في عام 1920 ظهر لأول مرة مصطلح الحرب النفسية على يد المحلل العسكري البريطاني
“ج.ف. س. فوللر” .. قبل هذا التاريخ لم يكن هذا المصطلح منتشرا، بل إنه لم يظهر في الولايات المتحدة الأمريكية إلا عام 1940 أثناء الحرب الكورية، ليأخذ منحى مهما ويصبح إحدى أدوات المعركة وأذرعها القوية.
فقد أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية قسماً خاصاً بالحرب النفسية، أطلقت عليه اسم “مكتب رئيس الحرب النفسية” (The office of the chief of psychological warfare)، كما أنشأت مدرسة لتدريب العسكريين في فنونها ومناهجها دفاعاً وهجوماً .
واستخدمت الحرب النفسية هذه الذراع الحديثة في القتال والتي تؤثر بشكل مباشر على الفرد المقاتل مما يكون لها الأثر الكبير على قدرته وكفاءته القتالية في المعركة؛ فظهرت بقوة في حرب فيتنام، والحرب الكورية، وحرب جزيرة الفوكلاند، وفي حرب الخليج الأولى والثانية، والحرب في يوغسلافيا، والحرب الأفغانية.
والآن في معركة إعادة تقسيم المنطقة وتقطيع أوصالها، من خلال تدمير الدول، وتحويلها إلى دويلات صغيرة، كانت الذراع الرابعة للحرب (الحرب النفسية)، أكثر فعالية وقوة.
فتحولت “قاذفات القنابل” إلى “قاذفات للمنشورات”، فقامت الطائرات بإلقاء 8 مليارات منشور على دول الحلفاء، وتغيرت المفاهيم والرؤى، للمعارك الحديثة، ليصبح الإعلام إحدى أهم أدوات “الحرب النفسية” وكذا الشائعات، والتوجيه، والسيطرة على العقول، وتزييف الوعي.
(1)
على مدى أكثر من نصف قرن، تواجه المنطقة العربية بشكل عام والدولة المصرية بشكل خاص، تلك الحرب؛ فتعمل الذراع الرابعة منذ 67 وحتى الآن على تغيير المفاهيم، والتأثير على الحالة المعنوية للشعوب، وتحطيم الثقة بين الشعوب وقيادتها وجيوشها، وإطلاق أبواق إعلامية (فضائيات، صحف، إذاعات، مدونات، منصات إخبارية، مواقع إلكترونية، وتشغيل ما يعرف بالكتائب الإلكترونية) تعمل ليل نهار على نشر الشائعات، وتعليب المحتوى المكذوب بعد صباغته بألوان توحي للمتلقي، أن ما يقدم هو الحقيقة، وهو فى الواقع ليس سوى نسج مسموم يستهدف تزييف الوعي وتدمير عقول الشعوب.
وتعمل الذراع الرابعة للحرب ( الحرب النفسية والتى لا تقل أهمية عن المعدة والفرد المقاتل والتدريب) من خلال إحدى أهم أدواتها (الإعلام) مستخدمة الدعاية ضد نقاط ضعف لدى الطرف المستهدف.
وقد عملت بريطانيا على تطوير الحرب النفسية وحولتها إلى علم من خلال دراسات متأنية لنقاط الضعف النفسية للعقل البشري.
فظهر “علم النفس العسكري” بمفهوم جديد، وجندت بريطانيا الآلاف من علماء النفس لإجراء البحوث والاختبارات والتجريب لتحديد اختيار جنودها وتدريبهم.
وتم استخدام التطبيق العلمي لعلم النفس لإضعاف العدو رغم تعزيز جنوده.
واستخدمت إسرائيل الحرب النفسية على الجبهتين المصرية والسورية، عقب يونيو67 فأنشأت مجموعة من الإذاعات وبثت مجموعة من البرامج وقامت بتقوية شبكات إرسال تلك الإذاعات لتصل إلى منطقة غرب القناة بالكامل، والقاهرة وتغطي منطقة شرق الدلتا.
وذلك للتأثير على الروح المعنوية للجنود المصريين، وطبقت إسرائيل النموذج الألماني في تلك المعركة من خلال تقديم شخصيات تزعم أنها شخصيات مصرية توجه نداءات للجنود وتدعوهم للهروب من الخدمة العسكرية، وكذا الحال على الجبهة السورية.
ولكن برامج التوعية المستمرة كانت بمثابة أوقى مصل مضاد لتلك الحرب الممنهجة، فاستطاعت إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة في ذلك الوقت (الشئون المعنوية حاليا) أن تواجه تلك المحاولات من خلال الندوات واللقاءات المتواصلة مع الجنود على جبهة القتال .
(2)
تم وضع 12 مبدأ للحرب النفسية شملت:
• تقديم أفكار أو حقائق جديدة بالنسبة للمستمع أو المستهدف، أو استغلال وتوظيف هذه الحقائق لخدمة أغراض مصدر الحرب النفسية مع انتقاء الأفكار التي يحتمل أن يقبلها الخصم، وعدم استعمال الأفكار التي من المتوقع أن يرفضها الأعداء.
(لذلك لابد من دراسة اتجاهات المجتمع المستهدف ومعرفة ميوله وحاجاته وعقائده وكافة عناصر ثقافته).
• الاعتماد على التكرار مع التنوع، حتى لا يؤدي التكرار إلى الشعور بالملل ومن ثم رفض الرسالة، التكرار مع التشويق واستخدام وسائل الجذب.
• تقوم وحدة نشر الشائعات بخلق حالة من الغموض وحب الاستطلاع لدى الخصم، بحيث تأتي الرسالة كإشباع لحاجة المعرفة أو إجابة عن تساؤلات لدى المجتمع.
• توافر المصداقية في مصدر الرسالة، حتى يصدقه ويثق فيه الجمهور المستهدف.
• أن يتمتع مصدر الرسالة بالجاذبية والقبول لدى الجمهور المستهدف، فالشخص المكروه لا يقبل الناس على الاستماع إليه، وإن استمعوا إليه لا يصدقونه، ولذلك تستخدم الشخصيات المحبوبة أو المقبولة أو المرموقة.
• البعد عن الرسائل أو الأفكار التي تتعارض مع عموميات ثقافة المجتمع، كالدين أو المساس بالمقدسات أو العادات الراسخة، حتى لا يرفضها الخصوم.
• تستهدف الدعاية؛ زعزعة قضية الخصم وتشكيكه في عدالتها وصحتها.
• إبراز نواحي الفقر والحرمان والعوز والجوع، والإشارة إلى معاناة الخصم من مشاكل، مثل؛ البطالة، وانخفاض مستوى المعيشة، وقلة المساكن، وصعوبة الزواج، وصعوبات التعليم.
• خلق صورة براقة ومشرقة عن حالة المجتمع المعادي في حالة استسلامه وتوقفه عن الحرب وقبوله بالهزيمة.
• مخاطبة عواطف الناس ووجدانهم وانفعالاتهم أكثر من مخاطبة العقل والمنطق.
• إثارة الخوف والفزع والرعب في نفوس الخصوم بالمبالغة والتضخيم في إمكانية استخدام القوة .
• تقديم المكافآت أو التعزيزات للجمهور المتلقي.
(3)
لقد استخدمت اليابان أسلوب الحرب النفسية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية عندما استغلت
“Iva Toguri” التي كانت تزور عمتها المريضة في اليابان عقب ضرب اليابان لميناء بيرل هاربور
(Pearl Harbor) الأمريكي، فأرغمت “توجري “على التخلي عن جنسيتها الأمريكية وعرفت باسم (Tokyo Rose) لتقدم برنامج (The Zero Hour) الترفيهي الموجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتأثير على الروح المعنوية للجنود الأمريكيين.
وكانت تقرأ من نص كتبه اثنان من الأسرى البريطانيين، لضرب معنويات أفراد الجيش الأمريكي، وتقدم لهم مشهد معيشتها في طوكيو، وقبض عليها بعد انتهاء الحرب من قبل الولايات المتحدة وسجنت بتهمة الخيانة حتي أفرج عنها بعفو رئاسي عام 1976.
إنها الذراع الرابعة للمعركة أو كما يحب البعض أن يصفها بالحرب السياسية.
وما بين المصطلحات الثلاثة (الحرب النفسية، الحرب السياسية، الذراع الرابعة للحرب) يأتي ما تشهده المنطقة حاليا من حرب موجهة ضدها من قبل قوى الشر وهو ما حذرت منه في الأسبوع الماضي من الانجراف أو السقوط ضحية لها.. إما من خلال ترويج الشائعات أو المساهمة في نشرها، أو من خلال زعزعة الثقة في الدولة والقيادة.
وتشهد المنطقة منذ 2011 أقوى مراحل تلك الحرب، بعد أن قامت قوى الشر الداعمة لمخطط تقسيم المنطقة بتوجيه سلاحها باتجاه الدول العربية، وعقب يناير 2011 بدأت عملية استهداف الجيوش واستنزاف الدول.
وكان الجيش المصري على رأس أولويات تلك المعركة لعدة أسباب أهمها:
أن الجيش المصري الوحيد الذي لم تستطع قوى الشر تفكيكه أو تغيير عقيدته العسكرية أو النيل من علاقته بالشعب.
وبدأ الحديث خلال 2011 و 2012 عن أن هناك فارقا بين توجيه النقد لكبار القادة، ونقد المؤسسة العسكرية، لكن الشعب المصري فطن للمؤامرة ولم يسقط في براثنها.
ثم تطور الأمر إلى الحديث عن مشروعات القوات المسلحة وإظهارها وكأنها منفصلة عن الدولة، رغم الدور الذي تقوم به في مواجهة الأزمات، والسيطرة على الأسعار .
وقدمت أدوات قوى الشر مجموعة من المصطلحات، وقامت بترويجها ظنا منها أنها بذلك ستنال من العلاقة الأزلية بين القوات المسلحة المصرية والشعب، ولكن خاب ظنهم .
وتتواصل الحرب، وتواصل الدولة المصرية المواجهة، من خلال الرد على الشائعات، وتوفير المعلومات.. إلا أن قوى الشر تواصل العمل وفق المنهج والمبادئ الموضوعة للحرب النفسية .
فتقدم معلومات مغلوطة على ألسنة مواطنين يحملون الجنسية المصرية، ممن خانوا أوطانهم، وتعاونوا مع قطر وتركيا وتنظيم الإخوان الإرهابي من أجل حفنة دولارات، مثل نور، زوبع، وناصر، وغيرهم من أبواق التنظيم الإرهابي المقيم في تركيا.
ومع تحرك الدولة المصرية فى الاتجاه الصحيح لمواجهة التحديات والتهديدات بدأت عمليات الذراع الرابعة للحرب، بدءًا من التشكيك فى مشروع قناة السويس، ومدى أهمية المشروع، وعدم جدواه، وعندما كشفت أكاذيبهم، عقب الانتهاء من المشروع القومي، صمتوا جميعا ليتحركوا على جبهة أخرى وهي أهمية تسليح وتحديث الجيش المصري في ذلك التوقيت، لتسقط الأحداث والتهديدات التي تعيشها المنطقة، زيف منطقهم وأكاذيبهم، وتدلل على أن الدولة تسير في الاتجاه الصحيح، ويتأكد للجميع مدى دقة رؤية القيادة .
ثم تم استهداف المشروع القومي للطرق، ومشروع القضاء على العشوائيات، والإسكان ومشروع إنشاء العاصمة الإدارية، وقبل ذلك استهداف المشروع القومي لتطوير التعليم والذي أثبتت جائحة كورونا نجاح المنظومة الجديدة.
ودائما ما تستهدف الذراع الرابعة للحرب، أو الحرب النفسية من قبل قوى الشر الداخل المصري لخفض المعنويات والتشكيك فيما يتم من إنجازات على أرض الواقع، وسرعان ما ينكشف زيفهم، وتزداد قوة وعي الشعب المصري، والتفافه حول قيادته.
ومع تطور الأحداث حاولوا اللعب لتقديم رؤية مسمومة وترسيخها فى العقل الجمعي لدى المواطن لتكون المفاضلة بين ما يحدث على المحور الاستراتيجي الغربي وما يحدث بشأن سد النهضة.
لكن القيادة السياسية دائما ما تقطع عليهم الطريق، لأن الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ توليه السلطة، اتخذ منهجا واضحا، اعتمد على الشفافية والحوار مع الشعب.
فأكد على أن الدولة المصرية تتمسك بمسار التفاوض بشأن أزمة سد النهضة، ولن تتنازل عن حقوق مصر التاريخية، كما أنها ستدافع عن الأمن القومي المصري على المحور الاستراتيجي الغربي.
ويبقى تساؤل لدى البعض .. هل ستظل هذه الحرب تواجهها الدولة المصرية؟
أعتقد أن تلك المعركة ستزداد ضراوتها مع استكمال مصر لمشروعها الوطني في ظل تحركها نحو ريادة المنطقة بثبات.. فهي تتجه نحو تحولها إلى مركز إقليمي للطاقة، وتنشئ مشروعا ضخما لتخزين النفط الخام، وكذا إقامتها لمنتدى شرق المتوسط للغاز الطبيعي، وقيامها بإنشاء أكبر مشروع للمخازن الاستراتيجية للأدوية، وكذا إقامتها لأكبر مشروع لمشتقات الدم لتصبح مركزا إقليميا لمشتقات الدم في المنطقة .
كما تواصل البناء والتنمية، وتعيد الحياة إلى صناعة السيارات، وأيضا انطلقت باكورة تطوير صناعة النسيج .
كل تلك التغيرات تجعل قوى الشر تحاول الضغط على الدولة المصرية لإيقاف مسيرتها.
ويظل خط الدفاع القوي في تلك المعركة” وعي الشعب وثقته في قيادته”، واصطفافه خلف قراره، لتعبر مصر إلى مرحلة كانت حلمًا للمصريين كافة، أن تصبح أم الدنيا ” قد الدنيا”.
إن الحرب الموجهة للدولة المصرية منذ 2011 وحتى الآن، لم تنتصر مصر فيها إلا بوعي المصريين، وكشفهم لحجم المؤامرة التي خُطط للمنطقة السقوط فيها.