https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-5059544888338696

رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

لا تُعلّقوا الجواهر في أعناق الخنازير

263

بقلم : د. مجدي العفيفي

(1)

الجوهرة التي لا تُرى…
في كل زمن، يتكرّر المشهد ذاته: تقدّم النخبةُ المخلصة أفضل ما تملك—من فكرٍ، وموقف، وقيم، وصبر—لأناس لا يستحقون. يعلّقون الجواهر في أعناق الخنازير، لا حبًا فيهم، بل ظنًا بأن الكرم يُصلح الطباع.

لكن الحقيقة المرّة تظل قائمة: الخنزير لا يقدّر الجواهر، بل يجرّها في الوحل مزهوًّا.
هذه ليست مجرد استعارة. إنها توصيف دقيق لحالة شائعة في السياسة والمجتمع والعلاقات الإنسانية والدولية. حالة تتجلّى في مشهد متكرر: من لا يستحق، يتلقى. ومن يعطي، يندم.
في الحياة.. في السياسة.. في المجتمع.. في العلاقات بين الدول.. في العلاقات بين الناس.
لا تُهدروا اللآلئ على من لا يعرف قيمتها..

لا تُهْدوا النور لمن أدمن العيش في الظلام،..

لا تُزيّنوا القبح بما لا يستحق إلا النزع لا التجميل.

في كل زاوية من هذا العالم، ينتصب خنزير يتباهى بعقد من الجواهر لا يدري عنها شيئًا.. يركض في الطين، يلوّثها، ثم يرفع رأسه مزهوًّا ليقول: “أنظروا إليّ! أنظروا إلى بريق ما أملك!”
لكن البريق لا يرفّ في أعين العميان.. والجواهر لا ترفع قدر السفهاء.

(2)

في السياسة = حين تُكافأ الرداءة :
لطالما ارتكبنا، في مجتمعاتنا العربية، جريمة تزيين من لا يستحق.
تُمنح المناصب لا لأهل الكفاءة، بل لأهل العلاقات.. تُعلّق الأوسمة لا على صدور المناضلين، بل على صدور المتسلّقين.. ويُبجَّل القائد لا لأنه قاد.. بل لأنه صمت حين طُلب منه أن ينطق.
كم من شعوب تعبت، وثارت، وأهدت نُخَبَها أغلى ما تملك: صوتها، أملها، دماء أبنائها… فإذا بالنخب تردّ الجميل بخيانة ناعمة، وعناق بارد، وابتسامات تلمع بالزيف.. يعلّقون شعارات الإصلاح، والتنمية، والسيادة، على خنازير تبيع البلاد في المزاد.. فتغدو الشعوب كما لو أنها سكبت شرفها في كأس أحدهم.. فبصق فيه ومضى.
كم من دولة مُنحت الدعم، والاحتضان، وفتحَت لها أخرى خزائن الصبر والاحترام، فردّت الجميل بالخذلان، والكذب، واللعب على الحبال.
الخنزير السياسي لا يعرف الحياء، يأخذ كل شيء.. ويصرّ على أن يلعنك إن لم تُعطه المزيد.. هو لا يحترمك إن كنت كريمًا.. بل يحتقرك.
في كثير من الدول، تُكافأ الرداءة تحت شعار “الواقعية السياسية”، ويُهمَّش أصحاب الرؤى لأنهم “غير مرنين”. فيُلقى بخرائط الطريق في الأدراج، بينما يُرفع شأن من لا يملكون بوصلة.
هنا، تتحول الجواهر إلى مجرد زينة خادعة في أعناق الساسة.
يُمدحون بما ليس فيهم، ويُكتب التاريخ باسمهم، رغم أن الفعل كان من صنع غيرهم.
ومن يجرؤ على الاعتراض؟
غالبًا لا أحد… لأن الاعتراض على الزيف، في عوالم التزييف، يُعدّ خيانة!!.

(3)

في المجتمع… حين يُصفّق للجاهل
حين تنتشر ثقافة الاستهلاك المعرفي، وحين تُقاس القيمة بعدد المتابعين لا عمق الفكرة، يبدأ المجتمع بتعليق الجواهر على أعناق من لا يستحقون أن يُصغى إليهم.. يُحتفى بالشخص الخطأ، ويُدفع المفكّر إلى الظل، ويُقدَّم التافه على أنه “رمز المرحلة”.
الناس، في لحظات التيه، يبحثون عمن يشبههم لا عمن يوقظهم.. فيصفّقون للسطحي لأنه يريحهم، ويهاجمون العميق لأنه يربكهم.. وهكذا، نُزيّن القبح بالأضواء، ونصنع أصنامًا من ورق.
في الفضاء المجتمعي…لا ترفعوا من لا يستحق، لا تُصفّقوا للجاهل لأنه غني، ولا تُسبّحوا بحمد الجشع لأنه ناجح.. فحين نُعلّق أوسمة الفضيلة على صدور المُرائين، نتحوّل جميعًا إلى شهود زور.

(4)

في العلاقات الإنسانية – الكرم في غير موضعه :
لا تُعطِ من وقتك، قلبك، جهدك، مالك، فكرك.. لمن لا يعرف الفرق بين الكنز والقمامة.. لا تتورّط في وهم الإصلاح مع من لا يرغب إلا في الخراب.. فبعض القلوب كالغبار، لا تنبت فيها بذرة ولا تُثمر فيها نية حسنة.
في العلاقات بين الناس… كم مرة منحتَ حبك، إخلاصك، صدقك، حروفك النقية..
لمن لا يملك حتى لغة الفهم؟
كم مرة غسلتَ قلب أحدهم بماء عينيك، فإذا به يدوسه بلا اكتراث؟
ليس الذنب ذنبك إن كنت طيبًا، لكن الخطأ أن تظن أن الجميع أهلٌ لما تقدّم.
في أفق هذه العلاقات بين الأفراد، تظهر الصورة بأوضح وجوهها : كم مرة أحبّ إنسانٌ آخر لا يستحقه؟
كم مرة وهب أحدهم روحه، ووقته، واهتمامه، لمن لا يرى في ذلك إلا واجبًا مفروضًا؟
القلوب الطاهرة تُستنزف، ثم تُترك فارغة.
نحن لا نخطئ حين نُحب.. لكننا نخطئ حين نُهدي الجوهرة لمن لا يعرف أن يحفظها.
الخنزير لا يرى الجمال في الجوهرة، بل يراها ثِقلاً على عنقه.. لذلك، حين تذهب، لا يشعر بالخسارة.. بل بالراحة.

(5)

في العلاقات الدولية – خيانة الحليف الكريم :
عالميًا، تتكرر الصورة ذاتها بلغة أكثر وحشية.. تُقدّم الدول الحليفة تنازلات ضخمة لحكومات لا تحترم العهود.. ويُقدَّم الدعم لدول تردّ الجميل بخذلان سافر، أو تحالفات خفيّة مع الخصم.
في السياسة الدولية، لا يكفي أن تكون كريمًا… بل الأهم أن تعرف لمن تكون كريمًا.. فالكرم في غير موضعه ليس فضيلة، بل تهوّر.. والتسامح بلا حدود ليس نبلًا، بل غباء استراتيجي.

(6)

الجوهرة .. لا تلمع في الطين : النداء هنا ليس قاسيًا، بل واقعيًا.
لسنا مطالبين بقطع الجواهر عن الوجود، بل بإعادة التفكير فيمن نمنحهم إياها.
ليس كل من يبتسم يستحق قلبك، ولا كل من يطالب بالدعم يستحقه، ولا كل من يتقلّد المنصب يليق به.
في زمن الاختلاط، يصبح التمييز شجاعة.
وفي زمن الزيف، يصبح الصدق جريمة.
فلا تُعلّقوا الجواهر في أعناق الخنازير.
ولا تمنحوا البريق لمن لم يتعلّم بعد كيف يرى الضوء.

(7)

دعوا الجواهر لأهلها..
ضعوها في مكانها الصحيح، على رقاب من يقدرها، على صدور من قاتلوا لأجلها، في قلوبٍ تعرف معناها.. فإنّ الجوهرة المهدورة.. لا تَدين إلا للذي أضاعها.
لا تُعلّقوا الجواهر في أعناق الخنازير.. فالخنزير لا يتحوّل إلى حصان نبيّل إن زيّنت عنقه.. بل يزداد قبحًا حين يمتزج الطين بالبريق.
###