رئيس التحرير
مخطط تفكيك الدول (4) بين واشنطن والدوحة
By mkamalأكتوبر 20, 2019, 16:57 م
1688
في الحادي عشر من أبريل عام 2006 انطلق ما يُعرف باسم «منتدي المستقبل» في الدوحة وبالتحديد من داخل فندق «الريتز كارلتون» وبحضور أكثر من 500 شخصية سياسية وإعلامية عربية وغربية برعاية وحضور أمير قطر في ذلك الوقت الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني قبل أن يطيح به ابنه تميم من الحكم، كان المنتدى استكمالًا وتطورًا للنسخة الخامسة من منتدى الدوحة للديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة.
كما كان المنتدى بمثابة تنفيذ عملي لما تم الاتفاق عليه بين واشنطن والدوحة لتفتيت دول المنطقة، حيث بدأ انعقاده يوم الثلاثاء واختتمت أعماله الخميس، وفي صباح الجمعة أعلنت إدارة المنتدي عن يوم راحة يشمل رحلة سياحية لمنتجع سيلين (خور العديد).
وُجهت الدعوات لكافة الحضور عقب انتهاء المنتدى على أن يكون التجمع فى التاسعة صباحًا بتوقيت الدوحة يوم 14 أبريل 2006 والانطلاق من بهو فندق شيراتون وحملت الدعوة عبارة (النقل مؤمَّن).
لم تكن هذه النسخة هى البداية، لكن سبقتها تحركات وتعاون وثيق بين المخابرات الأمريكية والدوحة، كما حرصت عناصر قسم الأنشطة الخاصة التابع للمخابرات الأمريكية (SAD) على حضور المنتدى كباحثين وإعلاميين، منذ أبريل 2001.
حضر الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون، ترافقه ابنته، المؤتمر الذى عُقد فى فبراير 2006، والذى رسم خريطة التحرك فى المنطقة؛ وكانت كلمات مثل الديمقراطية والتغيير الواجب والتحفيز والتدريب والعمل على دعم الراغبين فى تغيير الأنظمة هى الأكثر تداولًا خلال أيام انعقاد المؤتمر.
كان بيل كلينتون وابنته يتنقلان من غرفة إلى أخرى حاملين معهما عبارات المجاملة والحض على الخروج بأفكار جيدة ومنتجة، وفى منتديات تلت ذلك المنتدى بدت كونداليزا رايس أكثر رشاقة وهى تضع يديها على طاولات فندق الريتز القطرى متسائلة: ماذا بعد؟
تطورت الأفكار سريعًا، وبدأ العمل من خلال طرفين هما الولايات المتحدة وقطر؛ وبين لقاءات مستمرة وممانعة من جانب دول متعددة ومقاومة شرسة من دول أخرى، اتضح أن ثمة مشروع للتغيير تمت صياغته فى لقاءات متعددة ضمن «منتدى المستقبل» أو خارجه، بحضور مسئولين ونشطاء تابعين لدول متعددة، أو بحضور مسئولين قطريين وأمريكيين فقط.
بعد جهد طويل خرج ما أُطلق عليه اسم «مشروع مستقبل التغيير فى العالم العربى» وتم توزيع المهام على هذا النحو: قطر تعمل على جانب الإسلاميين، والولايات المتحدة على جانب آخر، ألا وهو الجانب المنفتح من الشباب الليبرالى.
ما بين قاعات «الدفنة 1 و2» وقاعة «الريان» التى عُقدت بها المائدة المستديرة على مدى ثلاثة أيام، ناقش الحضور كيفية صناعة الفوضى ولكن بمصطلح أكثر نعومة يحظى بقابلية لدى شعوب المنطقة (الديمقراطية).
خلال الجلسة الأخيرة التى عُقدت فى السادسة مساءً بتوقيت الدوحة وانتهت فى الثامنة والنصف مساء الخميس، تحدث د. سعد الدين ابراهيم مدير مركز ابن خلدون بالإضافة إلى 5 متحدثين آخرين عن «كيفية الإصلاح فى العالم العربى»، ولم يكن الهدف فى الحقيقة كما جاء فى العنوان ولكن الهدف هو كيفية تمزيق العالم العربى.
فى نفس التوقيت كانت تُدار جلسة أخرى تحت عنوان «دور الشباب ومنظمات المجتمع المدنى فى الإصلاح السياسى» أدارها مايك جابس (عضو برلمانى) ويدير مؤسسة ويستمنستر للديمقراطية بلندن، بالإضافة إلى جلسة أخرى بعنوان «مفهوم حقوق الإنسان فى ضوء التحولات العالمية».
كنت قد ذكرت فى الحلقات الثلاث الماضية كيف تم استخدام الإعلام والثقافة والفنون ومراكز الدراسات والجماعات الدينية التى تلهث وراء السلطة، إضافة إلى الدول الباحثة عن موطئ قدم لها بعد تقزُّمها.
ونستكمل فى هذه الحلقة دور أكاديمية التغيير والمنظمات الأخرى التى حملت اسم منظمات حقوقية وهى فى الحقيقة لم تكن تستهدف الارتقاء بحقوق الإنسان بل نشر الفوضى والخراب فى الدول العربية.
وأعود لأكرر القاعدة التى وضعها قسم العمل السياسى السرى فى المخابرات الأمريكية (أن يظن الفرد أنه يسير فى الاتجاه الصحيح نحو تحقيق هدفه وهو فى الحقيقة ينفذ ما تهدف أنت تحقيقه دون أن يدرك ذلك، فهذا هو دليل نجاح المهمة).
كان منتدى المستقبل فى الدوحة جزءًا من خطة تقاسم الأدوار بين قطر والمخابرات الأمريكية لتدمير المنطقة.
هنا تقول الكاتبة الصحفية الروسية «آنا فارفولومييغا» فى مقال نشرته عام 2010 إن الولايات المتحدة بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 اعتمدت موارد ضخمة لإنشاء 350 برنامجًا مختلفًا فى التعليم والثقافة والمعلومات للترويج للديمقراطية ولإيجاد جماعة جديدة من المواطنين العرب المستعدين للتركيز إيجابيًا على قيم وسياسات الولايات المتحدة، وتم دمج تلك البرامج عام 2002 تحت عنوان «مبادرة دعم الشراكات فى الشرق الأوسط»، أو «مبادرة الشراكة الشرق أوسطية» اختصارًا.
وتضيف «فارفولومييغا» معتمدة على دراسة للباحثة من مركز «بيترسبورغ» «ناتاليا تسفيتكوفا» أن السنوات الماضية شهدت تزايدًا ملحوظًا فى أعداد العرب الذين يتلقون تثقيفًا سياسيًا أمريكيًا فى الولايات المتحدة وفى دولهم؛ ففى عام 2007 على سبيل المثال، خضع حوالى 47 ألف مصرى لبرامج تدريبية عن الديمقراطية بمفهومها الأمريكى، وفى عام 2008 وصل العدد إلى 150 ألف مصرى؛ وتتحدث لاحقًا عن تفاصيل استخدامات وسائل التكنولوجيا الحديثة مثل «فيسبوك» و«تويتر» فى تجنيد الشباب العربى وتوجيهه، وتعتقد الكاتبة خلافًا لآخرين أن بداية التغيير الذى كان فى تونس لم يكن مصادفة، بل مرتبًا، ويكفى معرفة أن مؤسسة «مبادرة الشراكة الشرق أوسطية» التى وضعت خمسة أهداف لها، تتمثل فى تقوية المجتمع المدنى وحكم القانون وتمكين النساء وتحسين التعليم وتوسيعه وتشجيع الإصلاح الاقتصادى وزيادة المشاركة السياسية قد اختارت مدينة تونس العاصمة لتكون مقرًا لها، وهى تعمل بنشاط منقطع النظير فى تونس ومصر والأردن والمغرب والعراق ولبنان ودول أخرى منذ عام 2002، وأنفقت مئات الملايين من الدولارات لتحقيق أهدافها.
أوكل المشروع القطرى لإحداث الفوضى تحت ستار مصطلح التغيير إلى د. جاسم سلطان (قطرى)، وهو رجل محنك ملتزم بتعاليم الإخوان المسلمين ومطبق لها.
وبدأ د. جاسم مشروع «أكاديمية التغيير» متخذًا لها مقرًا فى بريطانيا، كما فتح لها فرعًا فى الدوحة وآخر فى فيينا ليترأس هشام مرسى، الذى يحمل الجنسية البريطانية فرع الدوحة، وبدأ جاسم سلطان بغرس المفاهيم المستهدف التركيز عليها فى المشروع التدميرى للمنطقة.
تم التركيز على مصر من خلال عدة جوانب شملت الدعم المالى لبرامج التدريب بأكاديمية التغيير، كذلك تحويل الأموال للعناصر من خلال بنك قطر الإسلامى الذى كان أحد أهم أدوات جماعة الإخوان فى دخول الأموال إلى مصر، بالإضافة إلى الجوانب الآتية:
دعم المعارضة مثل حركة 6 إبريل وتقديم برامج تدريبية لها فى الخارج مقابل مادى مغرى أثناء فترة التدريب.
التركيز فى البرامج المختلفة سواء التى تقدمها الأكاديمية أو ما عرف بمؤسسة بيت الحرية الأمريكى (Freedom House)، على كيفية مواجهة أجهزة الأمن واستهداف رموز الدولة.
تشويه صورة مؤسسات الدولة وخلق حالة من الغضب الشعبى من خلال إبراز السلبيات وإغفال الإيجابيات وتقزيمها بحيث لا يمكن رؤيتها وسط الصورة المظلمة المرسومة باحترافية وبكلمات وسيناريو يُعرضون بأسلوب مؤثر فى وجدان المتلقى.
إنتاج عدد كبير من التقارير التلفزيونية داخل قناة الجزيرة التى كانت المتحدث الرسمى باسم مشروع (تفكيك المنطقة)، واستهدفت تلك التقارير الدولة المصرية والنظام مستغلة أخطاء وقع فيها بعض المسئولين، وما بين الفساد والعشوائيات والمرض، بدأت الجزيرة تنفيذ المشروع واستهداف العقول.
فى بداية عام 2009 أطلقت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس المصطلح الشهير (الفوضى الخلاقة)، والذى كان يعبر عن استراتيجية الولايات المتحدة فى المنطقة؛ وأطلقت أكاديمية التغيير فرع الدوحة بالتزامن مع مشروع شمل كيفية التظاهر وإشعال الاحتجاجات، كما أنتجت عددًا من الكتب مثل: زلزال العقول، حرب اللاعنف، حركات العصيان المدنى، الدروع الواقية من الخوف.
تم تحديد الهدف فى مصر ليبدأ الأمر بالمؤسسة الأمنية (الداخلية) والبرلمان وبعض المؤسسات الأخرى مثل القضـاء، حيث قـامت حركة 6 إبريل بتنظيم احتجاجات ضد تلك المؤسسات.
استهدفت جماعة الإخوان الحشد للانتخابات البرلمانية عام 2010 إلا أن سيطرة الحزب الوطنى على البرلمان ضاعف حجم المعارضة وكان بمثابة فرصة ذهبية للمخابرات الأمريكية وقطر وأدواتهما لتنفيذ سيناريو الفوضى.
فى ذلك الوقت كانت أكاديمية التغيير قد أطلقت مجموعة من البرامج التدريبية حول كيفية استفزاز العناصر الأمنية وكيفية زيادة الغضب الشعبى، وتدربت عناصر أخرى على المواجهة المسلحة فى خارج مصر.
لعبت مواقع التواصل الاجتماعى دورًا رئيسيًا فى المعركة بدأ من 2008 وحتى 20011، كما تم تطبيق أفكار وتكتيكات الأكاديمية فى حركات الاحتجاج وطُبقت أساليب التحرك على الأرض والشعارات المستخدمة.
شملت تلك الأساليب التنقل بالاضطرابات بين المدن والمناطق، والعمل على تكرار التظاهرات والمسيرات لإنهاك قوى الأمن والعمل على تشتيتهم، مع محاولة تحييد القوت المسلحة قدر الإمكان وتكثيف التغطية والتعبئة الإعلامية الموجهة.
وتتولى شبكات متعددة نقل كافة يحدث على أرض الواقع إلى منظمات دولية كمنظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش عبر شبكات الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعى، كان الهدف من ذلك هو تقوية الضغط الدولى على النظام والتسبب فى حرمانه من الشرعية الدولية وإبعاد أصدقائه عنه.
كما يبرز من تكتيكات الأكاديمية خلال الثورات استغلال الإعلام الجديد فى الدعاية لانتهاكات النظام أمام الرأى العام الدولى مع التأكيد على سلمية التظاهر وعدم اللجوء للعنف الظاهر.
شملت التكتيكات أيضًا التدرج السريع فى رفع سقف المطالب وتنفيذ خطوات العصيان المدنى وإبراز بعض المعانى الرمزية مثل حمل المصاحف وإضاءة الشموع ودق الطبول وحمل الأعلام الوطنية، وأيضًا نشر وتعلم وسائل التصدى لقوات الأمن مثل الدروع الواقية ومكافحة الغازات المسيلة للدموع.
حينما تبدأ حركات احتجاج لا يتم إدخال القوى السياسية المنظمة والمعروفة فى البداية، بل تبدأ الاحتجاجات على المستوى الشعبى بشكل بريء، وبعد أن تستقر وتجذب الانتباه وتزداد الأعداد، تتدخل القوى السياسية المنظمة كالإخوان فى مصر وحركة وفاق فى البحرين وعدد من القبائل فى اليمن.
ومن أهم التكتيكات هى أن العمل السلمى للاحتجاج لا يقتصر على اللاعنف فقط، بل هو أيضًا معنى بالبهجة والإسعاد، فيجب أن تكون الأجواء احتفالية حتى تجذب عناصر وأعدادًا كبيرة من الجماهير.
نواصل فى الحلقة القادمة كشف كيف يتم اختيار الأيقونة لإشعال المظاهرات، ودلالة اختيار التوقيت، وتدرج سقف المطالب، وكيفية استغلال الإعلام فى تنفيذ المخطط، وماذا بعد يناير 2011.