تنتهي اليوم الأحد المدة المحددة للمفاوضات (أسبوعان) وفق قرارات الاجتماع المصغَّر للاتحاد الإفريقي، بحضور ممثلي الدول والمراقبين وبرعاية الاتحاد، للتباحث حول اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة؛ وواصلت إثيوبيا خلال المفاوضات تعنتها معتقدة أنها بذلك النهج تستطيع أن تنفذ الأجندة التي رُسِمت لها لاستهلاك الوقت وتنفيذ ما تصبوا إليه بشكل أحادي، وهو ما لم تقبله مصر والسودان، فمصر لن تقبل المساس بحصتها المائية في ظل ما تعانيه من فقر مائي، كما أن استمرار إثيوبيا في المسار الذي تنتهجه سوف يهدد استقرار المنطقة.
تمثلت أهم معالم المسار الإثيوبى فى رفض الالتزام بإجراءات مجابهة فترات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات شحيحة الإيراد خلال كل من الملء والتشغيل، بالإضافة إلى قواعد إعادة الملء بعد فترات الجفاف الممتد، وقواعد التشغيل السنوى لسد النهضة، والمشروعات المستقبلية على النيل الأزرق والمعالجة القانونية لها، والاتفاقيات القائمة وعدم المساس بها، وآلية فض النزاعات، والتى رفضت إثيوبيا تضمينها فى الاتفاق مع تمسكها بالانفراد بتغيير قواعد التشغيل أحاديًا وبإرادة منفردة، وتبقى هذه النقاط محل خلاف حتى كتابة هذه السطور.
(1)
مع تعثر المفاوضات، ينكشف حجم المؤامرة التى تُحاك ضد الدولة المصرية، فإثيوبيا الباحثة عن التنمية بزعم إنها تحتاج إلى الطاقة، من خلال إنشائها السدود كانت قادرة على إنتاج الطاقة التى تحتاج إليها دون الإضرار بالغير، على سبيل المثال، تبلغ تكلفة إنشاء سد النهضة 4.7 مليار دولار لإنتاج 6 آلاف ميجا وات، وتبلغ مدة المشروع خلال 8 سنوات، فى حين أن إنشاء محطتين لإنتاج الكهرباء مثل محطات سيمنز التى أنشأتها مصر يتكلف 4.5 مليار دولار وينتج 9.6 ألف ميجا وات ويمكن إنشاؤها خلال 3 سنوات.
كما أن إثيوبيا يسقط عليها سنويًا حوالى 936 مليار متر مكعب، بحسب أحدث تقارير لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، كما يبلغ المتاح منها حوالى 110 مليارات متر مكعب فى السنة، ونجد أن مياه الأنهار الإثيوبية الخالصة ــ خلاف الأنهار الدولية ــ تبلغ نحو 9 مليارات متر مكعب علاوة على 20 مليار متر مكعب من المياه الجوفية المتجددة ومياه الأمطار، ولو استغلت إثيوبيا مياهها الداخلية غير الدولية لاستطاعت أن تزرع أكثر من 25 مليون فدان بمحصولين سنويًا، هذا بالإضافة إلى ما يمكن زراعته على مياه الأمطار فقط فى بعض المناطق والذى يمكن أن يصل إلى 20 مليون فدان أخرى بمحصول واحد، الأمر لا يحتاج سوى تخطيط شامل ومتوازن.
كما يبلغ حجم المياه الزرقاء فى إثيوبيا، والمتمثل فى التصرف الطبيعى للأنهار التى تنبع من إثيوبيا وتجرى منها إلى خارج حدودها “قبل بناء السدود الإثيوبية” إلى 100 مليار متر مكعب سنويًا، والكمية المتبقية التى تصل إلى 850 مليار متر مكعب سنويًا من المياه الخضراء، تستخدم بالفعل داخل الأراضى الإثيوبية فى الزراعات المطرية والمراعى الطبيعية والغابات، وبالتالى يمكن لمفهوم المياه الزرقاء والخضراء، والحديث عن مياه الحوض وليس مياه النهر أن يحسم الكثير من الخلافات إذا صدقت نوايا التعاون بحيث يسمح بتصريف المياه الزرقاء إلى دول المصب، لتستخدم فى الاستخدامات الاستهلاكية المطلوبة كالزراعة المروية والاستخدامات المنزلية والصناعية.
لكن الهدف أكبر من إنتاج الكهرباء وتصديرها أو التنمية، ونكشف فى السطور القادمة عن حجم التحركات ضد الدولة المصرية على المحور الجنوبى الشرقي.
فى الوقت الذى تحركت فيه إسرائيل مبكرًا على منابع النيل ومنذ عام 1956، وهى لا تتوقف عن العمل من أجل مياه النيل، مشروعات عديدة طرحتها من قبل وتعرضت لها فى العدد الماضى بالإضافة إلى مشروع “مشروع اليشع كالي” والذى طُرح عام 1974.
تحركت أيضًا تركيا للضغط على مصر، خاصة عقب ثورة 30 يونيو 2013، كما تحركت الدوحة على المحور ذاته قبل 30 يونيو2013، فقد قام ديسالين رئيس الوزراء الإثيوبى بزيارة الدوحة فى ديسمبر 2012 بحثًا عن تمويل للسد وإعادة العلاقات المقطوعة منذ 2008 (كانت إثيوبيا قد قطعت علاقتها مع قطر فى إبريل 2008 عقب إتهام الأولى للثانية بدعمها للإرهاب فى الصومال ودول القرن الإفريقي، واصفة قطر بأنها واحدة من أشد داعمى الإرهاب والتطرف فى منطقتنا، واتهمت أديس أبابا الدوحة فى ذلك الوقت بدعم العناصر الإرهابية فى إريتريا والصومال وجيبوتى وكذا المجموعات المسلحة فى إثيوبيا، ولكن سرعان ما توافقت المصالح.)
زار أمير قطر العاصمة الإثيوبية فى إبريل 2013، وتم منح إثيوبيا 2 مليار دولار كوديعة، لتتضاعف حجم الودائع القطرية لدى إثيوبيا فى الفترة من إبريل 2013 وحتى ديسمبر 2014 لتصل إلى 6 مليار دولار؛ ودائمًا ما يبدأ التحرك اقتصاديًا ليتطور إلى الجانب السياسى والعسكرى والأمني، من أجل تهديد الدولة المصرية.
(2)
كما واصلت إسرائيل تقوية علاقاتها مع “أديس أبابا” التى عانت من الفتور بعض الوقت ثم سرعان ما قويت، بل كانت إثيوبيا من أكثر الدول الداعمة لحصول إسرائيل على صفة مراقب فى الاتحاد الإفريقي.
عقب الثورة الشعبية فى 30 يونيو 2013 سعت إثيوبيا لعزل مصر عن محيطها الإفريقى فى ظل رئاستها للاتحاد فى ذلك الوقت، وبالفعل تم تعليق عضوية مصر فى الاتحاد، حتى استطاعت الدبلوماسية المصرية أن تكشف لدول القارة تفاصيل الثورة الشعبية التى قام بها المصريون ضد الجماعة الفاشية.
سارعت إثيوبيا ومعاونيها إلى بناء سد النهضة، لتهديد أمن مصر المائى وضع الدولة المصرية أمام واقعًا لا يتوافق مع الشرعية الدولية والاتفاقيات والمواثيق والمعاهدات الدولية، كان ذلك بإيعاز من العواصم الثلاث، أنقرة وتل أبيب والدوحة، وبمباركة القوى الدولية.
ولأن إسرائيل تعتبر العلاقة بينها وبين إثيوبيا علاقة تاريخية من منطلق العلاقة بين ملكة سبأ ونبى الله سليمان عليه السلام، فهى تسعى دائمًا لتقوية تلك العلاقة كما أنها تتخذها كإحدى أرواق الضغط القوية على الدولة المصرية، ويعتبرها المُخًطٍط الإسرائيلى بمثابة “رأس الحربة” التى تستطيع تل أبيب من خلالها تهديد مصر أو الضغط عليها.
زار “ملس زيناوي” رئيس الوزراء الإثيوبي، تل أبيب فى عام 2003، وتم توقيع عدد من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، كما زار ديسالين تل أبيب عام 2017، سبقتها زيارة قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى يوليو 2016 وخلال كلمة له فى البرلمان الإثيوبى قال: “سندعم إثيوبيا بالتكنولوجيا لتستفيد من مواردها المائية”
كما أعلنت نائبة المدير العام للشؤون الإفريقية فى وزارة الخارجية الإسرائيلية آينات شيلين، فى ديسمبر عام 2019، عن استعداد تل أبيب “لتقاسم تجربتها الواسعة فى إدارة المياه” مع أديس أبابا.
وبحسب مصادر خاصة، فإن آلية التفاوض الإثيوبية قام بوضع أسسها فريق تفاوضى فى الخارجية الإسرائيلية، منهم وزير الخارجية الأسبق شاؤول موفاز، وديفيد كمحى وهو الوكيل السابق فى المخابرات الإسرائيلية “الموساد”.
كما قامت الحكومة الإسرائيلية بافتتاح “اكتتاب شعبي”، فى البنك المركزى الإسرائيلى لجمع التبرعات الموجهة إلى السندات والأذون لخدمة مشروع “سد النهضة”، وصولًا إلى قيام الحكومة الإثيوبية باستقدام العديد من الخبراء والفنيين الإسرائيليين للعمل فى مراحل التجريب والتنفيذ طوال المرحلة الثانية.
كما أن حيدر يوسف وكيل وزارة الرى السودانية الأسبق كشف عن وجود طابق كامل فى وزارة المياه الإثيوبية مخصص لخبراء المياه الإسرائيليين.
كما تشارك إسرائيل فى أكثر من 100 مشروع اقتصادى فى إثيوبيا، بمختلف القطاعات (الصحة، التعليم، الزراعة، الري، الصناعة، الزراعة، مكافحة الإرهاب، الأمن، التكنولوجيا، علوم الفضاء)
وقد استحوذت شركة (Israel Electric Corporation) الإسرائيلية على عقود إدارة محطات الكهرباء فى إثيوبيا بما فيها محطة “سد النهضة”؛ كما أن إسرائيل لديها 240 مستثمر يعملون فى إثيوبيا، 40% منهم فى قطاع الزراعة والرى والثروة الحيوانية، حيث تقدمت 200 شركة إسرائيلية فى عام 2014 للحصول على ترخيص للعمل فى إثيوبيا.
(3)
لم تكن إسرائيل وحدها اللاعب الوحيد فى المحور الاستراتيجى الجنوبى الشرقي، بل حاولت تركيا الدخول إلى المضمار فى عام 2013 للضغط على الدولة المصرية، فقد وقعت تركيا مع إثيوبيا اتفاقية دفاع مشترك فى مايو من نفس العام وأقرها البرلمان الإثيوبى فى مارس 2015، وبحسب البيان الختامى للاتفاقية فإن تركيا تنقل خبرتها فى بناء السدود وتساعد فى الدفاع عن السد ضد أى تهديد.
بالإضافة إلى الاتفاق على توريد أسلحة تركية إلى إثيوبيا بقيمة مليار دولار والمشاركة فى تدريب الجيش الإثيوبى والقوات الأمنية.
كما تعهدت تركيا بإنشاء منظومة حماية للسد بواسطة رادارات تركية للإنذار المبكر وصواريخ تركية إسرائيلية مشتركة الصنع، وضخت أنقرة استثمارات تزيد عن 3 مليار دولار فى إثيوبيا من خلال 350 شركة يعمل بها 500 ألف إثيوبي؛ كما تحاول أنقرة إحياء ما تسمى باتفاقية الرمح الثلاثى التى وقعتها إسرائيل مع إثيوبيا فى عام 1956، وكان تستهدف السيطرة على المياه الإقليمية وفرض نفوذ فى منطقة الشرق من جهة والقرن الإفريقى من جهة أخرى.
(4)
ومع نجاح مصر فى استعادة مكانتها الدولية، ومواجهتها مخطط إسقاط الدولة، ونجاحها فى الحرب على الإرهاب، حاولت قوى الشر استغلال الأزمة سواء على المحور الاستراتيجى الغربى (ليبيا) أو المحور الاستراتيجى الجنوب شرقى (إثيوبيا) لبث حالة من عدم الثقة فى إدارة الدولة المصرية للأزمة والتحديات التى تواجه الأمن القومي، الأمر الذى يتنافى مع الواقع، فقد كانت الدولة المصرية أكثر استشرافًا للمشهد وقراءة له منذ البداية.
واستعدادًا لمواجهة تلك التهديدات، وفق ثوابت راسخة ترتكز على عدم التدخل فى الشؤون الداخلية للدول والحفاظ على أمنها واستقراها ودعم التنمية فى كافة دول المنطقة، دون أن تفرط مصر فى حقوقها أو أن تتنازل عن حق من حقوقها الثابتة وفق المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، حرصت مصر على أن يتوفر لديها العديد من الخيارات لمواجهة تلك التهديدات، والتى بدأتها بالمسار السياسى والدبلوماسي، والذى تتعامل فيه بشرف، حرصًا على الأمن والاستقرار الإقليمي، حيث تستهدف تلك التهديدات إشعال المنطقة، وهو ما تحذر منه مصر دائمًا.
يبقي سؤال مهم نجيب عليه في العدد القادم، ألا وهو: ما الخيارات المتاحة لدى الدولة المصرية لمواجهة تلك التهديدات، وهل تنجح في ذلك كما نجحت في إجهاض مخطط إعادة تقسيم المنطقة؟