية، هل التقديرية عند هذه الوزارة هى المكافأة على خيانة الوطن؟
أم أنها تأكيد على سيطرة الشيوعيين واليساريين على هذه الوزارة المنكوبة؟
وبالرغم من تعدد الوزراء الذين تحملوا مسئولية هذه الوزارة، فإن أحدًا منهم لم يقدم على تصحيح الأمر، لماذا؟
إن الإجابة عندهم جميعا، ولكن التاريخ يسجل هذا الصمت المخزى، وهذا الانحناء أمام قوى اليسار، والأهم تراجع المشاعر والنبض الوطنى.