رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

«الأدب الجغرافي العربي».. دعوة للمعرفة والبحث الأصيل!

499

قبل عامين تقريبًا كنت قد فرغت من تأليف كتابي عن (سرديات البحر في التراث العربي) الذي جعلني أتعرض بمزيدٍ من القراءة والتحليل والاهتمام بتآليف أدب الرحلة والارتحال (وخاصة في مساراتها البحرية الطويلة، ونقاط السفر وصولا ومغادرة، والانتقال من ميناء إلى آخر)، كان من حظي أنني تفرغتُ وقتًا لا بأس به لقراءة ومعايشة نصوص باهرة في تراثنا السردي الزاخر، سواء كانت أدبية بحتة (نصوص الرحلات، والقصص الخيالي، الرسمي والشعبي، ورحلات السندباد البحري، وكتاب بزرك بن شهريار.. إلخ) أو كانت كتب الجغرافيا الطبيعية والوصفية وكتب المسالك والممالك وفتوح البلدان ومعاجمها، لابن حوقل والمقدسي والإصطخري والإدريسي وياقوت والقزويني والبيروني والمسعودي وغيرهم).

إيهاب الملاح

(1)

أثناء عملية البحث وجمع المادة، وجدتنى أغوص بنعومةٍ وانغماس كامل فى عالم ممتع من الخيال والتخييل والسرديات العجائبية والغرائبية والنصوص التى يزخر بها تراثنا الحكائى بدءًا من النص السردى الأكبر والأعظم «ألف ليلة وليلة»، وحتى كتب «الجغرافيا» الوصفية، وكتب البلدان و«المسالك والممالك» (أشرنا عاليه إلى أشهر وأبرز مؤلفيها فى التراث العربي)، و«أدب الرحلات» ونصوص الرحالة، والارتحال إلى الأقاصى والجزر النائية، كل ذلك فضلًا على الاطلاع على كتب «العجائب» و«الغرائب»، وبالجملة كل ما تناول من قريب أو بعيد حضور «الرحلة» و«الارتحال»؛ فضاء وجغرافيا، وتخييلا وخيالا، وعوالم نائية ومكتشفة… إلخ فى تراثنا السردى المهيب.

وكان من حظى أن سبقنى إلى اكتشاف هذا العالم الزاخر باحثون ودارسون عظام تركوا لنا مؤلفات رائعة لم يكن من الممكن تجاوزها أو التغافل عنها، بل قد صار من الضرورى الوقوف عندها والتنويه بها بدورها، وإعادة اكتشاف ما تسلطه من أضواء على هذا الموضوع الفريد فى تراثنا الزاخر؛ ومن هنا كان الوقوف وقفات متأنية وعارضة ومحللة لكتاب الدكتور حسين فوزى على سبيل المثال «حديث السندباد القديم»، أحد أفضل الكتب التى قرأتها عن سرديات وأدبيات الرحلة والارتحال، وفنون البحر والبحار والقصص المتخيل فى تراثنا البحرى الزاخر.

وكذلك الموسوعة الكبرى «تاريخ الأدب الجغرافى العربي» التى أنجزها المستشرق الروسى الكبير إغناطيوس كراتشكوفسي، وهى موسوعة فريدة ونادرة فى بابها؛ وفى منهجها وغزارة مادتها، وقدرة مؤلفها المثابرة على الحصر والجمع والاستقصاء والتتبع والتأريخ!

(2)

وطوال سنوات، وأنا أروح جيئة وذهابا فى رحاب تراثنا الجغرافى وتراثنا السردى فى أدب الرحلة (أو كما أسماه أحد أساتذة الجغرافيا العظيم الجغرافيا المبصرة)، وفى رحاب التجوال عبر البحار والانتقال من وهاد وجبال إلى صحراوات وسهول وسهوب بين بلدان وبلدان.. فى ثنايا هذا الارتحال المعرفى كان ثمة كتابان هما زادى ومعادى فى رحاب هذه الجغرافيا المبصرة (أدب الرحلة والارتحال والرحلات)، وفى رحاب هذه الجغرافيا المتوهمة (السرد القصصى الخيالي).

أشرت إلى كتاب «حديث السندباد القديم»، للعلامة وأستاذ علوم البحار والرحالة، والأديب والطبيب، والناقد الموسيقى العظيم الدكتور حسين فوزي، (راجع: حسين فوزي: «حديث السندباد القديم»؛ سلسلة ذاكرة الكتابة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2020)

وهو كتابٌ لا مثيل له فى ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة، فى غزارة مادته وحسن تبويبه وتقسيمه وإحكام تخطيطه واستيفائه لموضوعه، واستقصائه المدهش لكل تفاصيل وجوانب أدب الرحلة وأدب البحر والاستكشافات الجغرافية والمراوحة بين الواقع والخيال.. وأنا مفتون بهذا الكتاب، وكتبت عنه مرارا وكثيرا، وأحسبنى سأكتب عنه مجددًا فلذة مطالعته ومعاودته محرضة ومحفزة على قراءة جديدة ورؤية جديدة ومعرفة جديدة!

أما الكتاب الآخر؛ وهو الأقدم جمعا وتأليفا فهو للعلامة المستشرق الروسى الكبير إغناطيوس كراتشكوفسكي، صاحب الكتاب/ الموسوعة «تاريخ الأدب الجغرافى العربي» الذى لم أقرأ له مثيلًا فى غزارة مادته وعمق تحليلاته وقدرته الاستقصائية المدهشة عبر تاريخ الحضارة الإسلامية، يوم كان رواد المعرفة من طلاب العلم، وحملة الشريعة وعشاق البحث وأبطال المغامرات يجوبون المجاهل والمفازات ويعانون أعاصير البحار والمحيطات فى أرجاء العالم المعروف الآن، المجهول إذ ذاك.

(3)

وموضوع الكتاب فى دراسته الواسعة للأدب الجغرافى العربى يتناول بالبحث والاستقصاء والجمع كل ما خطه أقلام أعلام الجغرافيين، والرحالين والمغامرين الذين ارتادوا صحارى إفريقيا وممالك أوروبا وآسيا وجزائر المحيطات النائية بوسائل وإمكانيات محدودة. ولكنها كانت مفيدة ومذهلة إن لم يكن على مستوى دقة المعلومات وصحتها فعلى مستوى الطريقة التى صيغت بها هذه المعارف سرديا.

ولعل الصفحات الغزيرة التى سودها كراتشكوفسكى باقتدار فى الأدب الجغرافى العربى خير دليل -لمن كان يلتمس الدليل- على اتساع آفاق الأدب العربى فى ضروب من المعرفة والثقافة والبحث إلى جانب ما يمتاز به من ربط حلقات الثقافة والحضارة، واستيعاب منابع الفكر الإنساني. مع استجابة، وانسجام. وأخذ وعطاء.. بنص عبارته، كما دونها المستشرق الروسى الكبير:

«إن المكانة المرموقة التى تشغلها الحضارة العربية فى تاريخ البشرية لأمر مسلم به من الجميع فى عصرنا هذا. وقد وضح بجلاء فى الخمسين عامًا الأخيرة فضل العرب فى تطوير جميع تلك العلوم التى اشتقت لنفسها طرقًا ومسالك جديدة فى العصور الوسطى. ولا زالت حية إلى أيامنا هذه -أعنى علوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا- أما فيما يتعلق بالأدب الفنى العالمي، فإن العرب قد أسهموا فيه بنصيب وافر يمثل جزءًا أساسيا من التراث العام للبشرية، كما امتد تأثيرهم كذلك إلى عددٍ كبير من المصنفات والفنون الأدبية التى نشأت فى بيئات غير عربية».

وبالطبع -والحديث ما زال متصلا لـ كراتشكوفسكي- «ليس فى وسع جميع الفنون المختلفة للأدب العربى الحافل أن تدعى لنفسها مكانة واحدة من حيث القيمة. ومن حيث الأهمية العلمية. وإذا كان بعضها مثل علم اللغة والعلوم الشرعية يمثل موضوعا لدراسات المتخصصين، الأمر الذى لا يمنع بالطبع من أهمية استقراءاتهم، فى حالات معينة بالنسبة للنواحى العريضة فى تاريخ الحضارة، إلا أن عددًا من فروع الأدب العربى قد اكتسب أهمية تجاوزت بكثير حدود اختصاصاته الضيقة..

ولعل هذا يصدق -قبل كل شيء- على الأدب التاريخى والجغرافى العربى الذى اعترف العلماء به منذ عهدٍ بعيد بأنه المصدر الأساسى والموثوق به فى دراسة ماضى العالم الإسلامي. إذ تتوفر فيه مادة لا ينضب معينها لا للمؤرخ والجغرافى فحسب، بل أيضًا لعلماء الاجتماع والاقتصاد ومؤرخى الأدب والعلم والدين وللغويين وعلماء الطبيعة، ولا يقتصر محيط الأدب الجغرافى العربى على البلاد العربية وحدها بل يمدنا بمعلوماتٍ من الدرجة الأولى عن جميع البلاد التى بلغها العرب أو التى تجمعت لديهم معلومات عنها.

وذلك بنفس الصورة المتنوعة التى وصفوا بها بلاد الإسلام، وقد يحدث -أحيانًا- أن تمثل المادة الجغرافية العربية إما المصدر الوحيد أو الأهم لتاريخ حقبة معينة لقطر ما»..

هكذا يُقبل هذا المؤلف على دراسة موضوع الأدب الجغرافى عند العرب، وهكذا يقدر أهمية هذا الإنتاج باعتباره إنسانيًّا لا يهم العرب وحدهم، ولا يشغل حيزًا معينًا من أدبهم، ولكنه فى نفس الوقت يحتفظ للفكر البشرى والثقافة الإنسانية بجواهر ثمينة، ورصيد قيم خالد لا تبليه الأيام..

(4)

صدرت الترجمة العربية من هذا الكتاب عن لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة سنة 1943 فى مجلدين كبيرين، اضطلع بترجمتهما الأديب والمثقف السودانى الرائع صلاح الدين عثمان هاشم (راجع: إغناطيوس كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافى العربي؛ ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1943).

ويكفى لبيان أهمية ومركزية وقيمة هذا الكتاب تلك الإشارات المضيئة التى سجلها لنا عن هذا «الكتاب/ الموسوعة» أحد أبرز وأهم الجغرافيين المصريين والعرب على الساحة الآن، وهو الدكتور عاطف معتمد أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة. فماذا يقول؟

فى عام 1989، كنت طالبًا فى الصف الثانى بالجامعة (كلية الآداب، قسم الجغرافيا بجامعة القاهرة)، حين عرفت موسوعة من جزأين تحمل عنوان «تاريخ الأدب الجغرافى العربي». كنتُ أنا ونفر من زملائى نكتفى من الكتاب بالفوز بمعرفة هجاء اسم المؤلف هجاءً صحيحًا، دون تلعثم أو تعثر، وندخل فى مسابقاتٍ ضاحكة لمن ينطق اسمه دفعة واحدة: «إغناطيوس كراتشكوفسكي».

ومع أننا كنا نردد اسم «كراتشكوفسكي» باختلاف درجة النجاح فى الهجاء، فإن اسم مترجم الكتاب «صلاح الدين عثمان هاشم» وقع فى ظلم مرتين:

– مرة لأنه لم يكن جغرافيًّا، ولم نقرأ له كتابًا آخر،
ولا درسنا عنده، أو قرأنا له مرجعًا.

– ومرة لأنه كان أديبًا وباحثًا سودانيًّا، ولم يتردد اسمه لا فى قاعات المحاضرات، عند أكابر العلماء المصريين، ولا فى الأوساط الثقافية المصرية؛ ومن ثم لم يحصل على حقه فى المديح والإطراء الذى يستحق لما قام به من دور عظيم فى الترجمة الرائقة المنضبطة السلسة.

وهذا الكتاب هو جزء من مجموعة أعمال المستشرق الروسى الكبير «كراتشكوفسكي»، الذى صدر عام 1957، فى أوج مجد الاتحاد السوفيتي، ونشر فى المدينتين العاصمتين: «موسكو» و«ليننغراد»، وتمكنت الجامعة العربية من تكليف المترجم بنقله إلى العربية».

ويتابع الدكتور عاطف معتمد شهادته.

«لم أنتبه آنذاك لتاريخ صدور الطبعة العربية، لكنى أذكر أن المترجم ذيّل اسمه فى نهاية مقدمته بعبارة: «الخرطوم، فى عام 1961». وهذا أمر مدهش جدًّا. ينقل المترجم عصارة فكر مستشرق كبير بعد 3 سنوات فقط من صدور العمل الأصلي؟!

انظر إلى التأخر الذى نحن فيه اليوم فى 2024!».

(5)

وأظن أن السؤال الذى يطرح نفسه: لماذا الانتباه الآن إلى هذا الكتاب؟ ولماذا التركيز على تقديمه والتعريف به؟

الإجابة ببساطة أننى أومن بأن دورا من أهم أدوار المثقف والمشتغل بالرأى والمجال العام هو الربط بين احتياجات اللحظة الراهنة وما أنتجه العقل البشرى من معرفة وعلم واختطاط طرائق دقيقة للبحث والدرس والتحليل، سواء كان هذا النتاج فى التراث البعيد أو القريب، بلغتنا أم بلغات أخرى.. ومن هنا فإننى على قناعة بضرورة السعى لاكتشاف الأعمال التى أنجزت فى تراثنا القريب وبخاصة فترة الازدهار المضيئة فى الثقافة المصرية (والعربية) فى القرن العشرين، تحديدا منذ ثورة 1919 وحتى نهاية الستينيات منه!

ذلك أن هذه الفترة شهدت إنتاجا زاخرا شكل فى مجموعه ما عرف وشهر بـ (القوة الناعمة المصرية) وكان من ضمنها حركة التأليف والترجمة والنشر والاضطلاع بنشر العلوم والمعارف ليس فى مصر فقط إنما إلى محيطها الإقليمى والعربى والإسلامى والأفريقي.. بل والآسيوى والأمريكى اللاتينى أيضًا! تخيل!

وقد كان هذا الكتاب واحدا من الثمرات الحلوة الطيبة لجهد مؤسسة مصرية رائعة عريقة لم تأخذ حقها للأسف لا من الشهرة ولا من التأريخ، لكن هذا حديث آخر سأعود إليه لاحقا، فقط يكفى أن أشير إلى أن هذا الكنز المعرفى الزاخر الذى يقع فى مجلدين كاملين لم يطبع منذ العام 1943 وحتى وقتنا هذا!! فماذا نحن فاعلون الآن؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه والإفاضة فى بيانه الأسبوع القادم بمشيئة الله..




503 Service Unavailable

Service Unavailable

The server is temporarily unable to service your request due to maintenance downtime or capacity problems. Please try again later.

Additionally, a 503 Service Unavailable error was encountered while trying to use an ErrorDocument to handle the request.