تسبق الفترات التى تواجه فيها الأوطان أزماتها مرحلة من ترهل القوى الناعمة، وهذا ليس حالها وحدها، بل هو حال مؤسسات عدة داخل الدولة، وهو ما يجعل الدول لقمة سائغة لقوى الشر، وأرضًا خصبة لتدمير الشعوب، وليس هناك أمر وأدهى من تدمير البنية الشخصية للمجتمعات وإصابتها فى مقتل عندما تحولها إلى مجتمعات فوضوية.
تمثل القوى الناعمة، أقوى أسلحة المعركة فى العصر الحديث من إعلام ودراما وسينما ونشر ووسائل تواصل اجتماعي، إحدى أخطر تلك الأدوات المستخدمة لتحقيق ذلك (تدمير الدول) حال إصابتها بحالة من الفوضى والعشوائية وسيطرة بعض المفاهيم الخاطئة التى يتدثر بها البعض من أن السبب هو البحث عن المشاهد.
لأن الأمر ليس وليد اليوم، وإنما ظهر مع الحرب العالمية الثانية، وزاد خطره خلال فترة الحرب الباردة، بعد أن تعددت أشكال وأدوات القوى الناعمة التى تستهدف تسطيح العقول وتزييف الوعى لدى المجتمعات المستهدفة لتسقط فى مستنقع اللادولة؛ إلا أن الدول الناجية دائمًا ما تستنهض همتها أيضًا من خلال قوتها الناعمة التى تعيد بناء الشخصية وتضمد جراح الماضى وتنير الطريق أمام المجتمع ليرى حجم الخطر المحدق بالوطن، ويكشف الستر عن هادمى الأوطان ومصاصى دماء الشعوب.
(1)
حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على استخدام القوى الناعمة لنشر ثقافتها ومفاهيمها وتدمير بعض الدول المستهدفة من خلال ضرب هويتها، وهو ما وثقته الكاتبة البريطانية «ف س سوندرز» فى كتابها “الحرب الباردة الثقافية من الذى دفع للزمار؟”
إنها معركة طحن العقول وتغييب الوعى وتزييف الواقع، وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط معارك عدة فى هذا الإطار لاستهدافها أكثر من مرة، وسقطت فى براثن تلك المعارك بعض الدول فقدمت مسخًا ثقافيًا لا يعبر عن هوية تلك الأوطان، فما كان لها أن تصمد طويلًا بل سقطت فى براثن الفوضى رغم محاولات الغرب تقديمها كنموذج للدولة الجديدة.
وقد كان للقوى الناعمة دورًا محوريًا فى ذلك، إذ قدمت أعمالً درامية وسينمائية، حملت بين جنباتها ثقافة جديدة حاولت أن تقدمها كأحد محددات الشخصية لتك الأوطان.
ولأن الدراما التليفزيونية قوة ثقافية مؤثرة فى المجتمع لا يُستهان بها وذلك بسبب انتشارها الواسع وقدرتها على الإبهار واستيلاءها على أوقات المشاهدين، فالرسالة الدرامية لها قدرة كبيرة على تخطى الحواجز الأمية وصولًا إلى الجماهير، حيث تنفذ الرسالة الدرامية إلى جماهيرها وتؤثر فيهم بأسلوب غير مباشر.
كما أن الدراما التليفزيونية تساهم فى عملية البناء القيمى للإنسان بشرط أن تشتمل على مضمون جيد وهادف يعكس واقع القضايا والمشكلات فى المجتمع الذى تُقدَّم فيه، وقد تخلت الدولة لعدة سنوات مضت عن دورها المتميز فى إنتاج الأعمال الدرامية المتميزة والاستعانة بكبار الكتاب والمخرجين فى نشر الثقافة الرفيعة والارتقاء بمستوى الذوق العام، وتزويد المشاهدين بالفكر الراقي، وبث القيم والسلوكيات الإيجابية المدعمة للمسئولية الاجتماعية للقائمين على العمل الدرامي. وخلال العقدين الأخيرين شهدت الدراما والسينما حالة من افتقاد القدرة على القيام بالدور المهم المنوط بتلك القوى الناعمة، فظهرت الأعمال التى تسيطر عليها البلطجة والمخدرات والجنس، والأعمال المحطمة للموروث الشعبى والقيمى والأخلاقى للمجتمع.
وبدعوى أن تلك الأعمال تقدم نموذجًا من النماذج المجتمعية رغم أنها لا تقدم سوى فئة خارجة تمامًا عن نسق المجتمع، واصلت عملها لهدم المجتمع من الداخل غير مدركة أن ما تقوم به يمثل أخطر أعداء الدولة.
وخلال السنوات الثلاث الأخيرة شهدت الدراما والسينما حالة استفاقة بالتوازى مع ما تقوم به الدولة من إنجازات، وعادت الدراما المصرية والسينما تقدم نماذج للأعمال الفنية التى تعمل على بناء المجتمع من الداخل، وتخلق حالة من الوعى فى معركة من أكثر المعارك شراسة، حيث تستهدف (العقول).
(2)
قدمت الدكتورة مى أحمد أبو السعود، مدرس الإذاعة والتلفزيون، بكلية الآداب قسم الإعلام، بجامعة حلوان، دراسة تحليلية حول المسؤولية الاجتماعية للدراما التليفزيونية المصرية، والذى نشر فى العدد الثالث من المجلة العلمية لبحوث الإذاعة والتلفزيون استعرضت فيها الخطر الذى سببته الدراما الهابطة على قيم وسلوكيات المجتمع والدور الذى قامت به فى تشكيل حالة غير منضبطة وصورة ذهنية غير صحيحة عن المجتمع المصري.
وقد جاء فيلم «الممر» فى يونيو 2019 ليمثل مَمَرًّا حقيقًا لعودة دور السينما والدراما لتشكيل الوعي، وترسيخ قيم الولاء والانتماء لدى فئات المجتمع، والتأكيد على قوة وصلابة الدولة المصرية بتكاتف شعبها وقيادتها وثقة الشعب فى قدرة القيادة على مواجهة الأزمات والتحديات والعبور بالوطن إلى بر الأمان.
قدم الفيلم نموذجًا لبطولات سطرها أبناء الشعب المصري، على جبهة القتال، وكيف استعاد الشعب توازنه واصطف خلف قواته المسلحة من أجل معركة استرداد الأرض فكان النصر حليف هذه الأمة.
ولأن الدولة المصرية قد خاضت حربًا من أقوى وأشرس الحروب خلال الفترة من 2011 وحتى الآن، إذ كانت هذه الحرب تستهدف تفتيت الدولة وضرب مؤسساتها، وإدخال مصر فى أتون الفوضى، فقد سطر الأبطال الذين كانوا فى صفوف المواجهة (الجيش والشرطة) العديد من البطولات.
وقد حرصت آلة الحرب الجديدة لدى قوى الشر على استهداف الدولة ببث الشائعات وتشويه الحقائق من أجل التأثير على جدار الثقة الذى يزداد صلابة يومًا بعد يوم بين المواطن والقيادة.
وقد جاء مسلسل الاختيار الذى عُرض العام الماضى ليمثل نهوضًا للدراما من جديد لتستعيد دورها الحقيقى فى تلك المعركة، فتسلط الأضواء على ما قدمه الأبطال من بطولات فداءً لوطنهم، وتقدم نماذج تعبر بشكل حقيقى عن المجتمع المصرى والدولة المصرية.
وجاء هذا العام مسلسل «الاختيار 2» ليقدم نموذجًا آخر من نماذج البطولة ويكشف تفاصيل أحداث عاشها الوطن وكانت بمثابة مرحلة فارقة فى تاريخ الدولة المصرية ويسلط الضوء على حجم المعركة التى كانت تواجهها مصر خلال تلك المرحلة، مسلطًا الضوء على بعض من أبطال الظل الذين قدموا أرواحهم ودمائهم فداءً للوطن، من رجال الشرطة والجيش.
رغم أننا لم نشاهد سوى الحلقة الأولى والثانية من المسلسل حتى تجهيز المجلة للطبع إلا أن حجم المتابعة الجماهيرية للمسلسل سواء تلفزيونيًا من خلال متابعة الحلقات أو عبر منصات المشاهدة أو متابعة أخباره عبر مواقع السوشيال ميديا كشف حجم الشغف لدى المشاهد لمتابعة مثل تلك الأعمال الهادفة.
لقد كشف المسلسل الدور البطولى لرجال المعلومات من جهاز الأمن الوطنى فى مواجهة مخططات حرق وتدمير الوطن، ولماذا استهدفت الجماعة الإرهابية عناصر ذلك الجهاز بالذات خلال العام الذى تولوا فيه حكم البلاد.
ولأن المعركة لم تكن مع تلك الجماعة فقط بل كانت هناك قوى أخرى خارجية تدعمهم لوجستيًا وماليًا عسكريًا من خلال عناصر المرتزقة، فقد كانت المعركة على كافة المحاور وهو ما ظهر خلال الحلقة الثانية من المسلسل والذى رصد ووثق عدة أحداث مهمة وقعت فى توقيت متزامن وعلى مختلف المحاور، ولم يكن للدولة المصرية أن تنجح فى مواجهة ذلك المخطط لولا يقظة أبنائها من رجال الشرطة والجيش.
ففى الوقت الذى كانت قوات الأمن بقيادة أحد رجال الأمن الوطنى تداهم أحد مخازن المتفجرات فى الحوامدية بمحافظة الجيزة، كانت إحدى كتائب الأمن المركزى بالعريش تواجه مجموعة ضخمة من العناصر التكفيرية الداعمة للجماعة الإرهابية ويتصدى أبطال الشرطة المصرية بقوة لتلك الجماعة الضالة وعناصرها القادمة من الخارج.
وفى نفس التوقيت ذاته يتصدى أبطال المنسى فى رفح لعملية إرهابية أخرى حاول خلالها مجموعة من العناصر التكفيرية السيطرة على أحد الأكمنة إلا أن الأبطال كانوا لهم بالمرصاد.
فى الوقت ذاته كانت محاولة تفجير أحد أعمدة الضغط العالى التى تمد المعادى بالكهرباء وخاصة المنطقة التى يوجد بها مبنى المحكمة الدستورية العليا، إذ كانت العناصر الإرهابية تستهدف تعطيل أداء الرئيس عدلى منصور لليمين الدستورية رئيسًا للبلاد.
وتنجح عناصر الأمن الوطنى فى إبطال العبوة الناسفة والقضاء على العناصر الإرهابية فى أحد المخازن بالكريمات، والتصدى للعناصر التكفيرية فى رفح والعريش وفى توقيت متزامن يكشف حجم المعركة ومسرح العمليات الخاص بها على مختلف المحاور الاستراتيجية من أجل إرباك الدولة وإسقاطها فى الفوضى.
إن ما كشفه مسلسل الاختيار 2 خلال الحلقتين الأولى والثانية والتفاف المواطنين حول شاشات التلفزيون لمتابعة المسلسل يؤكد عودة القوى الناعمة إلى دورها التنويري، كما يوثق لأحداث مهمة عاشتها الدولة المصرية خلال مرحلة تاريخية فارقة.
فتحية لأبطال الشرطة المصرية وتحية لأبطال القوات المسلحة وتحية للأبطال الذين جسدوا بطولات لرجال قدموا أرواحهم فداء لوطنهم.