التاريخ الوطني للدول هو المنارة التي تستهدي بها الأجيال لتكمل مسيرة النضال والحفاظ على التراب الوطني، الأمر الذي جعل دعاة هدم الدول يستهدفون تاريخها الوطني وتشويه رموزه.
في العدد الماضي حاولت من خلال مجموعة من الوقائع التي سطرها عدد من المؤرخين أن أرصد أسباب محاولات بعض الإعلاميين ومن يصفون أنفسهم بالمؤرخين تشويه أو إنكار أحداث مهمة فى التاريخ الوطني مثل الثورة العرابية، أو تشويه شخصيات مثل الزعيم أحمد عرابي.. خاصة بعد أن حاولوا تجريد الثورة العرابية من مضمونها بالرغم من أنها كانت نقطة فارقة في التاريخ الوطني، وبداية لمشروع مصري يستهدف تخليص الدولة المصرية من التبعية، لتبدأ مصر أولى خطوات الديمقراطية وبناء الدولة الحديثة ويعود المصريون لوطنهم الذي سيطر الشراكسة على قيادة جيشه.
لقد كانت الثورة العرابية بمثابة انطلاقة اجتمع حولها كل الوطنيين من أبناء الشعب المصري فقد جمعت بين مطالب الشعب والجيش.
ولم تكن تلك المرحلة تستهوي المتربصين للانقضاض على مصر خاصة بريطانيا بعد انقضاض فرنسا على تونس، وكان احتلال الإنجليز لمصر هدفا لابد من الوصول إليه خاصة أن الظروف كانت مواتية، لكن الأمر يستلزم القضاء على ذلك الرمز وتشويه صورته بعد أن بات اسمه يتردد على لسان كل مصري الأمر الذي قد يقوض المشروع الاستعماري البريطاني.
نستكمل معا توضيح الحقائق حول التاريخ الوطنى لرجل كان يستهدف نهضة وطنه وحريته من التبعية.
استُدعِى أحمد عرابى إلى القاهرة لتولى منصب وكيل أول وزارة الجهادية، فى يناير 1882 وذلك بعد الثورة بأربعة أشهر بعد أن استجاب لعملية إبعاده عن القاهرة.
وبعد شهر تقريبا عين وزيرًا للجهادية فى عهد البارودى باشا، وفى الوقت الذى بدأ فيه عرابى تنفيذ ما كان يرجو أن يحدث داخل الجيش حيث ولى قيادة الجيش للمصريين، بدأ الشراكسة التآمر مع الخديوى والإنجليز وعدد من العربان ضده من أجل إحراج عرابى، فى الوقت ذاته تسلم مصر إلى المحتل.
إنها الخيانة التى وقع فيها الخديو توفيق، كما سقط فيها عدد من العربان، والإنجليز والسلطان العثمانى.
ففى الوقت الذى كان يستقبل فيه السلطان العثمانى رسائل عرابى التى كان يشكو فيها من تعاون الخديو توفيق مع الإنجليز والفرنسيين. كان السلطان يدعم الخديو توفيق بقوة وتغاضى عن قيام إنجلترا بأعمال استفزازية ضد الجيش المصرى.
فقد اعتبرت بريطانيا قيام الجيش المصرى بتقوية قلاعه على البحر المتوسط فى الإسكندرية وتسليحها عملا عدائيا، وهو ما كان أمرا مستغربا ولكنه كشف الهدف خاصة مع وجود مراسلات مستمرة بين الخديو توفيق وقائد الأسطول البريطانى. كما أن السلطان العثمانى عين مندوبا للأستانة فى مصر «عثمان درويش باشا»، فقد كانت مصر إحدى ولاياته فى ذلك الوقت.. ورفض أن يؤيد رأى عرابى وهو ما جعله يوافق على عقد مؤتمر الأستانة بحضور بريطانيا وفرنسا فى سفارة مالطا بالأستانة والذى كان يستهدف الانقضاض على مصر.
وفى يوم 11 يونيو 1882 وقعت مشاجرة بين رجل مصرى ورجل مالطى من الرعايا البريطانيين بعد رفض الأخير دفع الأجرة المتفق عليها للرجل المصرى.. على أثرها قام المالطى بقتل الرجل المصرى وكانت الشرارة التى استهدفت تقديم ما حدث فى الإسكندرية على أنه عدم قدرة مصر على حماية الرعايا الأجانب وهو ما يستوجب تدخل بريطانيا.
وقد سهل الخديو توفيق وعمر لطفى «حاكم الإسكندرية فى ذلك الوقت» حدوث المأساة التى راح ضحيتها 163 من المصريين و238 من الأجانب.
إنها المؤامرة للانقضاض على الثورة وتشويه صورة عرابي.
ففى يوم 9 يونيو استدعى الخديو توفيق، «عمر لطفي» حاكم الإسكندرية، وظل اللقاء لمدة 4 ساعات بعد أن طلب الخديوى أن يأتى عمر لطفى فى قطار خاص من الإسكندرية إلى القاهرة.
وعقب عودة «عمر لطفى» إلى الإسكندرية ذهب إلى قائد الأسطول الإنجليزى والتقى به فى يوم 10 يونيو أى قبل الحادثة بيوم واحد، بل إن حماية أمن واستقرار الإسكندرية من الداخل كان مسئولية «عمر لطفى» خاصة أن عرابى لم يكن له سلطة على محافظ الإسكندرية بعد استقالة حكومة البارودى باشا، عقب قبول الخديوى للمذكرة المشتركة من قبل قائد الأسطول الإنجليزى والأسطول الفرنسى وهو ما يعد تدخلا سافرا فى شئون البلاد.
استمرت أحداث الإسكندرية يوم 11 يونيو ١٨٨٢ لمدة ٤ ساعات من الساعة الواحدة ظهرا إلى الخامسة مساء، ولم يعلم عرابى إلا فى الرابعة والنصف عصرا، فى الوقت الذى كان يتجول فيه عمر لطفى فى شوارع الإسكندرية ويرفض التدخل لفض حالة الفوضى والاقتتال فى الشوارع.
لم يكن ما حدث فى الإسكندرية مجرد حادثة ولكنها كانت مؤامرة كبرى على الدولة المصرية بعد أن أثبتت التحقيقات فيها أنها كانت مدبرة لإيجاد ذريعة لدخول الإنجليز مصر بتآمر بين الخديوى والإنجليز وعدد من العربان من قبائل أولاد على.. بحسب أقول «سليمان سامى»، وهو ما أيده الشيخ محمد عبده فى مذكراته.
وأشار الشيخ محمد عبده إلى أن أحمد رفعت بك يذكر مثل هذا النبأ فيقول: إن الخديوى وقت الحادث أبرق إلى لطفى أن يستعين بجنود من الأسطول لا بفرق من الجيش المصرى، كأنما يستعجل توفيق الاحتلال ويخشى أن تُفلت الفرصة من يده.
وقال اللورد تشرشل بعد أن أشار إلى برقية توفيق الخطيرة إلى عمر لطفى: «إن لديّ أدلة على أنه أثناء الأسبوع التالى، أرسل حيدر باشا ابن عم الخديوى مرتين إلى الإسكندرية، وكان يلقاه الخديوى عقب عودته تحت ستار الليل، وقد ثبت أن حيدر هذا نفسه كان حاضرًا بالإسكندرية يوم الفتنة ومنها سافر إلى القاهرة عقب الحادث مباشرة».
ويكمل الشيخ محمد عبده بحسب مذكراته: «١١ يوليو، أحد الأدميراليين الذين فى معية الخديوى قال له: ما مصير الإسكندرية لو ضربها الإنجليز؟
فأجاب الخديو: ستين سنة.. وهز كتفه.
فقال الضابط: لكن السكان سيحرقونها فأرجو أن تتوسط لدى الأدميرال، والوقت لم يزل يسمح بذلك، اطلب (ذو الفقار) وبلغه أن يحافظ على المدينة فعنده من الرجال الكفاية..
فأجاب: فلتحرق المدينة جميعها ولا يبقى فيها طوبة على طوبة، حرب بحرب، كل ذلك يقع على رأس عرابى وعلى رءوس الفلاحين.
فقد استغل الأدميرال الإنجليزى السير« بوشامب» قائد الأسطول الإنجليزى حادث الإسكندرية لكى يحصل على موافقة الدول بالتدخل فى مصر لحماية الرعايا الأجانب على الرغم من أن أحمد عرابى استطاع بعد أن علم بالحادثة أن يعيد الاستقرار إلى الإسكندرية مساء يوم 11 يونيو.
وعقب الحادثة بشهر كان اعتداء الأسطول الإنجليزى على الإسكندرية بعد أن وجه قائد الأسطول أكثر من إنذار زاعما أن أعمال تطوير قلاع المدينة تهديدا له.
وفى صباح يوم 11 يوليو 1882 تم قصف المدينة بمدفعية الأسطول الإنجليزى واستمرت مقاومة الجيش ويسانده الوطنيين من أبناء الإسكندرية، إلا أن تفوق المدفعية لدى الأسطول الإنجليزى جعل له الغلبة خاصة مع تواطئ الخديوى مع الإنجليز بهدف تشويه صورة عرابى لدى الشعب.
عقب إعلان راغب باشا الأحكام العرفية والذى يعنى دخول مصر الحرب مع بريطانيا لم تمض سوى ثلاثة أيام حتى طلب راغب باشا من الأجانب العودة إلى الإسكندرية لأنها مستقرة «فى وجود الاحتلال!!».
لم تكن معركة كفر الدوار والتل الكبير بالمعارك العادية فقد سطر الجيش المصرى فيها بطولات، إلا أن أيادى الخيانة كان لها دور كبير فيما حدث، بدأ من خيانة الخديوى وحاشيته، والسلطان العثمانى الذى أعلن عصيان عرابي، والمحتل الإنجليزى الذى قدم الأموال وقدم الخديوى الذهب للعربان من أجل أن ينيروا الطريق للمحتل الإنجليزى فى الصحراء عقب عبورهم قناة السويس التى كذب ديليسبس على عرابى بأنها محايدة ولن يدخلها عسكرى إنجليزى.
ويقول د. محمود الخفيف: القائلين إن عدم ردم القناة كان السبب الأساسى للهزيمة، فينفيه ما حدث فى معركة القصاصين الثانية، إذ كان المصريون قاب قوسين من النصر، ولولا الخيانة لتغير وجه الحرب كلها.. ولكان اليوم لعرابى تماثيل فى كبرى العواصم.
وأما أن عرابى أحجم عن ردم القناة لجبنه فرأى سخيف، لأن تردده لذلك الاعتبار السياسى وهو أن تتهم الحركة الوطنية بأنها معادية للعالم وتعتدى على حياد القناة، الأمر الذى جعل عرابى يؤخر هذا الأمر فى ظل تعهدات ديليسبس بأنه لن يسمح للإنجليز بعبورها»، كانت إنجلترا تدرس خطة احتلال مصر منذ أوائل سنة ١٨٨٢، أى قبل تنفيذها فعلًا بنحو ستة أشهر بحسب مذكرات بلنت، وعقب أحداث الإسكندرية واحتلالها تحولت إلى مركز لتوزيع الأموال على الخونة.
واستدعت إدارة الأدميرالية البريطانية إدوار بالمر أستاذ اللغات الشرقية فى كامبردج، وقد رأت فى هذا الرجل خير من يصلح لأداء العمل المراد لمعرفته اللغة العربية ولخبرته بالمنطقة المقصودة؛ إذ تصادف أنه كان من قبل عضوًا فى جمعية كشف فلسطين.
وتحدث إليه اللورد نورث بروك وعرض عليه أن ينهض بهذا العمل الوطنى المشرف كما قال ألا وهو ضمان انضمام البدو شرقى القناة إلى الجيش الإنجليزى وذلك بالإفادة من قابليتهم للرشوة، وقدم له نورث بروك ٥٠٠ جنيه غير نفقات الرحلة ووعده بمكافآة عظيمة إذا اتفق له النجاح..
وقدم بالمر للبدو 30 ألف جنيه مقابل إرشاد الإنجليز إلى أماكن معسكرات الجيش المصرى فى التل الكبير.
وفى الوقت الذى كان فيه المصريون يقتربون من النصر كانت رسالة السلطان العثمانى بعصيان عرابي، من أجل إحداث انقسام فى صفوف الجيش.
ووقف عرابى فى خطوط دفاعه، لا لينتظر شيئًا من الخديوى بعد ذلك، ولكن لينتظر كلمة الأمة المصرية تحكم بها بينه وبين الخديوى وأعوانه من الإنجليز والخوارج من المصريين.
لم تكن السطور السابقة سوى رصد لوقائع تثبت أن أحمد عرابى ورفاقه لم يستهدفوا سوى أن يتحرر وطنهم وينهض لكن أيادى الخيانة والفساد كانت لهم بالمرصاد بالتعاون مع المحتل.
وهو ما جعل (الخديوى والإنجليز) يحرصون على تشويه صورة عرابى ورفاقه والثورة، ويقدمون الأكاذيب والشائعات للنيل من رجل أشعل الحركة الوطنية وكان رمزا لها.
وحسب أحمد عرابى مجدًا وفخرًا وجزاءً بما جاهد وصابر أن ترى فيه أمته رمز الخلاص وبطل الجهاد.
وأن ترى فيه زعيمًا قوميًّا مناضلًا فى سبيل حريتها ودستورها.