نجوم وفنون
«الجوكر 2».. نهاية أسطورة بائسة!
By amrأكتوبر 22, 2024, 14:41 م
772
نشاهد الأفلام كما صنعها أصحابها، محاولين إلغاء فكرة التوقعات، حتى لا يعمل فيلم موازٍ فى أذهاننا، يشوش على الفيلم المعروض، لكن الجزء الثانى من الفيلم الأمريكى «الجوكر»، وعنوانه كاملاً: «الجوكر.. جنون ثنائي»، يبدو عملا رديئا ومشوشا ومتعثرا، سواء لمن ذهب وفى ذهنه نجاح الجزء الأول، وأحداثه المثيرة، التى دفعت بطله آرثر فليك (الجوكر) أن يقتل خمسة، من بينهم مذيع شهير استضافه على الهواء، ولعب دوره روبرت دى نيرو، مثلما سيبدو الجزء الثانى أيضا عملا رديئا ومفتعلا، لمن لم يشاهد الجزء الأول، وبالتالى لا يمتلك أى توقعات إيجابية تجاه الجزء الجديد.
الغريب أن مخرج الجزء الثاني، والذى اشترك أيضًا فى كتابته، هو تود فيليبس، مخرج وكاتب الجزء الأول، الذى صنع شيئا يهدم تماما كل ما صنعه من قبل، ويحول شخصية الجوكر إلى شبح باهت، ثم يتخلص منها فى النهاية!
لا مشكلة عندى فى كسر “كتالوج” صنع الأجزاء على الطريقة الأمريكية، والذى يحافظ على عناصر التميز فى الشخصية المحورية، ويطورها، ويضيف إليها، أو يأخذها إلى آفاق أوسع وأعمق، وربما كانت فكرة فيليبس أن يهدم أسطورته، أو ينتصر للواقع فى مقابل العالم الخيالى الذى يعيش فيه الجوكر.
لا بأس أبدا فى ذلك، لكن المفترض أن يتم ذلك بصورة متماسكة وناضجة ومقنعة، أما أن يضيق عالم الجوكر، ويضيق عالم الفيلم، فنتحرك من السجن إلى المحكمة وبالعكس، ثم تضاف أغنيات يؤديها بطل الفيلم خواكين فينيكس، مع بطلته الليدى جاجا، بصورة تقليدية على طريقة الأربعينيات، وبصورة رومانتيكية متكررة، توقف تدفق السرد، فإن هذه الخطة البديلة تبدو فاشلة بل كارثية، فلا أنت قدمت وطورت عالم الشخصية الأصلي، ولا أنت قدمت شيئا جديدا ومبتكرا، بل إن الجزء الثانى يدمر تماما الأساس الذى قام عليه الجزء الأول.
الحقيقة أن الخلل موجود أيضا فى الجزء الأول، الذى حقق نجاحا ضخما، وحصد مليارا من الدولارات، وفاز الجزء الأول بالأسد الذهبى من مهرجان فينيسيا، وبجائزتى أوسكار، وغطت وقائع القتل، وحضور مدينة جوثام بناسها وشوارعها، وارتباطها الواضح بالمدينة الأمريكية المعاصرة، ولعب الأداء الفذ لخواكين فينيكس فى دور الجوكر، دورا محوريا فى التغطية على خلل درامى كبير، بتحويل مريض نفسى إلى رمز للتمرد، ومحاربة الظلم، وهذا سبب شعبيته وسط الناس. إنه البطل الضد فى حالة مرضيّة واضحة، والفارق، كما ذكرت فى مقال تحليلى للجزء الأول، أن الاضطراب العقلى مرض يدمر الوعي، بينما يبدو التمرد موقفا واعيا ضد المدينة، وضد سطوة الآخر، وبين الاضطراب والوعى مسافة شاسعة.
السيد تود فيليبس فرح طبعا بالنجاح، لكنه يبدو فى الجزء الثاني، محتارا فيما يفعله بالشخصية الجذابة، وممثلها الفذ، فالمطلوب هنا أن يقع الجوكر فى الحب، وأن تكون هناك مقدمة كارتونية مغناة يؤديها الجوكر مع شبيه له، تتحدث عن قلة الحب فى العالم، لكن ما إن ندخل إلى عالم السجن، حتى نرى آرثر وقد أصبح نحيفا للغاية، ممتثلا لتناول الدواء، يسأله الحراس عن آخر نكتة، ويفترض أن محاميته تريد إثبات أنه مريض بالفصام، وأن بداخله شخصا شرسا اسمه الجوكر، هو من ارتكب جرائم القتل الخمسة، يضاف إليها جريمة سادسة هى قتل أمه، وهى جريمة اعترف بها آرثر فى فيلمنا الجديد.
على ضوء إثبات جنون آرثر أو وعيه ستتحدد مسئوليته فى محاكمته، التى ستثتأثر بمعظم الفيلم تقريبا، لكن ليس قبل أن يتعرف آرثر على الفتاة لي، وبطريقة ساذجة تمامًا، فنحن نظن فى البداية أنها مريضة، تنتظم فى دروس علاج بالموسيقى، ثم نكتشف أنها دارسة لعلم النفس، تطوعت إعجابا بعنف آرثر، فأخذت تغنى معه أكثر من مرة، وأخذ هو يتخيلها فى عالمه الخاص، بل تقول له فى أحد المشاهد إنها حامل (منه بالتأكيد)، وتحاول أن يهربا معا، حتى يبنيا جبلا كما تقول، ولكن محاولة الهرب تفشل، ويساق أرثر إلى المحاكمة، محاميته تريد تأكيد مرضه، ولى تطلب منه محو هذه الفكرة، لأنه ارتكب جرائمه واعيا ومتمردا، ومخلصا للمدينة من أشرارها!
ثغرات بالجملة فى هذه الخطوط، فلا يمكن لآرثر أن يعيد الثقة بسهولة فى لي، رغم معرفته أنها خدعته أيضا كالآخرين، والمكان الذى يقبع فيه، ليس مفهوما بالضبط هل هو سجن أم مستشفى؟! وحصول آرثر على حبوب للعلاج كما شاهدناه عدة مرات، يؤكد أنه مريض، فما الحاجة إلى إثبات ذلك من جديد؟! وإذا كان آرثر مريضا يتناول أدوية تسيطر على سلوكه العنيف، فكيف يبنى الفيلم كله على مشاهد محاكمته؟! وحتى إذا لم يتناول آرثر الدواء، فنحن نرى بالنظرات والهيئة وبالخيالات التى يعيش فيها أنه مضطرب بالفعل، فكيف سيحاول وكيل المدعى العام إثبات وعيه وإرادته؟! هل يمكن أن يكون ممثلا بارعا إلى هذا الحد؟!
لكن الثغرة الأكبر أن هذا الخنوع الذى يظهر عليه الجوكر يؤسس لانفجار لن يحدث، فالجوكر سيدافع عن نفسه، مؤكدا أنه غير مجنون، كما أرادت لي، لكنه يواجه أحد جيرانه فى المحاكمة، وينتهى إلى القول بأن شخصية الجوكر لا وجود لها، مما يغضب لي، فتغادر المحكمة، وينفجر المكان، ليموت كثيرون، إلا آرثر الذى يخرجه أحد معجبيه، وفى مشهد آخر تتركه لى وحيدا، فقد أحبت الجوكر وليس آرثر، المجنون المتمرد، وليس الضعيف الخانع، ثم يقضى السيناريو على آرثر نهائيا بطعنة من أحد زملاء السجن المرضى!
تحطمت الأسطورة نهائيا، دون أن نفهم سبب ذلك، فإذا كان المشاهد قد ابتلع تأرجح آرثر بين الجنون والتمرد، واعتبره تجاوزا من مظاليم جوثام المدينة التى لا مكان فيها للضعفاء، وإذا كنا قد تغاضينا عن قيام شاب مختل بقيادة ثورة الضعفاء، مما يجعلنا أمام فوضى كاملة، فإن الجزء الثانى ينفى أى شبهة لتمرد واعٍ، أو لمظلومية مختل، مصيره الطبيعى هو السجن بل العقاب الرادع، وهكذا يقتل الجوكر جسدا، بعد أن قتله السيناريو كفكرة، وفى المواجهة بين آرثر، وجاره القزم الذى شهد عليه، ما يثبت أن آرثر أضر الجميع، وحتى لى الحمقاء، التى يفترض أن تشاركه الجنون، كما يقترح عنوان الفيلم، تتركه بمفرده، ويبدو أنها أكثر عبطا وسطحية من آرثر، وهكذا نمضى ما يقارب الساعتين والنصف فى مباراة من الحماقة، مع فواصل غنائية رومانسية، فأى معنى لكل هذا الهراء؟!
فى أمريكا يصنعون أيضا أفلاما رديئة، والجوكر الشرير فى عالم الكوميكس، استدعى من جديد ليدر الملايين، منحوه ماضيا ومعاناة نفسية فى طفولته، وجعلوا جرائمه عنوانا على التمرد والرفض، وجعلوا شعاره ابتسامة مجنون، فكأن الظلم يولد الجنون والفوضى، لكن الفوضى والجنون لم تحققا عدلا، ولم تطهرا المدينة، لذلك، أنجبت هذه الفبركة مزيدا من الفوضى والتشوش، ولم ينقذ الغناء ولا الحب ولا الرومانسية ولا صوت ليدى جاجا آرثر فيليك، ولا الجوكر، ولا أداء فينيكس المميز هذا الجزء الجديد البائس.
ظل الجوكر فكرة كاذبة لا يستطيع أن يتحملها آرثر فيليك، ولا تتحملها الدراما، وظل الواقع أقوى من الخيال، والمرض أقوى من التمرد، وصارت السذاجة عنوانا على المعالجة كلها.
ومع ذلك، لن أستغرب أن يبعثوا الجوكر فى جزء ثالث، أو قد تلد لى طفلا شرسا، لتعويض شبح والده الخانع، فالمهم أن تستمر الأسطورة، وأن تعيش الفبركة تحت مظلة الإبهار والعنف والتمرد الزائف.