– 11 عاما على الحدث الذي خاف فيه المصريون على «هويتهم»
كتب : ايهاب الملاح
(1)
مرّت السنوات مسرعة والأحداث تتلاحق وبتنا نعيش ما يسميه علماء الإنسانيات «عصر السيولة الرقمية» و«الجماهير الغفيرة»، عقد كامل من الزمان مضى وانقضى على لحظةٍ لم تكن كغيرها فى تاريخ الملايين من المصريين، لحظة لا بد أن يتوقف أمامها التاريخ لاحقًا، وطويلًا، لأنها اللحظة التى استنفر فيها جهاز المناعة الوطنى الجمعى والشعبي؛ للدفاع عن وحدة ونسيج هذا الوطن، ومقدراته وآماله ومستقبله فى وجه جحافل الخراب المتلفع بالدين، والمستتر بجلال حضوره فى قلوب الناس، والمستغل للشعور الديني، والذى كاد أن يشعل النيران فى ربوع هذا الوطن، بل هو أشعلها بالفعل، وإن كان الله قد قيّض لهذا البلد من يتصدى لهذا المخطط، وأن يفشله وأن يتمكن من إطفاء هذه النيران، رغم كل التضحيات والدماء الطاهرة التى نزفناها، وما زلنا حتى اللحظة..
لقد جف ريقنا، ونحن نثبت بالدليل القاطع أن جماعات العنف والإرهاب المتقنعة خلف ستار الدين، ليست سوى التجلى الأحدث لما غرسه الإخوان المسلمون عبر تاريخهم؛ إنهم التنويعة الأكثر شراسة على نفس النغمة الفاسدة، التى تحصر المسلمين فى جماعة، والتى تزعم أنها تمتلك برنامجًا إصلاحيًّا (هكذا!!)
وكتبتُ – وكتب غيرى كثيرًا – أن كلَّ تيارات التأسلم السياسى العنيفة خرجت من عباءة الإخوان، وعندما حكموا، رأى الناس بما لا يدعُ مجالًا للشك، كيف يقيد الإخوان أيَّ جهدٍ حقيقى لتطهير سيناء من الإرهابيين المتأسلمين، وشاهد الجميع كيف تحول الإرهابيون السابقون إلى جنود احتياط للجماعة، تستخدمهم لإرهاب معارضيهم من التيار المدنى، ومن الأقباط، ومن المثقفين، ومن عموم المصريين، ومن كل ما عداهم من أطياف المجتمع، وفئاته وعناصره.
(2)
بعد 11 عاما على تلك اللحظة التى خرج فيها المصريون حشودًا بالملايين فى أرجاء البلاد كافة، يعلنون بحسم أنهم يرفضون السلطة الدينية، يرفضون أن تحكمهم جماعة باسم الدين وتعلى من الرابطة العقدية على حساب الانتماء الوطنى و«الجنسية المصرية»!
وما كان من أثر من آثار 30 يونيو، أظن أنه كان – وسيظل بمنأى عن الخلاف أو الاختلاف- فهو رأب الصدع الرهيب الذى كاد أن ينال من الهوية الواقية لهذا الوطن، والهوية الحامية للمصريين، عموم المصريين، ودفع الأذى الذى طال الملايين، وأحدث ما أحدث من انشقاقات وجروح فى نسيج المجتمع المصري، تشكيلاته وتكويناته الاجتماعية، وفصائله العائلية والأسرية.. إلخ.
حدثت المواجهات الحادة بل الاشتباكات العنيفة داخل الأسرة الواحدة، بين الأشقاء وأبناء العمومة، وبين الأصدقاء، وصارت المواجهة مواجهة «هوية» قبل أى شي! صراع بين هويتين لا تقبل واحدة منهما الانضواء فى الثانية، بوهم امتلاك الحقيقة، وبالتمسك بواحدية الرأى والتفسير الذى تناقلته أجيال عبر أجيال أوهم معتنقيه بأنهم «ملاك الحقيقة المطلقة»!
لم يؤمن تيار الإسلام السياسى – ولا أنصاره ولا أعوانه ولا تابعوه- يومًا بأن زمن الهويات الدينية (وهو من بقايا العصور الوسطى) قد زال وانتهى مهما توهم من توهم أنه باق!
كلمات مثل «وطن» و«وطنية» و«دولة مدنية حديثة»، ومؤسسات، كل هذه المفاهيم المركزية التى تؤسس لمفهوم «الدولة»، وتشكِّل الأعمدة الفكرية والثقافية لوجودها وبقائها (بغض النظر عن حكمنا اتفاقًا أو اختلافًا على طرق إدارة هذه الدولة بسياساتٍ ورؤى قد تكون محل نظر، أو بأساليب إدارة قد تكون قابلة للمراجعة والنقاش وحتى الرفض) فكل هذا فى النهاية يتم تداوله فى إطار الاتفاق على المفاهيم التأسيسية لقيام الدولة، وتكوينها المؤسسى والاجتماعى.
كان هذا ببساطة هو محور الصراع بين رؤيتين للهوية: رؤية تختزل الهوية فى «المعتقد» وتقدمه عما عداه، وتعتبره فوق أى ولاء وانتماء! ومن ثم فلا مجال لتجريم أو تخوين أو تأثيم من يعمل ضد الدولة أو يقود إلى هدمها وتقويض مؤسساتها ما ظل الدافع والمحرك «نصرة الدين» والانتماء للدين والدفاع عن الدين! وهذه الرؤية تعود بجذورها إلى نشأة تيارات الإسلام السياسى، عقب إعلان سقوط الخلافة العثمانية، وقيام الجمهورية التركية كدولة علمانية حديثة.. تلك واحدة.
أما الرؤية الثانية؛ وهى الرؤية المرتبطة بتكوين مصر الحديث، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، والتى تقوم على الوعى بالذات القومية أو بالانتماء الوطنى منذ اللحظة التى ظهرت فيها دولة مصر الحديثة على يد محمد على باشا (1805 – 1848).
(3)
فى تأصيله لسؤال «الهوية» فى تاريخ المصريين فى القرن العشرين، يمايز الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل بين ثلاث مسارات حددت الأطر الفكرية والثقافية للنظر إلى مسألة الهوية. فعندما دَخَلَت مصـر إلى القرن العشرين، استَوقفها سؤال هوية تاريخى كان لا بد أن تَرُدَّ عليه، ذلك أن تطورات القرن السابق (أى القرن التاسع عشر) – وقد انتهت تلك التطورات بالاحتلال البريطانى لها سنة 1882 – طَرَحَت عليها ذلك السؤال الحيوي، وكان عليها أن تَرُدَّ، ثم تُقاتِل إذا اقتضى الأمر دفاعًا عن اختيارها.
وكان المطروح على مصـر – آنذاك – ثلاثة خيارات:
1- مقاومة الاحتلال البريطانى لطلب الاستقلال، وإقامة دولة ذات سيادة من نوع ما عرفته أوروبا فى أعقاب الثورة الفرنسية، وليس هناك ما يمنع هذه الدولة ذات السيادة من التعاون بصفة مميزة مع الإمبراطورية البريطانية (صديق قوى يقدر فى رأيهم على مساعدتها – وكان من أنصار هذا الرأى الشيخ «محمد عبده» ومدرسته).
2- مقاومة الاحتلال البريطانى بقصد العودة إلى الخلافة العثمانية، وهى الإطار الجامع للشعوب الإسلامية باعتبار أن ذلك مكان مصـر الصحيح، ثم إنه الموقع الذى كانت فيه فعلًا قبل الغَزْوِ البريطاني، وكان أهلها فى حماه رَعِيَّة عثمانية – (وأنصار هذا الخيار يرون أن مطلب مقاومة الاحتلال البريطانى يحتاج أيضًا إلى قوة أكبر من قوة مصـر الذاتية، والحَلُّ هو الباب العالى – وكان من أنصار هذا الرأى «مصطفى كامل» وحزبه).
3- مقاومة الاحتلال البريطانى، والإصغاء جيدًا إلى دعوة قومية جديدة تُعطى للعَرَب بوِحدَة الثقافة وتَواصُل الجغرافيا وامتداد التاريخ خصوصية الأمـة فى المحيط الحضارى الإسلامى الأوسع. (وكان هذا الخيار، بحسب هيكل، نداءً بعيدًا خافت الصوت لا تساعده قُـوَّة إمبراطورية، ولا نداء خلافة قادرة أو عاجزة- وليس له بَعد نصير قوى له صوت يمكن سماعه!).
وكذلك كان مَطلَبُ مقاومة الاحتلال مُتَّفَقًا عليه.
وأما «سؤال الهَوِيَّة» فقد كان مَوْضِعَ اجتهادات مُتعارِضة.
(4)
ثم بقى سؤال الهَوِيَّة فى مصـر مُعَلَّقًا وحائرًا حتى جاءت ثورة سنة 1919 فأخَذَت بخيار الدولة الوَطَنِيَّة المُسْتَقِلَّة، وكان نجاحها الأعظم هو تَبَنِّيها لمبدأ «المُواطَنة» من واقع أنه وَطَـنٌ واحد يتعايش على أرضه دينان، ومن الإنصاف أن يقال إن نقطة التَحَوُّل فى هذا التَوَجُّه جاءت من قيادات قبطية.
فقد حَدَثَ فى بداية الثورة أن وفدًا تَشَكَّلَ لمقابلة المندوب السامى البريطانى لإبلاغه بمطالب وطنية على رأسها مطلب الاستقلال. ثم تَحَوَّلَ الوفد إلى حزب حمل نفس الاسم وهو «الوفد»، تعبيرًا عن أن المطالبة بالاستقلال ما زالت مُسْتَمِرَّة. ولم يكن «الوفد» يضم بين أعضائه حتى هذه اللحظة أقباطًا، وهنا ذَهَبَ عَدَدٌ من أقطابهم إلى «سعد زغلول» (باشا) الذى بَرَزَ كزعيم لا يُنازع للوفد المصرى يسألونه: «إذا كان مبدأ استقلال الشعب المصرى هو المطلوب فكيف يجوز تشكيل الوفد المصرى المُطالِب به – دون أقباط مصر؟».
وكانت تلك علامة فارقة فى مسار الحَرَكة الوَطَنِيَّة المصرية.
وعلى مدار عقود طويلة؛ تعاركت وتصارعت تيارات وأيديولوجيات عدة على وعى المصريين؛ هناك من أراد عزلهم عن أى محيط جغرافى أو ثقافى أو حضارى والادعاء بأنهم محض نقاء عرقى أسطورى متعال. وهذا وهم! وهناك من أراد قطع جذورهم الإنسانية والتاريخية والحضارية التى تمتد لآلاف السنين؛ والادعاء بأنها فقط، وليس إلا، حاملة دعوة وناطقة بيان حتى لو كانت هذه الدعوة تحت مظلة دينية! وهذا مما تأباه قوانين الجغرافيا والتاريخ والعمران البشرى (بتعبير أبى علم الاجتماع الإنسانى ابن خلدون!). وهناك من رأى الاقتصار على عنصرى اللغة والثقافة فقط، ومن ثم تهميش بقية العناصر والعوامل التى تختلط وتمتزج امتزاج الدم فى تحديد ملامح وخصوصية من نطلق عليهم الآن «مصريون».
وهكذا وطوال الوقت محاولات استزراع هويات بلا حدود.. كنا نتحدث عن وطنية مصرية مرتبطة بالمشرق، وتكلمنا عن وطنية مصرية كجزء من القومية العربية أو عنصر من عناصرها المهمة، ثم تحدثنا عن حركة قومية، شاملة، ثم فجأة أصبحت مصر وحدها، ثم دخلنا فى تناقض الفرعونية واللغة التى تتحدثها، والصلاة التى تصليها.. إلخ.
ثم يتعرض تراثنا الإنسانى وإرثنا الحضارى لحملاتٍ من المسخ والتشويه والتقليل من قيمته والنيل من تاريخ الحضارات القديمة (المصرية القديمة، المصرية اليونانية الرومانية، مصر القبطية) ويصل الأمر إلى حد تزييف التاريخ القديم بالكامل، وسرقته ليتسق مع إنشاء واقع حاضر ملفق لكياناتٍ ضحلة فقيرة وهويات منغلقة وأيديولوجيات أحادية مدمرة.
(5)
من الناحية التاريخية؛ دأبت كل المجتمعات على مراجعة هويتها، وبخاصة عقب الأحداث الكبرى، أو فى لحظات التحول الحاسمة، فعرف الغرب: «شخصية بريطانيا» لسيريل فوكس، و«شخصية فرنسا» لمايك كرانج، و«هوية فرنسا» لفرناند برودويل، و«الهوية والعنف» لأمارتيا صَن الذى أثار جدلًا واسعًا فى أوساط النخب الثقافية، وبحسب المفكر والمحلل السياسى البارز سمير مرقص فى بحثه الممتاز عن محددات الهوية المصرية، يقول:
وفى مصر عرفنا كتابات من النوع الثقيل فى هذا المقام مثل: «تكوين مصر» لمحمد شفيق غربال، و«وحدة تاريخ مصر» لمحمد العزب موسى، و«شخصية مصر» لجمال حمدان، و«الشخصية المصرية» لطاهر عبد الحكيم… الخ. أين المشكلة، إذن؟ المشكلة تكمن فى أمرين؛ هما:
الأول: عندما تتحكم التحيزات السياسية أو الدينية، المحض، فى بلورة مسألة الهوية.
الثانى: عندما ننقطع عن الزخم المعرفى الذى تراكم عبر عقود حول قضية الهوية. وعليه تكون النتيجة الحتمية أن التحيز السياسى/ الدينى سوف يؤدى إلي: إما احتكار الهوية أو اختزالها. وبدلًا من أن يتسم الحوار حول الهوية بالجدل المعرفى نجده يتحول إلى سجال خلافى. فى هذا السياق، أذكر كلاما للراحل أحمد بهاء الدين ـ فى إطار الحوار الفكرى المهم جدا الذى انطلق ردًا على ما أثاره توفيق الحكيم حول حياد مصر سنة 1978، لفت فيه النظر إلى أن حياة الأمم بها ثوابت ومتغيرات، وأن هناك من يخلطون بين الثوابت والمتغيرات فيها، من حيث منهجية التعاطى معها، الثوابت يتصدى لها المفكرون. والمتغيرات تدخل فى باب السياسة، وهذا الخلط يعد داء خطيرا.
بلغة أخرى حديث الهوية لا بد من التعامل معه بالفكر والحوار استنادا إلى التاريخ والجغرافيا والثقافة والتطور الاجتماعى.
أما إشكاليات السياسة اليومية فلا بد أن تعالج من خلال أسس الدولة الحديثة التى تقوم على إعمال القانون والمواطنة والقنوات المدنية. أو مرة أخرى التمييز بين الرؤية المعرفية، والمصلحة السياسية. والإشكالية الحالية هى أن «حديث الهوية» بات محتكرًا باسم الدين إلى الدرجة التى تطابق بين الدين والهوية من جهة، واختزاله فى عنصر منفرد من جهة أخرى.
والنتيجة التجاور بين المختلفين، وربما النفى لبعضهم البعض. ولو عدنا إلى الذهنية التى حكمت الكتابة الدستورية فى دستور الإخوان الكارثى 2012، هو تقسيم المصريين على أساس دينى.. وتلك كارثة، وأى كارثة!
وبالرغم من أن الواقع المصرى المعاش قد قبل بالتنوع الثقافى والدينى لأسباب تتعلق بموقع مصر، وبعبقريتها المكانية، وبقدرتها الاستيعابية على هضم التنوع الثقافى.. فإن النص الدستورى قد استعار حالة عثمانية فى التعاطى مع الأفراد باعتبارهم مللا وطوائف لا مواطنين.
مما سبق لا بد فى طرحنا لمن نحن؟ السؤال الأساس فى حديث الهوية، أن نتحرر من «التسييس/ التديين»، وأن ندرك أن الهوية مركب متعدد العناصر. وأن نأخذ فى الاعتبار ما يلى:
عدم التعامل مع الهوية باعتبارها ساكنة أو ثابتة لا يطرأ عليها أى تغير عبر التاريخ. فالهوية نسق مفتوح يؤثر ويتأثر، يتفاعل، وفى الأصل يتكون ويتبلور ويصقل عبر الزمان. وعليه فإن الهوية لا تعبر عن حالة سكونية مستقرة وراسخة بل هى حالة ديناميكية، وربط الهوية بعنصر وحيد مثل الدين أو العرق، أو ما يعرف بالهوية ذات الارتباط الأحادى التى تفترض، باختزالية شديدة وبتضليل قد يكون متعمدا، الارتباط المفرد بهوية واحدة، حصرا، فالهوية فى الواقع تحمل الدين والثقافة واللغة والطبقة… إلخ.