رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

قالت: القاهرة تحت الإنشاء!

2018

كنت أشفق عليه من علة شوقه إليها والتى أمرضت أجزاء عدة فى هذا الجسد الذى يبدو عظيما إلا أنه ممتلئ بمتناقضات الأمراض وأولها الوله، وأمام إصراره لى على مرافقته إلى المطار لاستقبال حبيبة الزمن الجميل وما أن رآها تلوح له مهرولة تجاهه عبر ممرات مصطنعة بعناية لتبطئ من تسرع العائدين، وما أن تعانقا حتى استشعرت بحلول تلك الروح العائدة فى جسد كاد أن يُدعى ميتا، وابتسم بملء عينيه حتى سمعت قهقهات الفرح تزلزل قلبه العليل، وبادرت بإنهاء هذا المشهد الذى كاد أن ينهى حياة صديقى بأن فتحت بابا للخروج مؤقتا من تلك الرومانسية الكلاسيكية – غير المعتادة الآن – فركبا السيارة وبعد نظرات صاخبة ومتعانقة بينهما تفوهت تلك الروح العائدة بجملة، وليتها ظلت فى صمتها المندهش من كل ما حولها فقد ألقت قنبلة مدوية انفجرت داخلى لتهتك ستر الرضا وتقتل الصبر، قالت البريئة: يا الله كل هذه العمارات تحت الإنشاء!، وأمسكت كلامى عنها وقررت فى طرفة عين ألا أرد عليها الآن وتفهمت ما وصل إليها، فقد كنا على الدائرى وما شاهدته كانت مبانى على جانبيه وظنت أننا نشق الطريق إلى العاصمة الجديدة، والحقيقة أننا كنا فى قلب القديمة! لساعات طوال أعدت النظر إلى ما كنا عليه، فكانت القاهرة أوليات عواصم العالم ليس فى العمارة بل فى جماليات العمارة حتى أن لندن وباريس كانتا تتنافستان على من سيبرم وثيقة توأمة مع القاهرة أولاً، وتجد المنافسة بين المعماريين فى قلب القاهرة بين إبداع تماثيل أساطير الملائكة اليونانية وفرسان الإغريق واسبرطة الأشداء وأعمدة الرومان المتوجة ورشاقة زهور الأندلس وفسيفساء الهلال الخصيب بألوانها الزاهية وغيرها من بدع فنون العمارة التى تنسدل على واجهات البنايات فى رقة خصلات الحور المداعبة للهواء حتى أن المار فى شوارع المحروسة كمن يترحل عبر أزمنة الجمال أو كمن يشاهد نسخاً تحتار فى دقتها مقارنة بأصولها عند عباقرة الفن فى التاريخ الإنسانى أمثال صاحب «الموناليزا» ومن لُقّب بصاحب «الخيال الإبداعى مُنقطع النظير» المهندس والنحات والمعمارى والرسّام الموسوعى الإيطالى ليوناردو دافنشى أحد أشهر علماء عصر النهضة، أو فنسنت فان جوخ صاحب المدرسة الانطباعية فى الفن بوجه عام الذى ترك إرثاً يتعدى الألف لوحة وانتحر فى السابعة والثلاثين وأشهر لوحاته «ليلة النجوم»، وكثيرًا ما تندهش أمام ميثولوجيا العمارة المصرية فى صدر الدولة الحديثة والتى قدمت نسجاً من العمارتين القبطيتين فى مصر المسيحية والإسلامية فاق لوحة «خلق آدم» لمايكل أنجلوا النحات والرسام الأشهر فى تجسيد الحكايات والرموز الدينية، لم تكن العمارة فى القاهرة تستهدف بنايات المسكن للحماية والستر كغيرها من حضارات المعمورة بل تجاوزت الهدف الوظيفى لتستكمل هدفاً أسمى بدأه الأجداد الفراعنة عندما عانقوا السماء بمسلاتهم وضربوا فى الأرض راسيات من المعابد كجداريات تحكى للقادم من الأجيال المتلاحقة والوافد عبر حدود الزمان والمكان حضارة طوعت الهندسة وحسابات الأرقام لترسم فناً بمثابة لحن حضارى مازلنا نتكسب من بدع فنهم حتى فى عمارة المقابر كانوا أصحاب ذوق رفيع.
لم أستطع الرد على ضيفتنا القادمة عبر المسافات، فالصورة الآن فارقت الأصل واستبدلنا اللون الترابى وحمرة الطوب الفج بالفن والرقى، الملايين منا يمرون يوميًا على بنايات القاهرة الحديثة المتكاثرة بعبثية مشينة ترفع يافطة العشوائية عنوانًا لكنها ليست عشوائية بابلو بيكاسو! إنما هم بعض من أصحاب الدهاء الأسود وبقايا دموية من برجوازية تحمل الكثير من المال والقليل من الضمير والنادر من التحضر، تجمعت فى حزم وانقضت على المنازل الفقيرة واستغلت عوز الكثيرين حتى ابتاعت سكناهم ببضعة أوراق لا قوة شرائية تنافسية لها تعوضهم ضياع سترهم، وكالسرطان انتشرت عمارات الأحد عشر طابقا دون مراعاة لمحددات التخطيط العمرانى وتضرب فى الهواء بتعليمات الحماية المدنية وتطيح باللوائح المنظمة لاستصدار تراخيص الهدم والبناء غيرعابئة بهدم أثر أو إخفائه وسط جبالهم، وكانت نتاج فعلتهم المجرمة سلبيات وأمراض عدة منها:-
أولاً: الاجتراء على المساحات الخضراء حتى باتت مديريات الزراعة فى بعض المحافظات غير مجد بقائها لانعدام الزراعة.
ثانيًا: تجريف الأرض الزراعية لاستغلال طميها الأسود الغنى المتراكم عبر آلاف السنين فى حرقه لإنتاج الطوب الأحمر، ونجتهد الآن لزراعة الصحراء.
ثالثًا: إنشاء بنايات متلاصقة تقتحم الخصوصية حتى أن القاطن فيها يمكنه غلق باب أونافذة جاره فقط بمد يده!
رابعًا : عدم اعتماد وتنفيذ البناء بواسطة المختصين من المهندسين غير أن البناء على وجه الأرض والاكتفاء بلبشة أو حصيرة رقيقة من الخرسانة غير المسلحة مما يهدد بانهيار البناية والبنايات المتراصة بجوارها وخسارة الأرواح وضياع تحويشة العمر وتشريد من لم يأت عليه الموت ليبقى فى معاناة أشد قسوة من الموت!
خامسًا: تكونت بيئات معادية للتنسيق الحضارى وتخلق نشازًا مع الذوق العام ولاشك أنها ستترك انطباعًا سلبيًا فى وجدان الجيل الناشئ سيؤثر على أنماط تفكيرهم وسلوكياتهم الحياتية مما سيعيق تنفيذ أية خطط إنمائية، وسيشوه مسارات التلقى والاستقبال للتنمية الثقافية.
تصدمنا الأرقام بحقائق مميتة حيث صدر مؤخرًا تقرير بشأن مخالفات البناء عن الفترة من يناير2000 وحتى نهاية 2017 على مستوى محافظات الجمهورية، حيث بلغ إجمالى عدد المبانى المخالفة 2 مليون و878 ألفًا و808 مبانٍ، ووصل عدد قرارات الإزالة الصادرة 2 مليون و644 ألفًا و222 قرارًا، تم تنفيذ 633 ألفًا و406 قرارات، لتتبقى مليون و923 ألفًا و766 حالة دون تنفيذ قرارات الإزالة الصادرة بشأنها، ويبلغ عدد المبانى التى لم تنفذ بشأنها قرارات الإزالة رغم أنها تشكل خطورة 43 ألفًا و797 مبنى طبقاً لبيانات وزارة التنمية المحلية، السؤال هو كيف تنامت جماعات مقاولات تشويه الذوق العام؟ ولماذا تترك إدارات المدن والأحياء والمراكز تلك البنايات حتى تعانق السماء وتكاثرت حتى بلغت المليونين، فهل بنيت وتكاثرت سرًا؟! وإلى متى سيظل الإعلام والمثقفون فى حالة صمت من تلك الظاهرة التى تقضى على الثروة الزراعية والقوة البشرية وتقتل الذوق والطموح؟ نهاية هل من اللائق أن نترك إرثاً للقادم من الأجيال تحت الإنشاء أو آيلا للسقوط! ولماذا لا نستكمل ما بناه الأجداد الأقدمون ومن تلاهم من القريبين؟!




503 Service Unavailable

Service Unavailable

The server is temporarily unable to service your request due to maintenance downtime or capacity problems. Please try again later.

Additionally, a 503 Service Unavailable error was encountered while trying to use an ErrorDocument to handle the request.