رب مفطر ادعى الصيام.. ورب صائم تراءى به بين الناس.. أو حوله إلى شماعة لتقصيره وأخطائه.. وهؤلاء قد فاتهم أن عظمة هذه العبادة فى سريتها بين العبد وربه جل فى علاه.. والتى عرفتها كل الأديان.. ومع نفحات شهرنا الكريم كتب فيلسوف المتأملين رحمة الله عليه الدكتور مصطفى محمود يقول:
هواة الجدل دائما يسألون.. كيف يخلق لنا الله فما وأسنانا وبلعوما ومعدة لنأكل ثم يقول لنا صوموا.. كيف يخلق لنا الجمال والشهوة ثم يقول لنا غضوا أبصاركم وتعففوا.. هل هذا معقول؟!
وأنا أقول لهم بل هو المعقول الوحيد.. فالله يعطيك الحصان لتركبه لا ليركبك.. لتقوده وتخضعه لا ليقودك هو ويخضعك.. وجسمك هو حصانك المخلوق لك لتركبه وتحكمه وتقوده وتلجمه وتستخدمه لغرضك، وليس العكس أن يستخدمك هو لغرضه وأن يقودك هو لشهواته.
ومن هنا كان التحكم فى الشهوة وقيادة الهوى ولجام المعدة هى علامة الإنسان.. أنت إنسان فقط فى اللحظة التى تقاوم فيها ما تحب وتتحمل ما تكره.. أما إذا كان كل همك هو الانقياد لجوعك وشهواتك فأنت حيوان تحركك حزمة برسيم وتردعك عصا.. وما لهذا خلقنا الله.
الله خلق لنا الشهوة لنتسلق عليها مستشرفين إلى شهوة أرفع.. نتحكم فى الهياج الحيوانى لشهوة الجسد ونصعد عليها لنكتفى بتلذذ العين بالجمال، ثم نعود فنتسلق على هذه الشهوة الثانية لنتلذذ بشهوة العقل إلى الثقافة والعلم والحكمة ثم نعود فنتسلق إلى معراج أكبر لنستشرف الحقيقة ونسعى إليها ونموت فى سبيلها.
معارج من الأشواق أدناها الشوق إلى الجسد الطينى وأرفعها الشوق إلى الحقيقة والمثال.. وفى الذروة.. أعلى الأشواق لرب الكمالات جميعها.. الحق سبحانه وتعالى..
ولهذا سخر الله لنا الطبيعة بقوانينها وثرواتها وكنوزها، وجعلها بفطرتها تطاوعنا وتخدمنا فنحن لم نبذل مجهودا كبيرا لنجعل الجمل يحمل أثقالنا، أو الكلب يحرس ديارنا، أو الأنعام تنفعنا بفرائها ولحومها وجلودها..إنما هكذا خلقت مسخرة طائعة.. إنما العمل الذى خلقنا الله من أجله والتكليف الذى كلفنا به هو أن نركب هذه الدواب مهاجرين إلى الهدف.. إلى الله.. إليه وحده فى كماله..اللهم تقبل صيامنا واجعلنا من الفائزين.
طارق جلال