نجوم وفنون
«مينا ماتا» الصور التي تفضح الكوارث
By amrديسمبر 06, 2021, 19:16 م
1615
تدهشني دوما قدرة صناع الأفلام الأمريكيين على تجديد الأفكار والموضوعات، من خلال استلهام أحداث حقيقية، وتحويلها إلى دراما ناجحة، وقد كتبت كثيرا فى هذا الموضوع، متمنيا أن نفعل ذلك فى أفلامنا، بدلا من الدوران فى إطار أفكار وموضوعات مكررة، بينما لدينا حكايات واقعية مذهلة، تحتاج فقط جهدا من كتاب السيناريو لاستلهامها بسهولة.
من تلك الأفلام الأمريكية المستلهمة من أحداث حقيقية فيلم «ميناماتا» للمخرج أندرو ليفتاس، ومن بطولة جوني ديب فى دور استثنائي من أفضل أدواره، الفيلم يقدم تحية مزدوجة جديدة للصحافة الحقيقية، التي يمكن أن تكشف جرائم وكوارث كبرى، والتحية بالتحديد هنا للصور الصحفية، ولمجلة «لايف» الأمريكية الشهيرة، التي احتجبت فى العام 1972، ولكن صورها وموضوعاتها ما زالت فى الأذهان، وبطل فيلمنا هو أيضا شخصية حقيقية معروفة، هو مصور يوجين سميث، مصور مجلة «لايف»، والصور التي التقطها فى اليابان، والتي يحكي الفيلم قصتها، من أشهر خبطاته الصحفية والإنسانية.
التحية الثانية التي يوجهها الفيلم لأولئك الذين يدافعون عن الإنسان والبيئة، فى مواجهة السموم التي تلقيها المصانع فى مياه البحر، مما يصيب البشر، من خلال تناولهم للأسماك بأمراض خطيرة، فالفيلم يدور عما تسبب فيه مصنع كبير فى منطقة ميناماتا باليابان فى إصابة الناس والفقراء تحـــــديـــدا الذيـــــن يصيدون الأسماك، بمرض غريب يؤدي إلى التشنج والشلل، وقد أطلق على المرض أيضا اسم ميناماتا، والصراع فى الفيلم يدور حول فضح القائمين على هذا المصنع بصور إيوجين سميث المنشورة فى مجلة «لايف» فى العام 1971، مما سيؤدي إلى إجبار المصنع على دفع تعويضات للمرضى، ومما سيفتح الباب لمزيد من المعارك، لمنع المصنع من إلقاء السموم فى المياه، والمرضى الذين يقاتلون بالتظاهر وبالقضايا المرفوعة على المصنع، هم أيضا من أبرز أبطال الفيلم، الذي يشير فى نهايته إلى أن رئيس الوزراء الياباني قال منذ سنوات قليلة إن اليابان قد أزالت آثار المرض، ولكن الفيلم يؤكد أن ضحايا المصنع ما زالوا موجودين، أى أن ملف ضحايا تلوث البيئة لم يغلق بعد.
بناء الفيلم مشوق للغاية، ومحوره شخصية إيوجين سميث (جوني ديب) المصور المفلس الذي يهرب أحيانا إلى الخمر والمخدرات، ديونه تحاصره، ويقلقه ألا يجد أولاده الخمسة دعما ماليا منه، ولذلك يبيع معدات التصوير، ويقرر اعتزال التصوير، أما علاقته مع رئيس تحرير مجلة «لايف» فهي أيضا سيئة ومضطربة، وفى قلب هذه الظروف الصعبة فى نيويورك، تأتيه دعوة من الفتاة اليابانية آيلين؛ لتصوير ضحايا هذا المصنع الذي يدمر صحة الناس فى ميناماتا، وينجح إيوجين فى إقناع رئيس تحريره بأهمية نشر موضوع حول هذه الكارثة، يمكن اعتباره من الاهتمامات المبكرة بقضايا البيئة، ولا ننسى شعار مجلة لايف الذي يشير إليه الفيلم وهو : «طالما هناك حياة، فهناك أمل».
ستصبح محاولة تصوير ضحايا المصنع قضية إيوجين للخروج من الحالة العدمية التي يعيشها، وعودته إلى الحياة والنجاح، ولكن المسألة لن تكون سهلة، مع رفض بعض المرضى للتصوير، ومع محاولة رئيس المصنع رشوة أيوجين حتى لا يبعث الصور، ثم قيام البعض بإحراق منزل إيوجين، بينما يجد دعما من آيلين، ومن تجمع للمرضى والنشطاء لاسترداد حقوقهم.
يبرع جوني ديب فى التعبير عن صراع داخلي قوي داخل إيوجين، ما بين ضعفه وإدمانه للخمر، وبين تعاطفه الكبير مع المرضى، الذين نرى منهم نماذج مؤثرة للغاية، حتى ينجح إيوجين فى تصوير بعضهم، كما ينجح فى تصوير عملية تلويث المياه، ويلتقط إيوجين الصورة الشهيرة، التي تعتبر من أشهر صور القرن الصحفية، لسيدة يابانية تقوم بغسل جسد ابنتها المريضة، فى مشهد مؤثر، ساهم نشره فى مجلة «لايف» على إجبار مدير المصنع ( يلعب دوره ممثل ياباني كبير ومتمكن، هو دجون كيناميرا)، على دفع تعويضات مالية للمرضى.
يسترد إيوجين نفسه بهذه المعركة، ويفوز بقلب آيلين التي تزوجته بالفعل، كما أنه يحقق انتصارا صحفيا، ويتحقق فعلا ما قاله عن أهمية الصورة، التي أخذت من روحه ومن حياته، لأنه توفى فى العام 1978 بسبب ظروف انغماسه فى متابعة تلوث المياه بالزئبق، لقد سمعنا أغنية فى بداية الفيلم تتحدث عن شخص يريد تغيير العالم، ولكنه لا يعرف الطريقة، ولكن إيوجين نجح فعلا فى تغيير جزء من ظروف العالم البائسة بصوره الهامة، بينما تواصل زوجته آيلين معركتها حتى اليوم فى التنبيه إلى كارثة تلوث البيئة، ومساندة ضحايا هذا التلوث المستمر.
أما منطق رجال الصناعة، فيمثله رئيس المصنع، الذي يرى أن نسبة الكيماويات بسيطة، وهي تضر القليلين، مقارنة بما ينتجه المصنع من أسمدة تفيد الزراعة، وتنتج محاصيل تسد الفجوة الغذائية، من حججه الهزيلة أيضا أن المصنع يوظف 60% من سكان المدينة، ولكن الفيلم عموما يقدم رئيس المصنع كرجل بلا قلب، يستمع ويتأثر، ولكنه يرفض دفع التعويضات، كما أنه بهيئته وبالفريق المحيط به أقرب ما يكونون برجال عصابات المافيا، وهم فعلا يضربون أحد المرضى وأسرته، بينما قدمت نماذج المرضى بصورة مؤثرة للغاية، سواء فى ظروفهم التي تؤثر على حركتهم، أو فى علاقة إيوجين بهم، ومن أفضل خطوط الفيلم علاقة إيوجين بشاب مريض يريد أن يتعلم التصوير، وعلاقته بأسرة فتاة ولدت بالمرض، وهي نفس الأسرة التي سيلتقط من خلالها صورته العظيمة الشهيرة. من الخطوط الجيدة أيضا علاقة إيوجين مع آيلين التي تبدو فى البداية كفتاة شابة معجبة بمصور عجوز، وإن كان يمكن إثراء هذه الخط ببعض المشاهد والمواقف الإنسانية، وفى كل الأحوال، فقد كان جوني ديب رائعا ومميزا فى التعبير عن شخصية متقلبة، تقاوم ضعفها قبل كل شيء، وعلاقته المضطربة مع رئيس التحرير، سواء عند لقائهما، أو من خلال التليفون، من أفضل مشاهد الفيلم.
«ميناماتا» فيلم جيد ومؤثر، أجمل ما فيه هذه النظرة الإنسانية العابرة للدول، فمن اليابان وأمريكا يتأكد أنه لا يوجد أهم من الإنسان، و يتأكد أن فردا واحدا يستحق الدفاع عنه وحمايته، وأن البشر قادرون على تغيير ظروفهم وحياتهم.
وهكذا كسبنا عودة إيوجين للعمل والإبداع، بعيدا عن الفشل والكآبة، وكسبنا استرداد المرضى لحقوقهم، وهي معركة واحدة ستتلوها معارك، أما الصورة، الفوتوغرافية أو السينمائية، فقد أصبحت دليل اتهام عابر للعصور والأزمان، يذكرنا دوما بأن هناك من لا يعنيه إلا المال والأرباح، ولو على حساب صحة الناس، بينما يؤكد الفيلم بوضوح أن القضية ليست فى هذا المصنع وحده، وإنما فى كل مصنع يقتل الناس بالتلوث، فى كل زمان ومكان.