روى صاحب كتاب «كليلة ودمنة» أن «ابن أوى» عندما كان يجد نفسه في مأزق فلا يجد مفرًا إلا أن يُحدث أزمة يشغل بها من حوله، وهو الحال الذي يفعله السلطان حسبما يتمنى أن يلقب بذلك.
ولا يتغير الحال كثيرا بين مرة وأخرى، فمنذ وصول رجب طيب أردوغان إلى السلطة، والحلم الذي يراوده هو وعشيرته لا يتبدد، ورغم تغيير التنظيم الإرهابي في بلاده لجلده، حيث قام حزب العدالة والتنمية على أنقاض حزب النهضة؛ إلا أن أردوغان لم يغير أسلوب إداراته للأزمات.
ويأتي على رأس الحزب الجديد حاملا معه أحلام وطموحات الحزب السابق وتخاريفه.
لكن هذه المرة كان السيناريو والحبكة أكثر إتقانا، بعد أن تدخلت الولايات المتحدة في المشهد.
الأسبوع الماضى، حاول السلطان أن يغطى على المشهد المتأزم فى بلاده، بعد أن فقد فى الانتخابات المحلية أهم 3 مدن منها أسطنبول لتصدر اللجنة العليا للانتخابات قرارًا بإعادة الانتخابات فى أسطنبول خلال شهر يونيو المقبل.
القرار قوبل باستنكار وتشكيك دولى فى نزاهة الانتخابات المحلية التركية، كما واجه عاصفة ضخمة من الرفض من قبل المعارضة التركية، وهو ما دعا أردوغان إلى خلق أزمة يصرف بها أنظار العالم عما يقترفه من تجاوزات، فأعلنت حكومته القيام بعمليات التنقيب عن المواد الهيدروكربونية داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لجمهورية قبرص.
وقوبل ذلك القرار بإدانة ورفض وتحذيرات دولية شديدة اللهجة، كان على رأس تلك التحذيرات، تحذير الخارجية المصرية للحكومة التركية من اتخاذ أى إجراء أحادى الجانب فيما يتعلق بأنشطة حفر أعلنتها فى منطقة بحرية غرب قبرص.
واعتبرت أن إقدام تركيا على أى خطوة دون الاتفاق مع دول الجوار فى منطقة شرق المتوسط، قد يكون له أثر على الأمن والاستقرار فى المنطقة، مؤكدة ضرورة التزام كافة دول المنطقة بقواعد القانون الدولى وأحكامه.
فى الوقت ذاته، أعربت مسئولة السياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبى «فيديريكا موجرينى» عن «قلقها البالغ» حيال إعلان تركيا نيتها القيام بأنشطة تنقيب فى المنطقة.
كما ندد المجلس الأوروبى بشدة بمواصلة تركيا أنشطتها غير القانونية فى شرق البحر المتوسط، مؤكدًا على ضرورة واحترام الحقوق السيادية لقبرص والامتناع عن أى عمل غير قانونى. كما أكدت استعداد الاتحاد الأوروبى التام للرد، فى حال حصول أى عمل من هذا النوع، ردًا ملائمًا يجسد التضامن الكامل مع قبرص.
منذ توليه رئاسة الوزراء بدعم من التنظيم الإرهابى (الإخوان) عام 2003 وهو يلقى دعم الإدارة الأمريكية التى اعتبرته رجلها فى المنطقة، فقد كانت زيارة الرئيس باراك أوباما فى يوليو 2009 لتركيا، أول زيارة للمنطقة ولدولة مسلمة؛ حينها قال أوباما إن تركيا تعد الحليف الاستراتيجى الأول للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط.
وظلت إدارة الرئيس باراك أوباما توثق علاقتها بأنقرة، فى ظل تغلغل أعضاء تنظيم الإخوان الإرهابى فى السلطة هناك وتقديم نموذج يخدم الأهداف الأمريكية فى المنطقة.
تم استخدام السلطان لتنفيذ مخطط تفتيت المنطقة ليستفيد هو من ذلك المخطط محققا حلمه، أن يكون خليفة للمسلمين، فى الوقت ذاته يضمن البقاء فى السلطة.
فى يناير عام 2011 وعقب الحراك الذى شهدته مصر فى 25 يناير من ذات العام، وخلال 6 أيام فقط كان الرئيس الأمريكى يتابع المشهد المصرى من النافذة التركية حيث أجرى اتصالين هاتفيين مع أردوغان خلال تلك المدة، وذلك بحسب مسئول فى الإدارة الأمريكية.
عقب تلك الاتصالات، كان التصريح الشهير للرئيس الأمريكى بشأن الوضع فى مصر، موجهًا حديثه للرئيس الأسبق حسنى مبارك قائلًا: «now» مطالبًا مبارك بالتخلى عن السلطة، ثم قدمت أنقرة عددًا من قيادات التنظيم الإرهابى (الإخوان) للإدارة الأمريكية، فى الوقت ذاته أنفقت حكومة أردوغان من خلال زوج ابنته «بيرات البيرق» ما يقارب 500 مليون دولار جزء منها كان مباشرًا، والجزء الآخر كان من خلال قيادات حماس فى قطاع غزة، لدعم تنظيم الإخوان الإرهابى خاصة بعد مساندة عناصر التنظيم لأردوغان فى تغيير نظام الحكم فى تركيا إلى النظام الرئاسى.
عقب ثورة يناير شهد التقارب التركى والتنظيم الإرهابى مرحلة جديدة أشبة بفترة الربيع، فأعلن أردوغان مساندته للتنظيم، الذى اعتبره أحد أدواته لتنفيذ حلم الخلافة العثمانية المزعوم.
وعلى الجانب الآخر، حاول الاستفادة من الحالة التى كانت تشهدها ليبيا ففى البداية كان معارضًا لتدخل قوات الحلف بعمليات عسكرية فى ليبيا ضد نظام القذافى.
لكن بعد قرار مجلس الأمن بفرض الحظر الجوى على ليبيا، أوكلت الولايات المتحدة لأنقرة مهمة إشرافية تشبه محاولة إلهاء الصغير لإيقافه عن البكاء، وهو الإشراف على المهمات الجوية من قاعدة أزمير فى تركيا.
فى حين أن قيادة عمليات التحركات اليومية فى القيادة الخاصة بالعمليات البحرية فى قاعدة الحلف فى نابولى بجنوب إيطاليا، وستجرى قيادة العمليات الجوية فى قاعدة بودجو ريناتيكو فى شمال إيطاليا والإشراف الشامل على العمليات سيجرى من المقر العام للقوات الحليفة فى بلجيكا، وهنا وافقت تركيا على قرار تدخل قوات الحلف فى ليبيا.
حرصت حكومة الرئيس التركى عقب انتخاب «محمد مرسى» على توطيد علاقتها بالتنظيم الإرهابى، معتبرة أنه الذراع الطولى لها لضمان عدم استقرار المنطقة، وأعلنت تأييدها له.
تأكد أردوغان أن تنظيم الإخوان لا يطمح سوى فى أمر واحد وهو الاستيلاء على حكم مصر لأطول فترة ممكنة، وهو ما جعل السلطان يحرص على توطيد العلاقات معهم، إلا أن ثورة الشعب فى 30 يونيو 2013 والتى أطاحت بحكم الإخوان بددت كل أحلام وتخاريف السلطان، ورغم ذلك واصل دعمه لعناصر التنظيم، وتحولت بلاده إلى ملاذ للعناصر الإرهابية.
وواصل التدخل فى شئون الدول الأخرى بالتعاون مع قطر، فى الوقت الذى كانت فيه الدولة التركية تضربها أزمات اقتصادية ضربت الليرة التركية ضربات موجعة.
فى 2014 بدأت الدولة المصرية تحركها فى كافة الاتجاهات لحماية أمنها القومى وإقامة علاقات قوية مع دول الجوار من أجل تحقيق تعاون يصب فى مصلحة الشعوب تلك الدول.
فبدأ التعاون مع كل من مصر وقبرص واليونان بعد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الدول الثلاث، ليتحطم الحلم الاقتصادى الكبير لدى أردوغان، الذى كان يستهدف السيطرة على غاز شرق المتوسط، وتحول تركيا إلى مركز إقليمى للطاقة بالتعاون مع إسرائيل.
كللت الخطوات المصرية الصادقة بالنجاح، نتيجة التخطيط والتحرك المدروس الذى يستهدف التعاون والتكامل وليس الاستحواذ.
تقدمت مصر خطوات ثابتة وقوية نحو تحولها إلى مركز إقليمى للطاقة، فى ظل اكتشاف حقل «ظُهر» والذى يعد من أكبر حقول غاز شرق المتوسط فى حجم الاحتياطيات الذى يبلغ 30 تريليون قدم مكعب، والواقع ضمن منطقة امتياز شروق فى المياه الاقتصادية المصرية.
وجاء التحالف الثلاثى بين مصر وقبرص واليونان، بمثابة الزلزال الذى دمر كل الأطماع التركية.
تم عقد اتفاقيات تعاون فى مجال تصدير الغاز فى ظل توافر بنية أساسية لدى مصر قادرة على العمل فى هذا المجال منها مصنع للإسالة على البحر المتوسط.
الأمر الذى جعل أنظار الاتحاد الأوروبى تتجه إلى تلك المنطقة، فى ظل احتياجات يومية من النفط والغاز لدول أوروبا تصل إلى مليار يورو يوميًا.
إضافة إلى عضوية دولتين فى هذا التحالف (اليونان وقبرص) للاتحاد الأوروبي، وهو ما جعل أوروبا تدرس خطة تقليل الحصة الاستيرادية من الغاز الروسى واستبدالها بغاز شرق المتوسط فى ظل الاكتفاء الذاتى لمصر وبدء التصدير خلال العام القادم، بالإضافة إلى تصدير 50% من ناتج حقل الغاز الإسرائيلى «أفروديت» والذى من المتوقع أن يبدأ الإنتاج عام 2023 من خلال مصر.
واستكمالا لتحقيق النمو الاقتصادى من خلال التعاون والتكامل مع الدول الثلاث (مصر وقبرص واليونان) ففى يناير الماضى تم إعلان إنشاء منتدى شرق المتوسط بمشاركة 7 دول (مصر، واليونان، وقبرص، والأردن، وفلسطين، وإيطاليا، وإسرائيل) لتتحطم آخر أحلام تركيا فى أن تصبح مركزًا لعبور الطاقة من شرق المتوسط إلى أوروبا والتى كانت قد اتفقت عليها مع إسرائيل عقب قيام وزير الطاقة الإسرائيلى لتركيا أكتوبر 2016 ويوليو 2017 لدراسة إنشاء خط أنابيب تركى إسرائيلى بطول 482 كيلو مترا وبتكلفة إجمالية 7 مليارات دولار، وحتى تستطيع تركيا تقليل اعتمادها على استيراد الغاز الروسى والإيرانى وتستبدل ذلك بالغاز الإسرائيلى.
وتحطم الحلم التركى على صخرة إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط فى 14 يناير، وأصابت أردوغان حالة من فقد التوازن، وتحولت أحلامه إلى تخاريف.
فى ظل تدهور الأوضاع الداخلية والتوترات السياسية داخل بلاده وارتفاع أسهم المعارضة فى الشارع السياسى والتى كانت نتائجها واضحة فى الانتخابات المحلية؛ ليبدأ أردوغان فصلًا جديدًا من محاولات إحداث التوتر للتغطية على المشهد الداخلى، وهو يدرك تماما أن ما أعلنته حكومته ليس سوى مجرد تصريحات للحصول على مكاسب سياسية فى الداخل التركى خاصة فى ظل التحالف المصرى القبرصى اليونانى القوى.
وما تمتلكه مصر من قوى قادرة على حماية أمنها القومى ومواردها الاقتصادية وكذلك حماية حلفائها.
إن البحرية المصرية تعد رابع قوى بحرية على مستوى العالم بعد انضمام الغواصة S 42 إليها، فى الوقت الذى تأتى فيه البحرية التركية فى المرتبة الثانية عشر.
إن محاولات الرئيس التركى لإحداث أزمة فى شرق المتوسط لن يخرج منها أحد خاسر سواه.