في عام 1998 نشر وزير الدفاع الأمريكي (كاسبر واينبرجر) فى عهد الرئيس رونالد ريجان كتابًا بعنوان «الحرب التالية» وكان الكتاب مثيرًا للجدل في ذلك الوقت نظرًا لأن الكاتب كان من أقطاب إدارة الرئيس ريجان وسعى الحزب الديمقراطي الأمريكي إلى توريطه فيما عرف بقضية «إيران جيت» التي كان بطلها العقيد أوليفرنورث الذي خطط وعمل مع عدد من أفراد المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) لبيع أسلحة لإيران عن طريق إسرائيل.
حصل واينبرجر على عفو شامل من الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، لما كانت تربطهما من صداقة منذ كان ريجان حاكمًا لولاية كاليفورنيا.
وضع وزير الدفاع الأسبق في كتابة تصورًا لمباراة حربية (سيناريوهات) لحروب محتملة تدور رحاها بعد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وخمس دول أخرى، أولها الصين وكوريا الشمالية ثم إيران، ثم المكسيك، ثم روسيا، ثم اليابان.
حدد الرجل تاريخًا لتلك الحروب جميعها قد انتهى، فقد توقع حربًا مع الصين وكوريا الشمالية عام 1998 وحربًا مع إيران عام 1999 وحربًا مع المكسيك عام 2003 وحربًا مع روسيا عام 2003 وأخرى مع اليابان عام 2006.
مضت سنوات ولم تحدث أى من تلك الحروب، وتوجهت الولايات المتحدة إلى حرب مختلفة خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر.
(1)
عقب نشر كتاب «كاسبر» كشف صحفيان أمريكيان «ريتشارد نيومان، وألن كوبرمان» فى تقرير صحفى نشر فى مجلة «US NEWS» ما أسموه بخطط الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة المستقبل.
ذكر الصحفيان الأمريكيان أن دول العالم، عقب انتهاء حرب الخليج الثانية (تحرير الكويت)، قامت بدراسة مستفيضة للدروس المستفادة من تلك الحرب، ونقاط الضعف والقوة والأخطاء التى ارتكبها صدام حسين.
أشار الكاتبان إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ستواجه حربًا مفاجئة أكثر شراسة وخصمًا أكثر حرصًا وكفاءة من العراق – يقصدان إيران – وهو ما دفع البنتاجون إلى التأكيد على زيادة حجم الترسانة العسكرية الأمريكية وزيادة ميزانيتها فى ذلك الوقت إلى 20 مليار دولار والعمل بقوة فى اتجاه «الحروب اللامتماثلة» ودعم عناصرها وأدواتها التى تحدثنا عنها فى مقال سابق منتصف إبريل الماضى.
بدأت عمليات دعم وتنشيط قسم الأنشطة الخاصة (SAD) فى وكالة المخابرات الأمريكية المسئولة عن العمليات السرية عام 2001، فأنشأت مجموعتين منفصلتين: أولهما مجموعة SAD / SOG للعمليات شبه العسكرية التكتيكية وثانيهما مجموعة SAD / PAG للعمل السياسى السرى الذى يستهدف المعارضة ويدعمها، واستهدفت تلك المجموعات العمل على اختراق المجموعات العدائية للولايات المتحدة، بالإضافة إلى مجموعة العمليات الخاصة (SOG) وهى إدارة داخل قسم SAD أيضًا ومسئولة عن تنفيذ العمليات المتضمنة عمليات عسكرية لا ترغب حكومة الولايات المتحدة فى الارتباط بها علانية.
مما جعل أعضاء الوحدة يطلقون عليهم ضباط العمليات شبه العسكرية أو ضباط المهارات المتخصصة، وهم لا يحملون عادة أى أشياء أو ملابس، مثل الزى العسكرى، الذى يربطهم بحكومة الولايات المتحدة.
كما كشف الصحفيان أن الولايات المتحدة تستعد لمواجهة حرب عصابات من خلال تلك الوحدات التى تستطيع اختراق الكيانات والمجموعات المعادية للولايات المتحدة.
أضف إلى ذلك ضرورة العمل على مواجهة انتقال حروب العصابات من المسرح البرى إلى المسرح البحرى وهو الأسلوب الذى استخدمته إيران عام 1988 ضد قوات بحرية أمريكية.
وبحسب التقرير فإن الولايات المتحدة فى مواجهتها مع إيران.. وهى المواجهة المحتملة، فإن الخصم (إيران) لن يمنح واشنطن الفرصة رغم ما تمتلكه من عتاد وأفراد أن تقوم بعمل فتح استراتيجى دون أى تدخل منه، وهو مبدأ من مبادئ الحرب لم يتغير(منع العدو من الحشد).
(2)
نعود إلى «كاسبر واينبرجر» وكتابه الحرب التالية والذى جاء فى 498 صفحة وأشار فيه إلى أن الحرب المحتملة قد تكون فى الخليج العربى وحدد لها سيناريو فى المبارة الحربية وهو المواجهة مع إيران.
أعدَّ وزير الدفاع الأمريكى الأسبق حبكة فنية بالغة الدقة للمشهد فى الخليج وفى مشهد أكثر دراماتيكية وضع تصورًا للاتصالات التى تدور فى المنطقة وتحركات القوات والحشود، والقوى العربية هناك التى من المحتمل أن تكون ضمن قوى التصدى لإيران.
ورغم انتهاء توقيت المواجهة المحتملة التى تحدث عنها «واينبرجر» إلا أن الأحداث التى يشهدها الخليج العربى حاليًا تقترب بشكل كبير من التصور الذى وضعه.
بدأ المشهد باعتداءات إيرانية على سفن نفط مملوكة لعدد من الدول العربية عندما استهدفت طائرات بدون طيار أحد خطوط النفط السعودية كما استهدفت أيضًا عددًا من الناقلات النفطية فى ميناء الفجيرة.
ورغم أن السيناريو المرسوم كان من المحتمل أن يحدث عام 1999 وبالتحديد فى الرابع من أبريل من ذات العام، إلا أن أحداث اليوم تشبه بشكل كبير ذلك السيناريو؛ مع ملاحظة أن المشهد فى الحرب المحتملة داخل صفحات الكتاب لم يشر من قريب أو بعيد إلى القوة العسكرية العراقية رغم أن الكتاب تم البدء فى إعداده عام 1995 ونُشِر فى 1998 ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية قد قامت بغزو العراق بعد، ولم يكن نظام صدام حسين قد سقط.
يبدو أن وزير الدفاع الأمريكى الأسبق كان يعلم بخطة استهداف إسقاط النظام العراقى وتدمير القوى العسكرية للعراق، حتى تصبح بعيدة تمامًا عن تلك المواجهة.
(3)
واصل «واينبرجر» كشف تفاصيل عملية إدارة المواجهة العسكرية المحتملة بارتفاع فى أسعار النفط ليصل سعر البرميل إلى أكثر من 100 دولار (وهو ما يدل على أن الحرب فى تلك المنطقة لن تشتعل إلا لأسباب اقتصادية) وهنا بدأت الإدارة الأمريكية مراقبة المشهد فى إخراج الملف الإيرانى، وإعادة فحص أوراقه خاصة البرنامج النووي، وما تمتلكه من صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤؤس نووية، عقب تطوير برنامجها الصاروخى والنووى، وهو ما مكنها من امتلاك 50 صاروخًا ذات وقود جاف ليحقق لها مرونة عالية، ويصل مداها 2500 ميل، مما يمكنها من إصابة أهداف لها داخل أوروبا بصواريخها التى تحمل رؤوسًا نووية.
كانت طهران قد اشترت عام 94 من الصين وروسيا مكونات الصواريخ النووية ولم تستطع واشنطن فعل شىء لمواجهة ذلك سوى تقديم احتجاج رسمى.
بدأت إيران توجيه العناصر الموالية لها فى دول الخليج (الشيعة) لإشعال الأزمة للوصول إلى الهدف (أن تصبح طهران هى المتحكم فى أسعار النفط العالمية ارتفاعًا وهبوطًا) وعقد مجلس الأمن القومى الإيرانى اجتماعًا (حسب سيناريو المعركة الحربية المحتملة) أكد خلاله الرئيس الإيرانى على ثلاث مهام:
أولًا: منع الولايات المتحدة من حشد قواتها فى الخليج وإجبارها على ذلك.
ثانيًا: إحكام السيطرة على مضيق هرمز.
ثالثًا: تحريك العناصر الموالية لإيران وعناصر الحرس الثورى فى دول الخليج لإحداث اضطرابات، بالإضافة إلى تحرك عناصر حزب الله، وكذا العناصر الموجودة فى اليمن والبحرين.
(4)
طبقًا لسيناريو وزير الدفاع الأمريكى الأسبق عن الحرب المحتملة.. فإن حدة التوتر تتصاعد وتصبح المنطقة على شفا حرب عالمية ثالثة، ليأتى اتصال من قيادة الأسطول الخامس الأمريكى فى الخليج العربى إلى البنتاجون، يفيد بحدوث انفجار ضخم شمال إيران هز الأرض وأعقبه بدقيقة واحدة انفجار نووى قوته 100 كيلو طن فوق الصحراء الإيرانية واكتشفته وسائل الرصد الأمريكية من طائرات «الأواكس» فى تركيا والخليج العربى.
بعد إرسال بلاغ إلى وكالة الأمن القومى الأمريكية فى فورت ميدى ـ بميريلاند، حيث تتواصل الوكالة مع الرئيس الأمريكى لشرح الموقف المشتعل فى الخليج العربى، يأتى الرد من الرئيس الأمريكى بعد صمت قليل: هل تم توجيه أية ضربات لمنشآت أو أفراد أمريكيين.
ويأتى الرد: لا سيدى الرئيس، تحاشوا تمامًا إصابة أية أهداف أمريكية.
يرد الرئيس الأمريكى: إذا الأمر يحتاج لمزيد من التشاور.
ويقرر الرئيس الأمريكى عقد اجتماع لمجلس الأمن القومى بعد 6 ساعات، وخلال تلك الفترة يأتى بلاغ جديد من قائد القيادة المركزية الأمريكية فى الخليج العربى، يفيد بأنه تلقى اتصالًا من الجانب الإيرانى يطلب انسحاب القوات الأمريكية من الخليج خلال 21 يومًا، وإلا سيحدث انفجارًا نوويًا فوق إحدى المدن الأوربية بدول حلف الناتو.
فى الوقت ذاته كانت القوات الجوية السعودية ومعها القوات الإماراتية، قد حملت على عاتقها مواجهة الاعتداءات الإيرانية على بعض دول الخليج .
هنا انتهى الجزء الأول لسيناريو المباراة الحربية المحتملة التى استعرضها «واينبرجر» وزير الدفاع الأسبق.
(5)
يتطابق السيناريو مع بعض الأحداث التى يشهدها الخليج العربى مؤخرًا ومنها تصريحات الحرس الثورى الإيرانى حول سيطرته التامة على شمال مضيق هرمز، وأكد نائب قائد الحرس الثورى الإيرانى العميد على فدوى أن جميع السفن (بما فيها الأمريكية) فى الخليج تقع تحت سيطرة الجيش والحرس، كذلك المنطقة الشمالية فى مضيق هرمز، ولن يستطيع أحد الاقتراب من السواحل الإيرانية بدون تصريح. كما وصلت حاملة الطائرات الأمريكية «أبراهام لنكولن» إلى بحر العرب فى طريقها إلى الخليج، ورغم حجم القوة الهائلة، التى تملكها حاملة الطائرات الأميركية، إلا أن وجودها فى مياه الخليج، يجعلها أقل قدرة على المناورة، ويهدد بإمكانية استهدافها من جانب القوات البحرية الإيرانية، أو بوابل من الصواريخ الساحلية.
ومع سيطرة إيران على عدد كبير من جزر الخليج العربية وإقامتها قواعد عسكرية بها ومنها طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى وسيرى وقويسم وخارك ولارك وهنجام، تواصل إيران غطرستها وإشعال مزيد من التوتر فى بعض البلدان.
هنا تتحرك عناصر الوحدات الخاصة بالمخابرات الأمريكية : مجموعة SAD / SOG للعمليات شبه العسكرية التكتيكية ومجموعة SAD / PAG للعمل فى ظل أجواء مواتية داخل إيران حيث تواجه صعوبات اقتصادية، وأزمات داخلية قد تحدث ثورة شعبية ضد النظام الملالى وهو ما قد يغير من سيناريو المعركة على الأرض بعيدًا عن شكل المعركة التى رسمها وزير الدفاع الأسبق.
نستعرض فى العدد القادم بقية تفاصيل السيناريو الذى وضعه وزير الدفاع الأسبق للحرب المحتملة فى الخليج، وهل ستنسحب الولايات المتحدة من المشهد أم ستواجه إيران؟
* تولى كاسبر واينبرجر وزارة الدفاع (البنتاجون) فى الفترة من 1981 إلى 1987 وقاد عملية بناء ضخمة للجيش الأمريكى وشارك ريجان فى وجهة نظره بأن الاتحاد السوفيتى كان تهديدًا لابد من مجابهته واستقال واينبرجر الذى تعرض لهجوم بشأن بيع أسلحة بشكل غير شرعى إلى إيران ونقل فوائد عملية البيع إلى متمردى الكونترا فى نيكاراجوا فى عام 1987، كما أُدين بالكذب على المحققين فى هذا الصدد؛ وقد عفا عنه الرئيس الأمريكى قبل فترة قصيرة من بدء محاكمته وقد توفى فى 29-3-2006 عن عمر يناهز 88 عامًا.
قال عنه المشير محمد عبدالحليم أبوغزالة أنه كان صاحب الفضل فى حصول مصر على الطائرة F16 والدبابة M1 A1 ولم يكن منحازًا لإسرائيل وكان أكثر رجال إدارة ريجان اتزانًا، كما كان صديقًا للعرب رغم بعض المواقف التى قد تؤخذ عليه.