رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

مقتل الشاب «نائل» أعادها للواجهة «الضواحي».. قنبلة فرنسا الموقوتة !

523

ربما لم تكن الاحتجاجات العنيفة، وأعمال الشغب التى شهدتها العديد من المدن الفرنسية على مدار الأيام الماضية، الأولى من نوعها، فمنذ تولى الرئيس إيمانويل ماكرون الحكم، حيث شهدت فرنسا العديد من المظاهرات والاحتجاجات خلال ولايتيه الأولى والثانية، ففى عام 2018، كان على «ماكرون» أن يتعامل مع أعمال شغب واسعة النطاق، بعد أن تحولت احتجاجات السترات الصفراء إلى أعمال عنف، وجاءت المرة الثانية فى وقت سابق من هذا العام، عندما واجه الرئيس الفرنسى مظاهرات استمرت لعدة شهور، إلى جانب 14 إضرابًا وطنياً فى يوم واحد ضد إصلاحه لنظام التقاعد، حيث تابع العالم بأسره مشاهد التظاهرات والإضرابات العمالية التى شلت البلاد، وانتشرت مقاطع الشغب والتخريب فى المدن الفرنسية، بالإضافة لصور جبال النفايات التى تكدست لأيام فى شوارع العاصمة باريس، وحينها تم إلغاء زيارة كان سيقوم بها ملك بريطانيا تشارلز الثالث إلى فرنسا فى اللحظة الأخيرة خلال شهر مارس، بسبب مخاوف أمنية .

روضة فؤاد

تظل الاحتجاجات الأخيرة أحد أصعب التحديات التى تواجه ماكرون، لأن العنف هذه المرة يأتى من نظام مختلف، كما تقول مجلة «الايكونومست» البريطانية، حيث أشارت الصحيفة إلى أن الموجتين السابقتين من أعمال الشغب فى ظل رئاسته كانتا مرتبطتين بشكل مباشر بسياسة الحكومة، فى الحالة الأولى، زيادة ضريبة الكربون على وقود السيارات، وفى الثانية، رفع سن التقاعد.
وأضافت الصحيفة البريطانية: أما هذه المرة فلا علاقة لأعمال الشغب بماكرون بقدر ما تتعلق بطبيعة العمل الشرطى، خاصة الاستخدام المميت للأسلحة النارية فى شرطة المرور، حيث تعرض «نائل» وهو فتى يبلغ من العمر 17 عاما للقتل على يد شرطى فى منطقة نانتير بضواحى العاصمة الفرنسية باريس.
وبعيدًا عن تفاصيل ما حدث فى الأيام الماضية من احتجاجات، واعتقالات، وسرقة، ونهب وتخريب، فإن المشهد أبعد من مجرد مقتل فتى على يد شرطى، إذ يثير من جديد أزمة الضواحى الشعبية، والظروف الصعبة التى تواجه ساكنيها خاصة من الشباب.
وطبقًا لتقرير «فرانس برس»، يعيش 5.2 مليون شخص فى أحياء محرومة فى فرنسا، أى حوالى 8% من السكان، وفقًا لبيانات «معهد الإحصاء الوطنى» (إنسى) لهذا العام.
وفى عام 2014، حدّدت الدولة 1514 حياً فقيراً، عُرفت بـ «الأحياء ذات الأولوية لسياسة المدينة»، وهذه الأحياء هى بمجملها مناطق سكنية واسعة فى ضواحى المدن الكبرى، أو مناطق صناعية سابقة، أو أحياء بعيدة عن وسط مدن صغيرة ومتوسطة الحجم.
ووفقًا لتقرير صادر عام 2017 عن هيئة «المدافعة عن الحقوق» الفرنسية، يزيد احتمال أن يتعرض شاب يُنظر إليه على أنه من أصول إفريقية أو عربية إلى تدقيق أمنى بعشرين ضعفًا عن غيره.
ويتراجع الوضع الاقتصادى لقاطنى الأحياء الشعبية مقارنة بغيرهم، إذ يبلغ متوسط الدخل المتاح فى الأحياء الشعبية 13770 يورو سنوياً لكل أسرة، أى 1147.5 يورو شهرياً، مقارنة بـ21730 يورو فى المناطق المحيطة بها، وفق بيانات «إنسى» لعام 2020.
وطبقًا للأرقام والإحصائيات، يعيش أكثر من نصف الأطفال فى هذه الأحياء فى فقر (56.9% مقابل 21.2% فى بقية فرنسا)، وفق معهد الإحصاء الوطنى.
بشكل عام، كان معدل الفقر فى الأحياء الشعبية عام 2019 أعلى ثلاث مرات من أى مكان آخر فى فرنسا، إذ يعيش 43.3% من سكانها تحت خط الفقر، مقارنة بـ14.5% فى بقية المناطق. وإذا كانت الأرقام الرسمية تشير بوضوح إلى معاناة سكان هذه الضواحى الشعبية، فإن تحليلات معظم الصحف العالمية اتفقت على أن غضب الضواحى المهمشة فى فرنسا خطر متزايد يواجهه ماكرون، فعلى الرغم من أن الحكومات السابقة استثمرت مليارات اليوروهات لتحسين أوضاع الأحياء الشعبية، إلا أن هذه الجهود لم تأت بنتائج إيجابية، لأن الجانب الإنسانى كان مفقودًا، ودمج الشباب فى مجال العمل والتدريب كان منعدمًا.
وفى هذا الإطار، ذكرت صحيفة «لوموند» الفرنسية أن هناك غضبًا كامنًا، خاصة فى الضواحى، من الطريقة التى يشعر السكان بأنهم يُعاملون بها من قبل الشرطة، ونقلت الصحيفة عن»فابيان ترونج» عالم الاجتماع المتخصص فى الضواحى قوله «يقول الشباب إنهم يخضعون لفحص هويتهم وليس لما يفعلونه، هذه التجارب تترك بصمة دائمة فى المجتمع».
أما صحيفة «صنداى تايمز» البريطانية، فقالت فى تحليل مطول إنه منذ انتخاب ماكرون رئيسًا قبل ستة أعوام واجه احتجاجات من أصحاب السترات الصفراء، والاحتجاجات الأخيرة ضد قانون رفع سن التقاعد والذى اتخذ طابع العنف، ولكن الموجة الأخيرة التى انتشرت بسرعة غير متوقعة وقوتها ستكون على الأرجح أكبر وأكثر دموية.
وعلى طريقة «جورج فلويد»، الذى مات خنقًا فى الولايات المتحدة الأمريكية، أدى مقتل نائل إلى حالة من الغضب العام، واتهم معارضو الرئيس من اليمين بأنه يقوم بإثارة لعبة النار ولوم الشرطة، وطالبوا من الرئيس إعادة النظام العام، وكذلك اتحادات الشرطة التى قالت إنها فى حرب ضد «حشرات» و»جحافل متوحشة».
وذكرت الصحيفة البريطانية، أن مقتل نائل كشف عن عدد الأشخاص الذين قتُلوا على يد الشرطة بعد رفضهم تلبية الأوامر للتوقف، وفى العام الماضى، قُتل حوالى13 شخصا فى حوادث مماثلة، معظمهم عرب وأفارقة، وحالة نائل هى الثالثة هذا العام، وسُجلت فى ألمانيا أكثر من حالة منذ العقد الماضى، وفى بريطانيا كان مقتل مارك دوجان على يد الشرطة فى توتنهام، شمال لندن عام 2011، سببًا فى احتجاجات واسعة.
من جهتها، ذكرت صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية أن أيام الشغب التى تعيشها جميع أنحاء فرنسا كشفت مرة أخرى عن التوترات الاجتماعية الحادة فى البلاد فى وقت يتزايد فيه الاستقطاب السياسى، بما يذّكر بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة الجذور بالأحياء الفقيرة والإرث الطويل من إهمال الحكومة.
وأشارت الصحيفة إلى أن الاحتجاجات الأخيرة أظهرت أن الأحياء الفقيرة والمختلطة عرقيًا فى فرنسا لا تزال «على برميل بارود»، وأن مشاعر سكانها تعانى الشعور بالظلم والتمييز العنصرى وإهمال الحكومة لهم.
ورغم فداحة أعمال الشغب التى تشهدها فرنسا، إلا أنها لم تصل بعد إلى مستوى عنف الاحتجاجات التى وقعت فى عام 2005، عندما جرى إحراق أكثر من 10 آلاف سيارة وتضرر أكثر من 230 مبنى عام فى موجة شغب استمرت ثلاثة أسابيع.
وبحسب الصحيفة، تخشى السلطات تكرار ما حدث قبل نحو 18 عامًا، إذ أن أعمال الشغب التى اندلعت فى 2005 كانت حدثت أيضًا بسبب مقتل مراهق غير أبيض عقب مطاردته من بعض عناصر الشرطة.
وما يهدد بزيادة وتيرة الاحتجاجات، الدور المؤثر لوسائل التواصل الاجتماعى فى التشجيع على نشر الاضطرابات، ناهيك عن أن اليمين المتطرف أصبح أقوى مما كان عليه فى عام 2005.
وفى هذه المرة سعى الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، وحكومته إلى نزع فتيل التوترات قدر الإمكان بدلا من تأجيجها، وذلك على عكس ما حدث فى عام 2005، عندما وصف وزير الداخلية آنذاك، نيكولا ساركوزى، الشبان الذين تورطوا بأعمال شغب فى المجمعات السكنية خارج باريس بأنهم «حثالة»وينبغى التخلص منهم».
وبعد أيام قليلة من تصريحات ساركوزى تعرض شابان (موريتانى ومن أصل تونسى) للصعق بالكهرباء أثناء اختبائهما من الشرطة فى محطة كهرباء فرعية فى إحدى الضواحى شمال شرقى العاصمة، ووقتها، وقف ساركوزى ورئيس وزرائه، دومينيك دوفيلبان، إلى جانب الشرطة وأشارا إلى أن الصبيين كانا من اللصوص الخارجين على القانون.
وعلى النقيض من ذلك، وصف ماكرون إطلاق الشرطة النار على نائل، الذى كان يبلغ من العمر 17 عاما، عندما كان يقود سيارته فى نانتير، شمال غربى باريس، بأنه أمر «لا يغتفر» و«لا يمكن تفسيره»، وجرى إيقاف الضابط المتهم عن عمله، وذلك قبل اعتقال وتوجيه تهمة «القتل العمد» له.
وبناء على ذلك تعرض ماكرون لانتقادات عنيفة من قبل الأحزاب اليمنية ونقابات الشرطة لتقويضه مبدأ افتراض براءة العنصر، وجرى اتهام الرئيس الفرنسى بـخيانة جهاز الشرطة.
لم تختلف صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية كثيرًا، فقالت إن المدن الفرنسية مشتعلة بسبب العنصرية المنظمة، ونقلت الصحيفة دراسة مسحية تمت قبل فترة للسود والمهاجرين المقيمين بفرنسا، جاء فيها أن نسبة 9 من كل 10 واجهوا تمييزًا عنصريًا، وقالت الدراسة إن نصف المشاركين تم وقفهم وطلب منهم تقديم هوياتهم، وهى نسبة أعلى بضعفين عن بقية السكان الذين تحدثوا عن نفس الشىء.
وفى الأشهر الأولى للإغلاق بسبب وباء كورونا، وجدت دراسة مسحية لوكالة أنباء رويترز أن الشرطة فرضت غرامات ضد خمس دوائر بنسبة عالية من المهاجرين أكثر من أى مكان فى البلد.
وهذا التنميط العنصرى–بحسب الصحيفة- هو واقع يومى للملايين من المقيمين فى فرنسا، حتى لو ولدوا وعاشوا فيها لعدة عقود، وعادة ما أُشعِروا بأنهم لا ينتمون للبلد، وسجّل الباحثون، ولعدة سنوات، التمييز فى التعيينات وفى المدارس والشوارع.
وكان مقتل نائل هو الشرارة التى أشعلت أعمال الشغب فى باريس ومارسيليا والمدن الفرنسية الأخرى. وأشعلت النار فى فرنسا، فقد تم حرق السيارات والمبانى ورميت المواد الحارقة على شرطة مكافحة الشغب، وتم نهب المحلات والمتاجر ودُمرت آلات الصرف الآلى وهشمت النوافذ، وتم اعتقال حوالى ألف شخص فى الأيام الثلاثة الأولى لأعمال الشغب.
أما مجلة «لوبس» الفرنسية فأكدت أن وقف دوامة العنف وتهدئة العلاقات بين الشرطة والشباب من أحياء الطبقة العاملة يتطلب تغييرات عميقة، تبدأ من الاعتراف أولا بما هو واضح من أن هناك عنصرية مؤسسية فى الشرطة، وأخذ ذلك على محمل الجد، وجعل محاربة الشعور بالتهميش وبالإهمال من قبل أفقر السكان أولوية وطنية.
ورأت المجلة الفرنسية أنه منذ نحو 30 عامًا يوجد عنصرية متنامية بشكل خاص فى مؤسسة الشرطة، حيث حددت دراسة فى عام 2009 حجم الظاهرة، موضحة أنه «اعتمادًا على مواقع المراقبة، كان احتمال توقيف السود أكثر بنحو 3.3 إلى 11.5 مرة من البيض»، وأن العرب «تعرضوا لمخاطر أكثر بنحو 1.8 إلى 14.8 ضعف ما تعرض له البيض من التوقيف من قبل الشرطة».
وأشارت المجلة إلى أن العنصرية المؤسسية لا تحتاج إلى أفراد عنصريين صريحين، لأنها تنتشر من خلال الأعراف والسلوك العنصرى فى العمل اليومى للمؤسسة، ومن ثم يمكن أن يكون شرطىمن أصول مهاجرة هو نفسه، وفى الوقت نفسه يعتبر أن عمل الشرطة العادى ينطوى على افتراض أن الشخص غير الأبيض يشتبه فيه أكثر من الرجل الأبيض، وهو افتراض يولد التوتر ويشجع على استخدام القوة.