داخل ورشته الصغيرة يبدع في تشكيل قطعة خشبية مميزة.. أو في معمله يعمل بجد لإنتاج الجبنة الدمياطي ذات الطعم المميز.. أو في البحر يرمي شبكته منتظرًا رزقه من الأسماك.. أو داخل مصنعه يشكل أقراص المشبك وغيرها من الحلويات.. مشاهد متنوعة تلخص حياة أهل دمياط.
مشاهد عايشناها على أرض الواقع، وسجلناها فى رحلة قصيرة لتلك المدينة الساحلية التى
لا يعرف أهلها معنى الكسل، حيث اختار الدمايطة العمل كهدف وغاية ووسيلة لحياة أفضل.
في هذا الملف، رصدنا أبرز الصناعات والحرف التي ارتبطت بمحافظة دمياط بعيون مبدعيها وصانعيها، وتناولنا أبرز المشكلات التى يعانون منها، ورؤيتهم لحلها حتى تبقى دمياط كما عُرفت دائما “المحافظة التى
لا تعرف البطالة”.
ملف : روضة فؤاد
تصوير : خالد بسيوني
قلعــة الأثاث .. تخشـى الانهيـار
شارع طويل تتراص على جانبيه معارض ومحلات وورش أثات متنوعة.. هكذا بدا المشهد أمامي منذ وصولي دمياط، فلا تكاد منطقة هناك تخلو من معرض كبير أو ورشة صغيرة لأستورجي، أويمجي وغيرها من المهن والحرف المرتبطة بصناعة الأثاث.
منذ سنوات عديدة ارتبطت صناعة الأثاث بمحافظة دمياط، وربما كان التعبير الشهير “صباح الخير يا ورشة.. مساء الخير يا فرشة” تعبيرًا جامعًا لحياة المواطن الدمياطى، حيث يبدأ يومه بالذهاب للورشة التي يعمل فيها، وينتهى اليوم بالذهاب لبيته وسريره، والخلود إلى النوم، فلا يعرف الإجازة أو الراحة.
داخل واحد من أكبر معارض الأثاث في دمياط، تحدث “محمد شنن”، صاحب المعرض لـ”أكتوبر”، ولأنه يعمل فى هذا المجال منذ نحو أربعين عامًا، فقد كان حديثه كاشفًا لواقع الصناعة الأبرز فى دمياط، يقول: “بدأت في مجال صناعة الأثاث منذ أن كنت شابًا فى السابعة عشرة من عمرى، تعلمت أسرارها من الوالد الذى كان من كبار العاملين فى هذا المجال”، مضيفًا “إذا تحدثت عن الحال فى الوقت الحاضر، فللأسف المشاكل كثيرة وتعدد معارض الموبيليا لا يعنى ازدهار الصناعة أو كثرة المبيعات، فالمعارض معظمها خالية من الزبائن، ومع ذلك لا نستطيع غلقها، لأننا لا نعرف مهنة غيرها”.
داخل المعرض رأينا أشكالًا متعددة ومتنوعة لغرف الصالون والنوم والمعيشة، يقول “شنن”: “نحاول قدر المستطاع صنع منتجات متنوعة تناسب جميع الأذواق، ولكن المشكلة الرئيسية التى تواجهنا تتمثل فى أن المعروض كثير جدا، والطلب قليل جدًا، السبب فى ذلك هو أن الميكنة جعلت الإنتاج كثيرا، والشغل المودرن أصبح هو المطلوب هذه الأيام، وتنفيذه سهل، بعكس الأثاث “الستيل” وشغله صعب لأن معظمه يعتمد على العمل اليدوى”.
ما السبب الرئيسي في تراجع الصناعة؟ يجيب شنن: “أسباب متعددة أهمها ارتفاع أسعار الخامات، حيث زادت الأسعار لأكثر من الضعف، وكما يعلم الجميع، جميع أدوات صناعة الموبيليا مستوردة من خشب وأبلكاش وغيرها، وبالطبع يكون عليها جمارك وضرائب، لذا عندما تصل للتاجر يرتفع سعرها بشكل كبير، كما زادت أجور الصنايعية، كل هذه الأسباب أثرت على الصناعة، وجعلت القوة الشرائية تنخفض جدًا.
الصغار الأكثر تضررا
ويشير “شنن” فى حديثه إلى أن أصحاب الورش الصغيرة هم الفئات الأكثر تضررًا من تدهور حال الصناعة، “فى الماضى كان صاحب الورشة يستطيع من خلال رأس مال صغير-ولنقل على سبيل المثال 50 ألف جنيه- أن يصنع خمس غرف مختلفة، ويحقق مكسبًا جيدًا، أما الآن فنفس المبلغ لا يستطيع به شراء الخامات الخاصة بغرفتين، لذا قام العديد منهم بترك المهنة أو البحث عن عمل أخر”.
ترك الصنايعية والحرفيين الجيدين للمهنة يمثل خطورة كبيرة عليها كما يؤكد “شنن” “بعد سنوات قد لا نجد صنايعية أو حرفيين جيدين، لأنه لم يعد أحد يرغب فى تعليمها لابنه، بسبب الواقع السيئ للصناعة”.
خامات رديئة
“أيمن معروف” أحد أهم العاملين فى مجال صناعة الأثاث فى دمياط تحدث لـ”أكتوبر” ولم يختلف حديثه كثيرًا، يقول “منذ صغرى لم أعرف مهنة غيرها، حيث بدأت العمل وعمرى لم يتجاوز العشر سنوات، شهدت مراحل تطور الصناعة، حيث كانت فى البداية تعتمد بشكل كامل على (الهاند ميد) أو الشغل اليدوى، اليوم تطورت الصناعة كثيرًا، وأصبح الاعتماد الرئيسى على الميكنة، وهذا بالطبع له مميزات وعيوب، حيث يجعل الإنتاج كبيرا ومنتظما، ولكنه فى نفس الوقت يؤدى للتخلص من العمالة”.
مستقبل الصناعة
ويؤكد أيمن أن عدد الورش فى دمياط كان 640 ألف ورشة بالتحديد، ما بين نجار، وأويمجى، واستورجى، مشيرًا إلى أن أصحاب الورش الصغيرة هم الفئة التى تعانى بشكل أكبر، فهذه الفئة رأس مالها محدود، وهامش ربحها ضعيف، لذا، هى الأكثر تضررًا، أما أصحاب المعارض الكبيرة، فعلى الرغم من الأزمة الموجودة فلديهم حالة من الاستقرار حتى لو بسيط، تسمح لهم بالاستمرار، أما أصحاب الورش الصغيرة فقد لجأ معظمهم لتحويلها لكافيهات ومطاعم.
الصيد : أكثر مـن مجرد حرفـة
يبدأ يومه عقب صلاة الفجر، يستقل فلوكته الصغيرة، ويلقى شبكته فى البحيرة راضيًا بما يرزقه الله حتى وإن كان مكسبه فى اليوم هو بعض الأسماك التى يعود بها لأسرته.
تفاصيل مشهد يومى يعيشه “سمارة مصطفى” صياد من قرية شطا-إحدى قرى محافظة دمياط والتى تبعد عن المدينة خمسة كيلومترات، وهى من قرى الدلتا القديمة على ساحل البحر-، والتى لا تختلف كثيرًا عن حياة الآف الصيادين الآخرين فى المحافظة، حيث يعد الصيد أكثر من مجرد حرفة يمتهنها عدد كبير من أهالى دمياط، ويتكسبون منها، وإنما تمثل لهم الحياة بكاملها.
ويعتبر الصيد من أقدم الحرف التى يمارسها أهالى دمياط، نتيجة لموقع المحافظة الذى تحيطه المسطحات المائية من جميع الجهات.
يوم كامل قضيناه داخل منطقة “مثلث الديبة” –وهى الجزء الشمالى لحدود بحيرة المنزلة، وتبلغ مساحة هذا الجزء نحو 43 ألف فدان، وبها حوالى 27 ألف فدان مزارع سمكية تنتج أشهر أنواع الأسماك-، حيث استمعنا إلى عدد كبير من الصيادين، ورصدنا أبرز المشاكل التى يعانون منها، ورافقناهم فى رحلات الصيد.
يقول “سمارة مصطفى” “أنا صياد أبًا عن جد، لا أعرف مهنة غيرها، وهذه المركب هى كل ما أمتلكه فى الحياة، حيث تكلفت نحو 5 الآف جنيه، بالإضافة للماكينة أو الموتور الذى يقوم بتسييرها، ويحتاج لتموينه بالوقود يوميًا”.
معاناة يومية
بدأت جولتنا مع عم “سمارة” فى الصباح الباكر، وفى مركبه البسيط شاهدنا أول معاناة يواجهها الصيادون خلال رحلتهم اليومية لصيد الأسماك، حيث يضطرون للمرور من “ماسورة” للانتقال من منطقة إلى أخرى، يقول “عم سمارة” “كما ترون، هذه معاناة يومية تواجه الصيادين، والأخطر عندما يرتفع منسوب المياه، حيث تغمر المياه المركب، ويتعرض الصيادون لحوادث عديدة”.
يلقى “عم سمارة” بالشبكة منتظرًا ما يرزقه الله به ” الصيد ده صبر ورزق”، ويحدثنا عن طرق الصيد فيقول “هناك العديد من طرق الصيد، فهناك الشبكة، ولكل نوع سمك شبكة معينة، كما أن هناك بعض الصيادين يستخدمون أيديهم، حيث يرتدى الصياد بدلة غطس، وينزل البحيرة ليجمع ما يقدر عليه من الأسماك”.
أنواع السمك
وعن أشهر أنواع السمك الموجودة فى دمياط يقول “تختلف أنواع الأسماك على حسب المنطقة، ففى بحيرة المنزلة تكثر أسماك البلطى والقراميط، وهنا يوجد الشبار، والقاروص، والدنيس وغيرها من الأنواع”.
بعد عدة ساعات يقضيها “عم سمارة” داخل المركب، ثم يجمع ما رزقه الله به من أنواع مختلفة من الأسماك، ويقوم بوزن الأسماك ثم يبيعها إلى أحد التجار، حيث تنتشر المنافذ والثلاجات على طول الطريق “انتهى من العمل حوالى الساعة العاشرة صباحًا، وإجمالى ما أكسبه يوميًا لا يتجاوز 60 أو 70 جنيهًا، قد يزيد فى بعض الأحيان أو ينقص”، ويضيف “للأسف الوقود الذى يتم به تموين الموتور يستهلك معظم المكسب، وفى بعض الأحيان يكون مكسبى الوحيد هو السمك الذى أعود به للمنزل لكى تأكله الأسرة”.
ركود الأثاث
يستكمل “أحمد ناجح” الحديث قائلًا “أعمل فى مهنة الصيد منذ ثلاث سنوات فقط، وقبلها عملت نجار واستورجى، ونظرًا للركود الذى تعانيه صناعة الأثاث فى دمياط اتجهت للصيد، ويبدو أننى سأعود مرة أخرى للعمل على البر وترك البحر”، يضيف “البحر لم يعد أمانًا، فهناك المنصر أو المجرمين قاطعى الطرق الذين يقومون بسرقة مراكبنا، وإذا حاول الصياد التصدى لهم، قد يتعرض للقتل، وقد شهدت المنطقة مؤخرًا عدة حوادث من هذا النوع”، يضيف:”ليست هذه هى المشكلة الوحيدة التى تواجهنا” يتجمع حولنا العديد من الصيادين، يتحدثون بحزن وأسى واضح عن صعوبات وأزمات تواجههم، تحتاج لتدخل سريع من الدولة حتى لا تنهار صناعة الثروة السمكية فى دمياط.
يقول “حسن رجب” أحد كبار الصيادين فى شطا “نعانى من التلوث الرهيب فى مياه البحيرة من مخلفات المصانع والسموم، والتى تؤدى إلى نفوق الأسماك”.
الصيد الجائر
أسباب أخرى لنفوق الأسماك كما يقول “السيد زكريا رجب” -أحد كبار الصيادين- هو الصيد الجائر، حيث يلجأ بعض الصيادين معدومى الضمير إلى صيد الأسماك عن طريق الكهرباء، أو الجير الحى، أو المبيدات مما يؤدى بالطبع للمأساة الخاصة بنفوق الأسماك، والمشكلة الأكبر أنه لا يمكن لأحد أن يكتشف حقيقة السمك وما إذا كان نافقًا أم لا، حتى الصيادين أنفسهم قد يفشلون فى اكتشاف هذا الأمر، ويؤدى تناول هذا السمك النافق إلى الإصابة بالعديد من الأمراض أبرزها الفشل الكلوى.
إضافة إلى الصيد الجائر، ويطالب السيد زكريا بمنع ما يطلق عليه “حرفة الجر”، حيث يقوم بعض الصيادين بصيد السمك الصغير وتخصيصه للأسماك التى تعيش فى المزارع السمكية، مما يؤثر بالسلب على الثروة السمكية.
أزمات أخرى
الأزمات والمشاكل لا يعانى منها فقط الصياد الحر الذى يمتلك مركبًا صغيرًا يعمل عليه، ويعتمد على الرزق يومًا بيوم، فأصحاب المزارع السمكية يواجهون أزمات أخرى عدّدوها فى حديثهم معنا، يقول “محمود مرعى” “هذه المنطقة مقسمة إلى مزارع، قمنا بتأجيرها من هيئة الثروة السمكية منذ سنوات عديدة، وقد ارتفع إيجار الفدان من 500 جنيه إلى 3000 جنيه، ولم تقتصر الزيادة على الإيجار فقط، فارتفاع اسعار الوقود زاد بنسبة كبيرة، وإذا أضفنا عليها نفوق الأسماك، كل هذه الأسباب تؤثر سلبيًا على عملنا، أضف إلى ذلك أن هيئة التروة السمكية لا تراعى الظروف التى نتعرض لها، وإذا تأخرنا فى الدفع، يمكن أن يكون مصيرنا السجن فى النهاية”، ويضيف:”يجب أن تنظر الدولة باهتمام أكبر إلى هذه القضية، فالكثير من الصيادين وأصحاب المزارع السمكية يجلسون فى بيوتهم بلا عمل”.
https://www.youtube.com/watch?v=toxgmEKdPcE&feature=youtu.be&fbclid=IwAR385dnktp-sg23-7rEU76NYAdlmLxJowTZ2jeJorsQSAEAVizDQ0KUzrck
المشبـك.. حلـوى أصبحت ماركة مسجلة
“لا يمكن أن أكون في دمياط دون أن أذهب لأحد محال الحلوى هنا لأشتري المشبك، وأستمتع بطعمه المميز، كما أحرص على العودة بأقراص المشبك كهدية غالية لأصدقائي، فشهرة المشبك الدمياطي يعرفها الجميع، وطعمه
لا يختلف عليه أحد”.
هكذا تحدثت “هبة محمود” -مدرسة قاهرية- لـ”أكتوبر” من داخل أحد محلات الحلوى الشهيرة، تضيف: “على الرغم من وجود محلات الحلوى في كافة المحافظات،
إلا أنها ليست في مستوى المشبك الدمياطي، هناك سر بالتأكيد تنفرد به هذه المحافظة يعطيه هذا المذاق المميز”.
منذ وصولنا لمحافظة دمياط، كانت محلات الحلويات وبخاصة المشبك منتشرة في كل مكان، فما بين محلات كبيرة ذات أسماء شهيرة معروفة منذ عشرات السنوات، ومحلات صغيرة تقتصر على تقديم نوع أو اثنين من الحلوى، لازالت دمياط تحتفظ بالصدارة في إنتاج الحلوى وبخاصة المشبك.
جولتنا لم تقتصر على محلات المشبك فقط، حيث شاهدنا مراحل صناعة المشبك منذ البداية في أحد المعامل الخاصة بمحلات المشبك الشهيرة في دمياط، حيث يعمل العمال باجتهاد شديد في كل مرحلة، حتى يصل للناس في شكله النهائي.
مهنة متوارثة
داخل المعمل تحدث معنا “السيد حسن شلبي” صاحب أحد محلات المشبك الشهيرة فى دمياط، يقول “أعمل في هذه المهنة منذ سنوات، وقد توارثتها عن والدى رحمه الله الذى بدأ فيها منذ أكثر من 30 عامًا، وقد عشق هذه المهنة منذ أن كان عاملًا حتى نجح في أن يكون لديه مصنعه الخاصة بصناعة المشبك.
يتحدث “السيد حسن” بحماس شديد عن صناعة المشبك فى دمياط، “تعتبر الحلويات ومن ضمنها المشبك ماركة مسجلة، حيث تنتشر محلات الحلويات فى مراكز ومدن وقرى المحافظة، ولا يمكن أن يأتي زائر لدمياط دون أن يبحث عن الحلويات، وأيضًا منتجات الألبان مثل الجبن الدمياطي الشهير والزبادي وغيرها.
على الرغم من تعدد أنواع الحلوى التى تتميز بها دمياط، إلا أن المشبك يبقى له منزلة خاصة يعرفها كل أهل دمياط، يقول: “تخصص والدى فى صناعة المشبك، على الرغم من أن هامش ربحه ليس كبيرًا بالمقارنة بباقى الحلوى الأخرى التى تعد أسهل فى صناعتها، ولكنه قرر الاقتصار على صنع المشبك والتميز فيه.
صناعة صعبة
“هل صناعة المشبك سهلة، ويمكن عملها فى المنزل مثل باقى الحلويات الأخرى؟”، يجيب “السيد حسن”، “لا يمكن أن نقول إنها صناعة صعبة، ومع ذلك يكاد يكون من المستحيل عملها فى المنزل، لأنها تمر بمراحل متعددة، وتحتاج لوقت كبير”، مضيفًا: “هي صناعة معروفة للكل، مكوناتها وطريقتها، حيث تتكون من دقيق، جلوكوز، عسل، سكر، زيت، خميرة، ولكن ما يميز مكان عن آخر هو بعض التكات أو الخصائص التى استخلصها العامل طوال مسيرته فى المهنة، وتظهر فى المنتج النهائى، لذلك، فالعامل دائمًا رقم واحد فى معادلة النجاح، بالطبع اختيار الخامات الجيدة من العوامل المهمة أيضًا، ولكن ما فائدة أن يكون هناك زيت أو دقيق من النوع الجيد، ولكن العامل نفسه لا يجيد صنعته.
الحديث عن أهمية العامل الجيد دفعنى لسؤاله عن صفات العامل الذى يجيد صنعته أو “الصنايعى” كما يطلق عليه، يقول “لا يوجد صناعة أيا كان نوعها، إلا ويجب على العاملين بها أن يبذلوا مجهودًا كبيرًا حتى يصل لدرجة الإبداع فى مهنته، لا تختلف نوعية الصناعة أو المهنة إذا كانت أثاثا أو مشبكا أو جبنة.
ولكى يكون العامل متمكنًا فى صناعة المشبك، يحتاج من 6 شهور لسنة حتى يمكن أن نقول أن أصبح “صنايعيا” في مهنته، والأمر فى النهاية يرجع لاستعداده النفسي والبدني.
جميع الخطوات
بعد أن تحدثنا عن الصناعة بشكل عام، اصطحبنا “السيد حسن” لنشاهد على الطبيعة مراحل صناعة المشبك، حيث تواجدنا منذ الصباح الباكر لمشاهدة جميع الخطوات الخاصة بصناعة المشبك، يقول “فى البداية نأخذ العجين- بعد تخميره على الأقل لمدة 12 ساعة- ويتم تجهيزه مضافًا إليه اللوازم الضرورية، ثم نضع العجين فى وعاء كبير يسمى “الدست”-وهى عبارة عن أوان من الاستانلس أو النحاس، ثم نأخذ كمية مناسبة من العجين، ونضعها فى “الجوزة” –وهى عبارة عن وعاء مخروطى يجعل العجين عبارة عن خيط رفيع، بعدها يقوم العامل برسم قرص المشبك حتى يتماسك، ويوضع فى الزيت فى إطارات من المعدن على مقاس القرص، ثم ينتقل لزيت آخر أكبر فى إناء أوسع تكون درجة غليانه أقوى، بعد ذلك نترك قرص المشبك حتى يُصفى ونضعه فى العسل، وبعد أن يشرب الجلوكوز والعسل، نضعه فى مكان أوسع لكى يتم تهويته على ستاندات، ثم يُفرط ويدخل على الميزان، ويوزن على حسب الطلبية المطلوبة، وفى المرحلة الأخيرة يُغلف على حسب طلب الزبون أو التاجر، فهناك تغليف على شكل علب، أو ورق فقط أو ورق وسوليفان.
ربح بسيط
بعد أن شاهدنا مراحل صناعة المشبك، استكملنا حديثنا مع “السيد حسن”، يقول “يختلف الوقت الذى نأخذه فى الخطوات على حسب الكمية المطلوب إنتاجها”.
“هل صناعة المشبك مهنة مربحة؟ كان هذا سؤالي التالي لـ”السيد حسن” الذى يقول “قياسًا على الحلويات الأخرى، يمكن أن نقول إن المشبك ربحه بسيط، فالحلويات الأخرى مثل الهريسة والبسبوسة –على سبيل المثال- سهلة في صناعتها، ولا تحتاج للعديد من العمال، فهناك عامل يقلب العجينة ويفردها فى الصاج، وآخر يتابعها في الفرن، أما صناعة المشبك فتختلف، حيث يحتاج مجهودا في صناعته، ويعتمد على عدد كبير من العمال، فأنا مثلا يعمل معي عشرة عمال، ولكل منهم اختصاص محدد، فهناك عامل مسئول عن العجين، وآخر يقوم بتسويته في الزيت، عامل يقوم بتفريط المشبك في الهواء، وآخر مسئول عن وزن الطلبية، وعامل يقوم باللف والتغليف.
الصيف المرهق
هل تختلف طبيعة العمل سواء كانت في الصيف أو في الشتاء؟ يجيب “السيد حسن”: “في الصيف العمل يكون أكثر إجهادًا، فالحلويات تعتمد فى تصنيعها على وجود الطاقة “النار” من أجل تسخين الزيت والعسل، وفى الصيف مع ارتفاع درجة حرارة الجو، وخصوصًا فى شهري يوليو وأغسطس، العامل يكون مجهدا ومتعبا، لأنه يعاني من حرارة الشغل مع حرارة الجو، لذا فى الصيف نعمل على تهوية المكان لأقصى درجة، ونفتح كل الشبابيك، ويتم تشغيل المراوح، حيث نعمل على توفير كل سبل الراحة للعامل حتى تكون نفسيته أفضل.
ويشير “السيد حسن” إلى أن صناعة المشبك مهنة موسمية، ففي شهر رمضان –على سبيل المثال- لا نعمل نهائيًا أول ثلاثة أسابيع، لأن الناس تفضل شراء الكنافة والقطايف، ثم نعود للعمل في الأسبوع الأخير، وفى أوقات أخرى يكون الإقبال على الحلويات كبيرا جدًا، وبشكل عام نحن تعودنا على هذا الأمر، ونعلم أن الإقبال على الحلويات لم يكن مثل الماضي، نتيجة الحالة الاقتصادية وارتفاع الأسعار، مما يجعل الإقبال على الحلوى أمرا ثانويا بالنسبة لكثير من الناس.
يُعرف المشبك بشكله الدائري، فهل يمكن تصنيعه بأشكال أخرى؟ يقول “المشبك شكله دائري دائمًا، ما يختلف هو قطر القرص الذى قد يزيد أو ينقص على حسب الطلب، فالقرص الكبير قطره 17 سم، وهناك قرص أصغر قطره 15 سم، وهناك أيضًا قرص صغير قطره 12 سم، وغالبا ما نصنعه بكمية صغيرة، فالإقبال يكون أكبر على الأقراص الأكبر.
الجبن الدمياطى شهرة عالمية والسر في “الصنعة”
من بين عشرات الأنواع من الجبن سواء المصنعة محليًا أو المستوردة، يبقى للجبن الدمياطي طعما ونكهة ومذاقا مختلف، وعلى الرغم من أن صناعة الجبنة الدمياطي مكوناتها معروفة، وخطوات صناعتها ليست صعبة، إلا أن الجبن الدمياطي تنفرد بـ”سر الصنعة” التى تعطيها هذه الشهرة ليس داخل مصر فقط، بل فى الخارج أيضًا.
ومثلما تشتهر دمياط بصناعة الأثاث، والحلويات، والصيد، فإن الجبنة الدمياطي تعد جزءًا لا يتجزأ من منظومة الصناعة داخل تلك المحافظة التى لا تعرف إلا العمل، وكما تنتشر محلات الحلويات في المحافظة، فإن الجبن الدمياطي بأنواعها المختلفة -والتي ستجدها في كل مكان- شاهدة على تميز أهل دمياط.
لكي نعرف أكثر عن سر الصنعة، وقصة الجبن الدمياطي، وسبب تميز أهل دمياط فيها، كان لابد من البحث عن المتميزين في هذه الصناعة، الذين لايزالون يحملون فوق أعناقهم الحفاظ على هذه الصناعة.
عالم خاص
داخل معمله الذي يتجاوز فكرة أنه صاحبه أو المسئول عنه ليكون بمثابة عالمه الخاص يعمل “مسعد محمود الصباغ” بكل تركيز ونشاط، يتأكد من وصول اللبن الذي سيستخدمه في عمله هذا اليوم، يشرف على العمال في جميع خطوات ومراحل صناعة الجبن، يتأكد من توفر جميع الخامات اللازمة في الصناعة، لا يترك معمله إلا في نهاية اليوم بعد الاطمئنان على سير العمل.
تفاصيل ومشاهد تتكرر يوميًا، فلا يعرف “عم مسعد” كما يطلق عليه معنى الراحة أو الإجازة، لا يختلف الأمر إذا كان صيفًا أو شتاءً، يوم عمل أو إجازة رسمية، فحياته داخل معمله ترسم صورة واضحة لعشق مهنة أو صناعة ارتبط بها منذ أن وعيت عينيه على الحياة، يقول لـ”أكتوبر” “عمرى 67 عامًا، وأعمل فى هذه المهنة أبا عن جد، حيث بدأ جدي في العمل في صناعة الجبن، وعلمها لوالدي الذى أتقن الصنعة، وحرص على تعليمي إياها، وتلقيني أسرارها منذ أن كنت في الحادية عشرة من عمري، فأنا لا أعرف مهنة غيرها طوال حياتي”.
علامة التميز
ما بين المنفحة والبراميل والصفائح يتابع “عم مسعد” خطوات صناعة الجبنة الدمياطي، يقول “شهرة الجبن الدمياطى بأنواعها يعرفها الجميع، فبمجرد أن يعرف الزبون في أي مكان فى مصر أن هذه جبنة دمياطي، يتأكد على الفور أنها تحمل علامة التميز والجودة، لذ نجد دائمًا سعرها أغلى قليلًا”.
يبدأ “عم مسعد يومه” السادسة صباحًا مع استلام اللبن الذي سيعمل به خلال اليوم سواء كان بقري أو جاموسي “يعتبر اللبن المكون الرئيسي في صناعة الجبن، وبعد استلامه نقوم بتحليله للتأكد من جودته، لأن وجود أى مشكلة فى اللبن يمكن أن يفسد طعم الجبنة أو قوامها، بعدها نقوم بتصفيته، ثم يدخل على التانك أو “الآذان” كما نطلق عليه ليتم تسخينه على درجة حرارة معينة، ثم تبريده على درجة حرارة محددة”.
مراحل الصناعة
يستكمل “عم مسعد” حديثه بينما نشاهد هذه الخطوات أمام أعيننا “بعد ذلك نضع الملح، فكل كيلو لبن له نسبة ملح محددة، ونضعها فى البراميل، ثم تتم إضافة المنفحة وهى مادة تساعد على تجبن الجبنة، بعدها نفرد الجبنة على مكان مخصص ونتركها لليوم التالي، تأتى بعد ذلك مرحلة تقطيع الجبنة ووضعها فى الصفائح، ثم بيعها لتاجر أو المستهلك، هذا بالنسبة للجبنة العادية.
وقال : أما بالنسبة للجبنة البراميلي أو الجبنة الرومي فتختلف الخطوات، ونسبة الملح بالطبع، فالجبنة البراميلى نتركها في الثلاجة من 40 إلى 60 يوما، حتى تكون بالطعم المميز الذى تعودنا عليه، أما الجبنة الرومي فيتم تصنيعها من لبن بقري فقط -عكس أنواع الجبن الأخرى التى يمكن تصنيعها بخليط من اللبن البقرى والجاموسى- بالإضافة إلى منفحة ومادة دهنية ولون يسمى ” الناتو” وهو مصرح به، وتعد أهم مرحلة فى تصنيع الجبنة الرومي هي المنشر، حيث يتم وضع أقراص الجبنة على أرفف خشبية، ثم تمليح تلك الأقراص للتخلص من كل المياه والرطوبة الموجودة فى قرص الجبنة، فتصبح جافة، وتستمر هذه الفترة نحو 80 يومًا”.
عمل مستمر
يستمر “عم مسعد” في العمل يوميًا متابعًا لجميع الخطوات “أنتهى من العمل في نحو الخامسة أو السادسة مساء، وتختلف طبيعة العمل على حسب الطلبات، لكن بشكل عام نحن نعمل يوميًا، لا نعرف الإجازات أو الراحة، لذا، فمهنتنا ليست سهلة على الإطلاق، ولابد أن يتسم العاملون فيها بالاجتهاد والصبر والقدرة على التحمل.
ما الذى يميز الجبنة الدمياطى تحديدا؟ كان هذا سؤالي الأهم لـ”عم مسعد” الذى يجيب سريعًا “اللبن هو أهم شىء في مهنتنا، فطعم الجبنة المميز يتوقف أول شىء على جودة اللبن سواء كان بقرى أو جاموسي، لذا، منذ بدأت هذه المهنة، أحرص على التعامل مع موزعين أعرفهم جيدًا، وأثق في جودة اللبن الذى يقدمونه إليّ”.