صالون الرأي
ناظر المدرسة
By amrنوفمبر 03, 2019, 22:39 م
2100
لا أحد يختار فهذه مهمة الأقدار.. وقد اختارت لى الأقدار مجلة أكتوبر لكى أبدأ منها مشوارًا صحفيًا طويلاً..
كنت على وشك الالتحاق بمؤسسة صحفية قائمة لها إصدارات يومية وأسبوعية.. لكن الأقدار لعبت لعبتها فإذا بى أذهب للقاء الأستاذ أنيس منصور بدلا من الذهاب إلى تلك المؤسسة الصحفية لتقديم أوراق تعيينى كما طلب منى رئيس هذه المؤسسة..
كان اسم أنيس منصور وحده كافيًا لكى أتخذ قرارى بالعمل معه وصرف النظر تمامًا عن المؤسسة الصحفية الأخرى.. ولا تزال ذكريات أول لقاء لى معه حاضرة فى ذهنى كأن اللقاء تم بالأمس..
عرفت الأستاذ أنيس منصور قبل أن ألتقى به من خلال كتبه الممتعة وأحاديثه الإذاعية والتليفزيونية الأكثر إمتاعًا.. ومنذ اللحظة الأولى التى التقيت به شعرت أننى تلميذ فى مدرسة.. مدرسة أنيس منصور..
وعلى امتداد السنوات التالية التى تولى فيها الأستاذ أنيس منصور منصب رئيس تحرير مجلة أكتوبر لم أتوقف لحظة عن التصرف كتلميذ يحاول أن يستفيد بقدر ما يستطيع من أستاذه..
وهكذا دخلت مدرسة أنيس منصور تلميذًا وتخرجت فيها تلميذًا.
وما أعظم الدروس التى تعلمتها فى هذه المدرسة!
qqq
على امتداد الأعوام الثلاثة الأولى من عمر مجلة أكتوبر.. كان الأستاذ أنيس منصور حريصًا على أن يقرأ بنفسه الموضوعات التى ينفذها الصحفيون ويناقشهم ويطلب من أصحابها التعديل إذا لزم الأمر..
جلست يومًا أمامه أرتجف من الخوف وهو يقرأ تحقيقًا صحفيًا كلفنى به..
كان من عادته أن يلقى بملاحظاته بطريقة لطيفة تبدو وكأنها عفوية..
ألقى الأستاذ أنيس منصور نظارته على المكتب وقال وهو يبتسم: لا تقلب الهرم يا مولانا!..
بدا من نظراتى أننى لم أفهم قصده فقال لى: ابدأ بالتخصيص وانتهى بالتعميم.. إذا ناقشت مشكلة ابدأ بالكلام عن الحالات الفردية ثم انتهى بالكلام عن المشكلة بصفة عامة.. وعندما جاء الرئيس الأمريكى جيمى كارتر لزيارة مصر.. كلفنا الأستاذ أنيس منصور بمتابعة زيارته بالتفصيل، بحيث يقوم كل صحفى بتغطية جزء من الزيارة..
أراد الأستاذ أنيس منصور أن نؤدى مهمتنا بكفاءة عالية فظل يعقد اجتماعات يومية معنا قبل أسبوع من الزيارة..
وجاء الرئيس كارتر وقابل الرئيس السادات وعاد بعد ذلك إلى بلاده.. وكتبنا نحن تقاريرنا الصحفية وسلمناها للأستاذ أنيس منصور لكننا اكتشفنا أنه استبعدها جميعا لأننا فى الحقيقة كتبنا كلامًا فارغًا لقلة خبرتنا.. ورغم ذلك فوجئنا به ينشر أسماءنا جميعا بجوار اسمه وبنفس البنط.
وكان درسا رائعا فى التواضع!..
وفى مناسبة الاحتفال بصدور العدد الأول لمجلة أكتوبر.. استطاع الأستاذ أنيس منصور إقناع الرئيس الراحل أنور السادات بأن يلتقى بأسرة تحرير المجلة..
بأسلوبه اللطيف قال الأستاذ أنيس منصور للرئيس السادات إن مجلة أكتوبر من «بنات أفكارك» فأنت أبوها الشرعى وأظنك ستهتم بلقاء أبناء هذه البنت.. أحفادك!..
وافق الرئيس السادات ووجه الدعوة لكل محررى المجلة للقائه فى منزله الريفى بقرية ميت أبو الكوم.
فى الموعد المحدد تجمعنا وذهبنا إلى منزل الرئيس السادات.. تحدث معنا وأجاب عن أسئلتنا وتناول الغداء معنا والتقطنا صورًا تذكارية وعدنا إلى القاهرة.. إلى مبنى المؤسسة..
من فرط انفعالنا باليوم وأحداثه جلسنا جميعا فى صالة التحرير نسترجع الأحداث وانصرفنا فى وقت متأخر وانتهى الحدث بالنسبة لنا.
فى العدد الجديد من المجلة فوجئنا بموضوع صحفى منشور بتوقيع «واحد من محررى أكتوبر» ينقل للقارئ تفاصيل لقاء أسرة التحرير بالرئيس السادات والحوار الذى دار معه..
فى الاجتماع الأسبوعى الذى يرأسه الأستاذ أنيس منصور قال لنا: أدهشنى أنكم جميعا لم تفكروا فى كتابة موضوع عن لقائنا بالرئيس السادات.. ولا واحد فيكم!..
نظرنا إلى أنفسنا بخجل فقال الأستاذ أنيس منصور وهو يبتسم: الذى ينسى لحظة أنه صحفى.. لا يصح أن يكون صحفيًا!..
كان الأستاذ أنيس منصور من أقرب الصحفيين إلى الرئيس السادات وعندما وقع حادث اغتيال الرئيس ترك الأستاذ أنيس منصور مكتبه وسارع بالذهاب إلى مستشفى المعادى لمتابعة الموقف..
انشغل الأستاذ أنيس بالحدث وظل إلى جانب أسرة السادات طوال اليوم.. لكن انشغاله لم يمنعه من الاتصال بمدير مكتبه وأعطاه تعليمات مشددة بضرورة انتظارنا جميعا حتى حضوره.. والاجتماع بنا.
وصل الأستاذ أنيس منصور إلى مبنى المؤسسة فى الحادية عشرة مساء فبدأنا اجتماعنا فى وقت متأخر.. وراح الأستاذ أنيس منصور يوزع علينا التكليفات لتغطية حادث الاغتيال.. لم يمنعه انشغاله وتفاعله مع الحدث وحزنه على موت السادات من القيام بمسئوليته كرئيس تحرير.
ونفد العدد الجديد من المجلة فور صدوره.. كان عددًا متميزًا من الناحية الصحفية، استطاع الأستاذ أنيس من خلاله تغطية كل أبعاد الحادث.. أما الغلاف فكان «تحفة صحفية».
تذكر الأستاذ أنيس منصور أنه استبعد يوما صورة للسادات لأنها كانت «مهزوزة» فطلب من المسئول عن الغلاف نشرها كما هى وعليها بقعة دم حمراء.. وبدت صورة السادات على غلاف «أكتوبر» كأنها صورته فى العالم الآخر!
qqq
كانت مجلة أكتوبر منذ العدد الأول لصدورها – ولا تزال – مدرسة.
وكان الأستاذ أنيس منصور – ولا يزال – ناظر هذه المدرسة.
إسماعيل منتصر