منذ سنوات وبالمصادفة.. كنت أشاهد التليفزيون، ورأيت المذيعة تجرى حوارًا سريعًا مع المصيفين على أحد شواطئ مرسى مطروح، وكان بينهم صحفى عجوز – عليه رحمة الله – يجلس على كرسى تحت شمسية وأمامه ترابيزة عليها بعض الأوراق البيضاء ومجموعة من الأقلام المختلفة.
وبعد التعارف المعتاد عن الاسم والوظيفة أخبرها الصحفى بأنها فاجأته وهو يستعد لكتابة مقاله اليومى، فسألته: عن موضوع المقال الذى ينوى كتابته، ولكنه رفض الإفصاح عن الموضوع قائلًا «وأنا عبيط.. أقولك على موضوع المقال علشان تحرقيه»!، حيث إنها قد تذيع اللقاء قبل أن تصدر الصحيفة «اليومية» التى كان يعمل ويكتب فيها! ولكن المذيعة لم تستسلم وسألته مرة أخرى.. كام سنة وأنت بتكتب مقالك اليومى فى نفس الصحيفة؟ فأجابها سعيدًا: أكثر من عشرين سنة، فكان تعليقها الفورى: ولسه مازهقتش؟!
بالطبع سارعت المذيعة بالانصراف من أمامه وتركته فى حيرته، يبحث عن الرد المناسب عليها أو الموضوع المناسب للمقال!
أما أنا.. فقد أذهلنى ذكاء المذيعة وسرعة تعليقها المناسب على مثل هذه النوعية من البشر الذين يفترضون الغباء فيمن يحاورهم أو يستمع لهم، فضلًا عن جهلهم الفطرى بطبيعة عملهم.
ولم أفهم وقتها.. هل كان الصحفى العجوز – رحمه الله – يتغابى على المذيعة والمشاهدين أم أنه لم يكن يعلم الفرق بين الخبر الصحفى والمقال الذى قد يتضمن وجهة نظر فى أحداث جارية أو تحليلًا لها، أو معلومات جديدة فى قضية مثارة بين الرأى العام، وأن إذاعة موضوع المقال قبل نشره.. لا يحرقه؟!، بل كان فى إمكانه استخدام شاشة التليفزيون لإقناع المشاهدين بالفكرة التى ينوى كتابتها، بالإضافة إلى قرائه المحتملين عند نشر المقال!
نعم.. لقد صدمنى الموقف وطريقة التفكير وما انتهى إليه الحوار.. ودخلت فى موجة ضحك أشبه بالبكاء.. حتى بل الدمع معصمى! كما قال أمرؤ القيس.
لقد استدعيت تلك الواقعة من مخزون الذاكرة بعد سنوات طويلة من حدوثها بعد أن طفح الكيل من متابعتى لعشرات المقالات بالصحف اليومية والعديد من البرامج الحوارية على شاشات التليفزيون.
فالبعض من الزملاء الكتاب الصحفيين يتعامل مع «المساحة» المخصصة له.. وكأنها «فرض عين» لازم ينجزه بأى شكل، أى لابد أن يملأ تلك المساحة بالكلام، وليس مهما لديه إذا كان هذا الكلام لا يتضمن فكرة محترمة أو معلومات جديدة.. أو وجهة نظر مفيدة يمكن البناء عليها، المهم عنده أنه أنجز تلك المهمة الثقيلة.. والتى لم يبذل جهدًا ولو بسيطًا فى الاستعداد لها!
طيب.. يامولانا ماذا لو أرتحت وريحتنا وأعتذرت عن عدم الكتابة.. طالما ليس لديك ما يستحق القوالة؟!
وذات الأمر أيضا.. ينطبق على الإخوة مقدمى برامج «التوك شو» على القنوات التليفزيونية التى تكاد تكون متشابهة تمامًا فيما تعرضه، إلا من رحمه ربه!
فالبرنامج يبدأ بمحاضرة طويلة ومملة من الأخ المذيع عن الواجب والمفروض الذى يجب أن يلتزم به المشاهدون إزاء قضية مثارة، أو سلوك معين، ثم عرض لأهم الأخبار والأحداث التى جرت طوال اليوم وقبل أن يظهر حضرته على الشاشة، وبعضها – للأسف – كان قد تم نشره فى الصحف الصباحية أو المسائية أو على بعض المواقع الإخبارية الجادة.
وبعد الانتهاء من تلك الفقرة التى قد تمتد لساعات عمله، يكمل علينا باستضافة مجموعة من الخبراء ليسألهم عن رأيهم حول موضوعه المختار، أو يفاجئنا بحوار طويل مع مسئول يعجز عن إقناعنا بوجهة نظره أو صحة ما أتخذه من قرارات!
والغريب فى الموضوع أن الأخ المذيع أو الإعلامى مقدم البرنامج يشعرك بأنه يمتلك المساحة الزمنية المخصصة له يوميًا، وكذلك المشاهدون الذين ساقهم حظهم السيىء لمتابعته، فتجده يحكى كما يشاء.. وبنبرة الصوت التى يفضلها.. زاعقًا أو مستهوكا ناصحًا.. كان أو محذرًا.. وأحيانًا شاتمًا.. كما يفعل الإعلامى الجهول الذى يعتقد نفسه جالس على المصطبة فى بلدهم مع مجموعة من أهله!
ولعل الطريف فى الموضوع ما استجد مؤخرًا، وهو مايسمى «بيع الهواء»، أى تكون سيادتك من الأغنياء الجدد بسبب تسقيع الأراضى والتجـــــارة فيها، أو السمسرة وتخليص المصالح وترغب فى الشهرة أو الدفاع عن مصالحك أو مصالح من يمولك، فتلجأ لإحدى القنوات الخاصة وتشترى مساحة زمنية قد تكون ساعة أو أكثر تقدم من خلالها برنامجك الخاص، وفى تلك الحالة.. أنت هنا «بتتكلم بفلوسك» فتسمعنا ما تشاء.. أو ما يشاء لك ممولك!
طيب.. نحن الضحايا من المشاهدين ماذا نفعل؟
بالطبع ممن لديهم معرفة ودراية بتلك «السبوبة» المستجدة.. يسارعون بالضغط على أزرار الريموت لتغيير القناة، ولكن ماذنب أهلنا البسطاء فى القرى والنجوع الذين لا يعلمون حقيقة ما يشاهدونه.. وكل الشاشات عندهم «تليفزيون» ما ذنبهم أن يستمعوا إلى ملتح ينصحهم بالعلاج بالأعشاب!، أو مدعى يفسر أحلامهم، أو جاهل يفتيهم فى دينهم، أو مغرض يعلق على الأحداث بالخطأ أو يروج إشاعات تثير البلبلة؟
ليس أقل من تعبير «الفوضى الإعلامية» لوصف ما يحدث فى الإعلام، سواء كانت صحف أو قنوات خاصة، وسببه أن الدولة فى لحظات الضعف سارت خلف بعض المدعين وألغت وزارة الإعلام!
منذ سنوات وبالمصادفة.. كنت أشاهد التليفزيون، ورأيت المذيعة تجرى حوارًا سريعًا مع المصيفين على أحد شواطئ مرسى مطروح، وكان بينهم صحفى عجوز – عليه رحمة الله – يجلس على كرسى تحت شمسية وأمامه ترابيزة عليها بعض الأوراق البيضاء ومجموعة من الأقلام المختلفة.
وبعد التعارف المعتاد عن الاسم والوظيفة أخبرها الصحفى بأنها فاجأته وهو يستعد لكتابة مقاله اليومى، فسألته: عن موضوع المقال الذى ينوى كتابته، ولكنه رفض الإفصاح عن الموضوع قائلًا «وأنا عبيط.. أقولك على موضوع المقال علشان تحرقيه»!، حيث إنها قد تذيع اللقاء قبل أن تصدر الصحيفة «اليومية» التى كان يعمل ويكتب فيها! ولكن المذيعة لم تستسلم وسألته مرة أخرى.. كام سنة وأنت بتكتب مقالك اليومى فى نفس الصحيفة؟ فأجابها سعيدًا: أكثر من عشرين سنة، فكان تعليقها الفورى: ولسه مازهقتش؟!
بالطبع سارعت المذيعة بالانصراف من أمامه وتركته فى حيرته، يبحث عن الرد المناسب عليها أو الموضوع المناسب للمقال!
أما أنا.. فقد أذهلنى ذكاء المذيعة وسرعة تعليقها المناسب على مثل هذه النوعية من البشر الذين يفترضون الغباء فيمن يحاورهم أو يستمع لهم، فضلًا عن جهلهم الفطرى بطبيعة عملهم.
ولم أفهم وقتها.. هل كان الصحفى العجوز – رحمه الله – يتغابى على المذيعة والمشاهدين أم أنه لم يكن يعلم الفرق بين الخبر الصحفى والمقال الذى قد يتضمن وجهة نظر فى أحداث جارية أو تحليلًا لها، أو معلومات جديدة فى قضية مثارة بين الرأى العام، وأن إذاعة موضوع المقال قبل نشره.. لا يحرقه؟!، بل كان فى إمكانه استخدام شاشة التليفزيون لإقناع المشاهدين بالفكرة التى ينوى كتابتها، بالإضافة إلى قرائه المحتملين عند نشر المقال!
نعم.. لقد صدمنى الموقف وطريقة التفكير وما انتهى إليه الحوار.. ودخلت فى موجة ضحك أشبه بالبكاء.. حتى بل الدمع معصمى! كما قال أمرؤ القيس.
لقد استدعيت تلك الواقعة من مخزون الذاكرة بعد سنوات طويلة من حدوثها بعد أن طفح الكيل من متابعتى لعشرات المقالات بالصحف اليومية والعديد من البرامج الحوارية على شاشات التليفزيون.
فالبعض من الزملاء الكتاب الصحفيين يتعامل مع «المساحة» المخصصة له.. وكأنها «فرض عين» لازم ينجزه بأى شكل، أى لابد أن يملأ تلك المساحة بالكلام، وليس مهما لديه إذا كان هذا الكلام لا يتضمن فكرة محترمة أو معلومات جديدة.. أو وجهة نظر مفيدة يمكن البناء عليها، المهم عنده أنه أنجز تلك المهمة الثقيلة.. والتى لم يبذل جهدًا ولو بسيطًا فى الاستعداد لها!
طيب.. يامولانا ماذا لو أرتحت وريحتنا وأعتذرت عن عدم الكتابة.. طالما ليس لديك ما يستحق القوالة؟!
وذات الأمر أيضا.. ينطبق على الإخوة مقدمى برامج «التوك شو» على القنوات التليفزيونية التى تكاد تكون متشابهة تمامًا فيما تعرضه، إلا من رحمه ربه!
فالبرنامج يبدأ بمحاضرة طويلة ومملة من الأخ المذيع عن الواجب والمفروض الذى يجب أن يلتزم به المشاهدون إزاء قضية مثارة، أو سلوك معين، ثم عرض لأهم الأخبار والأحداث التى جرت طوال اليوم وقبل أن يظهر حضرته على الشاشة، وبعضها – للأسف – كان قد تم نشره فى الصحف الصباحية أو المسائية أو على بعض المواقع الإخبارية الجادة.
وبعد الانتهاء من تلك الفقرة التى قد تمتد لساعات عمله، يكمل علينا باستضافة مجموعة من الخبراء ليسألهم عن رأيهم حول موضوعه المختار، أو يفاجئنا بحوار طويل مع مسئول يعجز عن إقناعنا بوجهة نظره أو صحة ما أتخذه من قرارات!
والغريب فى الموضوع أن الأخ المذيع أو الإعلامى مقدم البرنامج يشعرك بأنه يمتلك المساحة الزمنية المخصصة له يوميًا، وكذلك المشاهدون الذين ساقهم حظهم السيىء لمتابعته، فتجده يحكى كما يشاء.. وبنبرة الصوت التى يفضلها.. زاعقًا أو مستهوكا ناصحًا.. كان أو محذرًا.. وأحيانًا شاتمًا.. كما يفعل الإعلامى الجهول الذى يعتقد نفسه جالس على المصطبة فى بلدهم مع مجموعة من أهله!
ولعل الطريف فى الموضوع ما استجد مؤخرًا، وهو مايسمى «بيع الهواء»، أى تكون سيادتك من الأغنياء الجدد بسبب تسقيع الأراضى والتجـــــارة فيها، أو السمسرة وتخليص المصالح وترغب فى الشهرة أو الدفاع عن مصالحك أو مصالح من يمولك، فتلجأ لإحدى القنوات الخاصة وتشترى مساحة زمنية قد تكون ساعة أو أكثر تقدم من خلالها برنامجك الخاص، وفى تلك الحالة.. أنت هنا «بتتكلم بفلوسك» فتسمعنا ما تشاء.. أو ما يشاء لك ممولك!
طيب.. نحن الضحايا من المشاهدين ماذا نفعل؟
بالطبع ممن لديهم معرفة ودراية بتلك «السبوبة» المستجدة.. يسارعون بالضغط على أزرار الريموت لتغيير القناة، ولكن ماذنب أهلنا البسطاء فى القرى والنجوع الذين لا يعلمون حقيقة ما يشاهدونه.. وكل الشاشات عندهم «تليفزيون» ما ذنبهم أن يستمعوا إلى ملتح ينصحهم بالعلاج بالأعشاب!، أو مدعى يفسر أحلامهم، أو جاهل يفتيهم فى دينهم، أو مغرض يعلق على الأحداث بالخطأ أو يروج إشاعات تثير البلبلة؟
ليس أقل من تعبير «الفوضى الإعلامية» لوصف ما يحدث فى الإعلام، سواء كانت صحف أو قنوات خاصة، وسببه أن الدولة فى لحظات الضعف سارت خلف بعض المدعين وألغت وزارة الإعلام!