الشعور بالزمن الجميل يرتبط بالذكريات الجميلة من ناحية ويرتبط بتطور الحياة الاقتصادية وتغير العلاقات بين الناس، وبمشاعر الحنين إلى الماضى ونسيان ما كان فيه من المتاعب، وقد يكون أيضا بسبب الانتقال من الارتباط بالعائلة إلى الانكفاء على الذات والاكتفاء بالأسرة الصغيرة، أى بالزوجة والأبناء، أما بقية الأقارب فإن العلاقات معهم تضعف مع الزمن.. وتبقى العائلة والارتباط بالأقارب والجيران وبكل من يمت إلينا بصلة من ذكريات هذا الزمن الجميل باعتباره زمنا تجاوزه الزمن ولم يعد صالحا لزماننا الحاضر.
كانت عمتى محبوبة السمراء إذا تحدثت يكون حديثها عن العين والحسد وعن الأعمال والسحر وتقول إن العين فلقت الحجر، وأحيانا تضع يدها على رأسى و(ترقينى) بقراءة بعض السور القصيرة من القرآن وتكرر: من شر حاسد إذا حسد.. من شر حاسد إذا حسد.. وكانت فى ليلة رأس السنة الهجرية تصعد إلى السطوح وتضع قوالب من الطوب باسم كل واحد من العائلة، وفى اليوم التالى ترى من الذى سقط قالبه فيكون معنى ذلك عندها أنه سيموت فى هذه السنة.. وإذا رفت عينها أو عين أحد منا تقول: يا رب اجعله خير وكأن ذلك نذير بالشر.. وإذا تثاءب أحد أمامها تؤكد أنه (محسود) وإذا شرق بالماء أو الطعام تقول: لازم حد جايب سيرتك.. وإذا وجدتنا نبحث عن شىء ولا نجده تقول: الملايكة أخذوه.. وترى أن يوم الجمعة فيه ساعة نحس.. وإذا رأت أحدنا يلبس ملابس مميزة تنصحه بألا يظهر بها أمام الناس وتقرأ له المعوذتين، أما بالنسبة لى فقد وضعت حجابا فى جيبى وأوصتنى بأن أحتفظ به دائما.
كان هوس عمتى محبوبة بالعين والحسد موضع تصديق منا أحيانا، وأحيانا نتشكك فى أن عين الحسود يمكن أن تؤثر فى الإنسان وظل هذا الانقسام فى الرأى قائما ولم يحسم.. وكان أحمد أخى يرى أن هذا (كلام فارغ) وجهل ويتعارض مع العقل، بينما كانت أمى تصدق كلام عمتى وتسألها مزيدا من المعرفة، وكان هذا هو الحديث الوحيد الذى يفك صمت عمتى ويجعلها تحكى حكايات عن العين التى فلقت الحجر وتسببت فى مرض ناس وخراب بيوت ناس.. وفى مرة سأل أخى أحمد الشيخ الذى يقرأ عندنا القرآن عن حقيقة الحسد فقال له الشيخ (الحسد مذكور فى القرآن).. والحقيقة أنى لا أصدق أن تأثير الحسد يمكن أن يغير شيئا فى جسم أو فى حياة الإنسان مع أن دراستى للأنثروبيولوجى جعلتنى أعرف أن فكرة الحسد كانت موجودة منذ قدماء المصريين وأن العين مرسومة على جدران المعابد، وكذلك موجودة فى القبائل البدائية فى إفريقيا وآسيا، ولكن المحير أن هذا الاعتقاد موجود لدى «المتحضرة» فى أوروبا وآسيا.. مسألة يطول الحديث فيها ولا يستطيع الإنسان أن يقطع فيها برأى لأنها فى علم الغيب والله أعلم.
أما عمتى وصيفة فهى أيضا ممن يزورونا كل يوم تقريبا، ولا أعرف صلة القرابة مع أمى، ولكن كانت أمى ترحب بها وتتبادل معها الحديث وتسألها رأيها فى بعض الأمور، وكانت هى تتطوع وتقدم لها ولنا النصائح، كما كانت تساعد أمى فى بعض أعمال البيت، وقبل أن أذهب إلى مدرسة رياض الأطفال أقنعت أمى بأن أذهب إلى (الكُتّاب) القريب من بيتها لأتعلم وأحفظ القرآن بدلا من اللعب طول الوقت، واقتنعت أمى بذلك فأخذتنى عمتى وصيفة إلى الكُتّاب، وكان عبارة عن حجرتين، واحدة للأطفال الكبار، والثانية للأطفال الصغار، وأنا معهم ونجلس على حصير على الأرض وأيدينا موضوعة على صدورنا ونلزم الصمت، فإذا تكلم أحدنا تنهال عليه ضربا بالعصا والشتائم، ولكن (الأبلة) تستقبلنى استقبالا خاصا ربما لأنى دفعت المصاريف مقدما، أو لأن أمى كانت تملأ جيوبى بالمكسرات وتعطينى سندويتشا وزمزمية ماء، وتعطينى قرشا صاغا، والأبلة عندما ترانى تضع يدها فى جيوبى وتأخذ كل ما فيها، وأحيانا تعطينى مصاصة أو عسلية مقابل القرش وأحيانا أخرى لا تعطينى شيئا، ولم تكن تهتم بنا ولا تعلمنا شيئا غير أن تردد معنا آية أو آيتين من القرآن نظل نرددها طول اليوم ثم نجلس صامتين وهى تمسك بالعصا وتضرب من يتكلم.. بعد أيام قليلة أصابنى الملل وكرهت الكُتّاب وكرهت الأبلة وكرهت عمتى وصيفة أيضا، وبكيت لأمى طويلا حتى وافقت على عدم ذهابى إلى هذا السجن الصغير.
كنت أحب خالى محمد لأنه كان مبتسما دائما، وعندما يزورنا يروى لنا الكثير من القصص والمفارقات تجعلنا نضحك، ويضاف إلى ذلك أنه كان يأتى دائما ومعه كميات من الحلوى، ويعطينا كلنا.. يعطينى ربع جنيه (بحاله) ويعطى لشقيقاتى كل واحدة جنيه أو إثنين.. وكنت أذهب مع أمى لزيارته وتقضى وقتا طويلا معه ومع زوجته وأبنائه.. وفى يوم جاء أصغر أولاده (إسماعيل) يقول لأمى إنه (تعبان وجابوا له الدكتور) وكان حضور الدكتور يعنى أن الحالة خطيرة، فقد كانت الناس غالبا يعالجون أمراضا كثيرة بالأعشاب.. بالكمون والنعناع والينسون وعسل النحل وزيت الزيتون وحبة البركة، ولا يستدعون الدكتور إلا عند الشعور بدنو الأجل، ولهذا سارعت أمى بإرسالى إلى أبى فى الشادر أستأذنه فى أن نذهب لرؤية خالى (لأنه جابوا له الدكتور)، وذهبت معها فوجدنا خالى راقدا فى حالة إغماء وأحيانا يقطع الصمت ويتمتم بكلمات مبهمة وكأنه يحدث شخصا ما، وأحيانا يغنى (يا دنيا يا غرامى)، وفهمت أمى أن هذه هى سكرات الموت وفهم ذلك أخوالى عند حضورهم الواحد بعد الآخر وتطوع أحدهم بتلقينه الشهادتين والآذان أمامه، ولفظ خالى أنفاسه فى حضورنا، ومازالت هذه اللحظة فى ذاكرتى لن تمحوها السنين.. وكانت أقسى لحظة فى حياتى حين أمسك والدى بيدى وسار فى جنازة خالى، ورأى أنه بذلك يعودنى على مواقف الرجال، ورأيت مشهد الدفن فانهرت وأصابتنى رعشة وبكاء شديد ورقدت عدة أيام فى حالة من الذهول، ومارست عمتى محبوبة دورها المعتاد فأحضرت (طاسة الخضة) وهى عبارة عن سلطانية صغيرة من الفضة عليها نقوش وكلمات غير معروفة وأسماء الله الحسنى وبعض آيات من القرآن، وضعت فيها ماء الورد ولا أعرف بالضبط ماذا أضافت لأنها ظلت تقلب فى الماء بملعقة صغيرة يبدو أنها من لوازم هذه (الطاسة).. وشربت هذا الماء ثلاثة أيام..
حكايات عمتى محبوبة لا تنتهى، أذكر أنها كان لديها ثلاثة تماثيل فرعونية صغيرة، كانت تعطيها للسيدات حين يتأخر الحمل، وتصف لهن كيف يضعونها ليلا فى ماء به ماء الورد ويقرأن عليها آيات معينة، وتستحم الواحدة منهن بهذا الماء فى اليوم التالى وبذلك تفك (المشاهرة) والمشاهرة عند عمتى هو أن تصاب السيدة بالعين والحسد، أو تدخل عليها سيدة أخرى وهى فى حالة خاصة أو يدخل عليها زوجها أو أى رجل وهو حليق الذقن فى نفس اليوم.. أو.. أو.. كانت عمتى متخصصة فى تشخيص الأمراض بمثل هذه الخرافات وعلاجها بالخرافات أيضا، ولكن كان بيننا من يصدق هذه الخرافات ويؤمن بما تقوله.. لم يكن التفكير العلمى العقلانى سائدا.. وكانت الأمية والأساطير تملأ عقول الناس.. وكان الصراع الخفى بين أفكار التخلف والعقليات العلمية قائما فى صمت.
ولأنى أصغر أخوتى فلم أعايش ما جرى فى السنوات العديدة التى سبقت مولدى، ولهذا كنت أحب أن أستمع من أمى وجدى وخالى محمد وأخوتى الكبار عن الأحوال كيف كانت فى العائلة، وكان خالى محمد يحدثنى كثيرا عن أبى فى شبابه وكيف كان مثالا للتاجر الشاطر الذى يعتبر العمل عبادة، ويحرص على أداء الفروض، ويعطى لله كثيرا، ويعم خيره القريب والبعيد، كانت فى أبى هذه الصفات كما لمستها بعد أن كبرت.. خصوصا عطفه على الفقراء واليتامى، ربما لأنه نشأ يتيما.