https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-5059544888338696

رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

من ذخائر تراثنا الشعبي الحي… سيرة على الزيبق.. سيرة شعبية مصرية خالصة

2886

سامر رمضان.. في الأدب والديوان (4)

شخصية «علي الزيبق» من الشخصيات الأدبية «الخيالية» التي حظيت بانتشار واسع في مصر والعالم العربي، خاصة بعد أن تحولت إلى مسلسل درامي حقق نجاحًا جماهيريا كبيرًا في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي؛ حمل نفس الاسم، تمّ إنتاجه سنة 1985، وقام ببطولته كل من: فاروق الفيشاوي، هدى سلطان، أبو بكر عزت، ليلى فوزي، هدى رمزي، صلاح قابيل، حمدي أحمد، جمال إسماعيل، ومحمد الشويحي.. وآخرين، وكتب المعالجة التليفزيونية والسيناريو والحوار الراحل يسري الجندي، وكتب كلمات الأغاني الشاعر الراحل الكبير عبد الرحمن الأبنودي، وألحان إبراهيم رجب، ومن إخراج إبراهيم الشقنقيري.

زمنيا دارت أحداث المسلسل فى العصر العثماني، حول قصة شاب داهية من عامة الشعب المصري، ومن بين طبقاته الفقيرة، قرر أن يقاوم طغيان واستبداد طبقة المماليك الحاكمة «من غير أهل البلد» بالحيلة والخداع والمهارة وخفة الحركة، متخذا من التنكر والاحتيال وسيلة مقاومة، وينتقم لمقتل والده البطل المصري الشعبي «حسن راس الغول» الذي اغتاله مقدم الدرك سنقر الكلبي، ليحل محله ويغتصب موقعه.

ولا أظن واحدًا انتمى لجيلي، من مواليد أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات، لم يشاهد مسلسل «علي الزيبق» الذي كان يذاع على شاشة التليفزيون المصري، حينما كان التليفزيون وسيلة الإمتاع والإفادة والتسلية الأساسية والوحيدة، بلا منافس ولا شريك!

والغريب أن المسلسل بحلقاته الأربع عشرة قد حاز نسبة مشاهدة غير مسبوقة، بل إنه وعلى مدى السنوات التالية لإذاعته للمرة الأولى ما زال يحظى بهذه النسبة العالية من المتابعة، بل الأغرب والأكثر مدعاة للدهشة بالنسبة لي هو تلك المتابعة الحاشدة على يوتيوب فى عصر السوشيال ميديا والفضاءات الافتراضية (الزرقاء والحمراء والخضراء!)

سيرة علي الزيبق

وقد استوحى المسلسل أحداثه من السيرة الشعبية الشهيرة بالعنوان ذاته، وهذه السيرة التي وصلتنا من أكثر من طريق هي السيرة المصرية الوحيدة الخالصة؛ تأليفا وشخوصا ومكانا وزمانا وكل شيء! وحتى الصياغة العامية لها التي وصلتنا هي الصياغة العامية المصرية بصورتها التي نعرفها منذ العصر المملوكي وحتى وقتنا هذا!

«سيرة أشطر الشطار علي الزيبق» من أشهر النصوص الشعبية التي سَجَّلت فى لحظةٍ تاريخية فارقة اتحادَ الوجدان الشعبي فى مواجهة الاستبداد والفساد وظلم الحكام المماليك بسلاح السخرية والهجاء والتواري خلف الرمز ومجازية الخيال.

تدور أحداث الملحمة الشعبية حول دائرة فساد السلطة التي تبدأ من الخليفة العثمانلي (التركي) لتصل إلى أصغر مسئول تابع له فى القلعة، حيث يطلق «حسن رأس الغول» شرارة الثورة ضد الظلم المتمثل فى المقدم «سنقر الكلبي» ومصرعه على يد رمانة، ويأتي ابنه علي الزيبق ليحيي بارقة الأمل من جديد، ويستكمل مشوار أبيه فى الكفاح ضد الاستبداد والحكام الأجنبي الدخيل.

الحكاية الشعبية، دائمًا، تنتصر فى النهاية للمظلوم، تستعير تراث كيد النساء من قصص «ألف ليلة وليلة»، وتستوحي نماذج مقاومة أهل البلد للمستعمر والمحتل والحاكم الأجنبي، تتجسد فى شخصية «علي الزيبق» القادر على البقاء ورد الصفعة، تريد السيرة، الحكاية، الملحمة الشعبية أن تقول لأبناء الشعب لا تستسلموا، قاوموا، هناك مائة باب للتمرد على المحتل الأجنبي الغاصب.

يوضح محمد سيد عبد التواب فى تقديمه للنص النادر من مخطوطة علي الزيبق أن «هذه سيرة أشطر الشطار علي الزيبق فى تراثنا الشعبي، سيرة الثورة على غياب القانون وفساد الحكم ولصوص السلطة، ومغتصبي أقوات الناس وأحلامهم»، ويوضح عبد التواب فى قراءته التحليلية للسيرة أنها «وثيقة فنية بالغة الدلالة أطلقها الوجدان الشعبي يغوص فى أعماق الحياة المصرية، فى بنيتها التحتية والفوقية فيكشف التناقضات الاجتماعية الصارخة، ويعري جهاز الحكم فى البلاد، عبر ملاعيب وحيل شاطر الشطار «علي الزيبق» بلا قدرات خارقة، ولا استعانة بساحر أو جني، يناوئ بها الحاكم الأجنبي ويكيد له ويقاومه».

من «ألف ليلة» إلى «سيرة شعبية» كاملة

تعود أقدم إشارة لشخصية «علي الزيبق» فى التراث الشعبي إلى النص السردي الأعظم فى الثقافة العربية «ألف ليلة وليلة»، ضمن قصص وحكايات المجموعة المصرية التي استطاع الباحثون تمييزها ضمن مجموعات أخرى، أشهرها «البغدادية»، وهي الحكايات التي جمعت باسم «حكايات علي الزيبق وأبوه حسن راس الغول، وما جرى لهما مع دليلة المحتالة، وابنتها زينب النصابة».

كانت الدكتورة سهير القلماوي فى دراستها الرائدة «ألف ليلة وليلة» قد أشارت إلى هذه العلاقة بين الشخصيات التي وردت فى قصص «ألف ليلة وليلة» (علي الزيبق، حسن راس الغول، فاطمة الشريفة، أحمد الدنف، المجوس عباد النار، دليلة المحتالة وابنتها زينب النصابة) وبين السيرة المستقلة التي عرفت باسم بطلها «علي الزيبق».

ويؤكد على ذلك المرحوم فاروق خورشيد فى كتابه «أضواء على السير الشعبية»؛ ويقول إن شخصية علي الزيبق تتردد كثيرًا فى «ألف ليلة وليلة»، فاسمه يرد مقترنا دائمًا بأسماء أحمد الدنف، وحسن شومان، ودليلة المحتالة وابنتها زينب [النصابة] فى أكثر من قصة من قصص ألف ليلة وليلة، كما يتردد ذكر هذه المجموعة من الشطار والعيّاق والفرسان فى قصة علاء الدين أبي الشـامات، وهي واحدة من أمتع حكايات الليالي… ثـم تنفرد شخصية «علي الزيبق» بسيرة خاصة بها تتبعتها منذ المولد وحتى الموت، هي «سيرة علي الزيبق ابن حسن رأس الغول المصري».

ويكشف الدكتور محمد رجب النجار فى دراسته المرجعية «حكايات الشطار والعيارين فى التراث العربي» الأصول الحكائية والسردية التي تحورت عنها سيرة «علي الزيبق»، ويوضح ببراعة أن عمليات نقل متواصلة ومتداخلة ومركبة، ضمن التراث الشفاهي، وحكايات التراث الشعبي، أدت عبر عملية تثاقف معقدة إلى انفصال هذه المجموعة من الحكايات واستقلالها فى متن حكائي منفصل، ضمن ما عرف بالـ «السيرة الشعبية» التي هي لون من ألوان الإبداع الجمعي، يماثل «الملحمة» فى التراث الغربي،

وهكذا ظهرت سيرة «علي الزيبق» الشعبية ضمن المجموعة التي وصلتنا من السير الشعبية العربية المدونة؛ وهي: «سيرة بني هلال» أو الهلالية، «سيرة الظاهر بيبرس» أو الظاهرية، «سيرة عنترة بن شداد»، «سيرة فيروز شاه»، «سيرة الأميرة ذات الهمة»، «سيرة حمزة البهلوان»، «سيرة الزير سالم»..

والسيرة الشعبية فى التراث الحكائي والسردي العربي ليست مجرد قصة مسلية، كان أجداد أجدادنا يتسلّون بسماعها مغناة على الربابة فى مقاهي القاهرة العتيقة؛ بل هي بحق جزء من التاريخ تعبر عن الرؤية الشعبية له، رؤية تقوض الروايات الرسمية وتفككها وتحمل مستويات ودلالات فى مجملها أكثر ثراء وغنى من التاريخ الرسمي، فالسيرة -التي وُلِدَت غالباً فى فترة الاحتلال العثماني لمصر- تُعبّر بمرارة عن شعور المصري آنذاك، بأنه سُلِبَ حقا وتعرض لظلم ومفاسد الحكم العثماني الغاشم، الذي استعان بالمماليك الأتراك أيضا كسلطة قمع وجبي للضرائب مما جعل الأهالي يضجون بالشكوى مما يتعرضون له من قهر واستبداد.

وليس محض مصادفة أن يرتقي بعض الشطار من بين أبناء الشعب وطبقاته الفقيرة -فى تراثنا الشعبي- إلى مرتبة البطولة شبه الملحمية (القومية) على نحو ما نرى فى سيرة أشطر الشطار: سيرة علي الزيبق. وليس محض مصادفة أيضًا أن يكون النمط البطولي المساعد، فى جميع الملاحم والسير الشعبية العربية، عيَّارا من العيَّارين، وغني عن القول إن هذا النمط البطولي المساعد، هو أحب شخصية إلى قلب القاص الشعبي وجمهوره.

وقد أثبت المرحوم محمد رجب النجار فى دراسته القيمة «حكايات الشطار والعيارين فى التراث العربي» أن كثيرا من الأبطال الشطار الذين تزخر بهم أهم مجموعتين من أدب الشطار فى التراث العربي؛ وهما (ألف ليلة وليلة) و(سيرة علي الزيبق)، ممن كنا نظن أنهم شخصيات خيالية مثل دليلة المحتالة، وعلى الزيبق وأحمد الدنف، وغيرهم، هم جميعا شخصيات حقيقية تمتلك واقعا تاريخيا لا يختلف مع واقعها الفني كثيرًا، فكلهم لصوص محتالون وشطار وعيارون، ولهم حكايات فى فن السرقة يطول شرحها على حد تعبير المؤرخين، بل أن الخليفة العباسي يستنجد بالزيبق لإخماد الفتنة التي حدثت فى بغداد سنة 443 هجرية (بين السنة والشيعة).. ولم يجد المؤرخون حرجا فى ذكر ذلك.

مصرية السيرة

يظهر النص الشعبي بطله علي الزيبق باحثا عن الثأر والانتقام لوالده «راس الغول» مقدم درك مصر، كما أن لغة العصر السائدة أصبحت الرشوة والفساد وتبادل الخداع والفهلوة على حساب مصلحة المجتمع، وأن الطريقة الوحيدة للتعامل مع الحكام الأجانب هي خداعهم ومراوغتهم؛ خوفاً من بطشهم، مع التأكيد على أن الشاطر الذي يقع، تُسارع إليه السكاكين، وأولها سكاكين سيده الذي يبيعه فوراً لو انتهت الفائدة منه.

وقد استرعت هذه السيرة الشعبية المصرية الخالصة اهتمام المرحوم فاروق خورشيد الذي خصها بعنايته دراسة وتوثيقا واستلهاما وكتب عنها فى كتابه الشهير «أضواء على السير الشعبية» كما أعاد صياغة أحداثها فى عملين عصريين هما «علي الزيبق» و«ملاعيب علي الزيبق».

وقد ركز خورشيد على أصول السيرة من حيث مصريتها الخالصة، فشخصية علي الزيبق من الشخصيات التي اشـتهـرت فى أدبنا الشـعبي شـهـرة كبيرة جدا، وأخذت لهـا سمة بارزة من إتقان الحيلة وسرعة التخلص مع الشجاعة الفائقة والحيلة المتقنة. وهناك شخصيات عديدة فى أدبنا الـشـعبي نجحت فى الخروج من باطـن الصفحات المدونة فى الكتب لترتبط بالحياة وتمتزج بنفوس المتلقين، وتصبح رمزًا لصفات معينة محددة، فعنترة «العبسي» رمز الشجاعة، ودليلة «المحتالة» رمز المكر والحيلة، وشيحة صـاحب الملاعيب، وسيف بن ذي يزن الإنسان الفذ ذو القوى الخارقة، وهكذا.

وهذه الشـخـصـيات حين نجحت هذا النجـاح سجلت للأدب الشعبي وجوده، ودلت على أهميته فى تجسيد معاني الخير والجمال فى صراع الإنسان العربي من أجل البقاء والنماء الإنساني.

والواقع، كما يقول فاروق خورشيد، أن هذه السيرة تشبه فى مجموعها القصص التي تظهر حين تتفسخ المجتمعات الرأسمالية، وتؤذن بالزوال فيظهر الأبطال الأفراد الذين يقاومون سلطات مجتمعهم بما جبلوا عليه من شـجـاعة وقوة حيلـة لـيأخـذوا من الأغنياء وليعطوا الـفقراء، وليحققوا العدالة بمفهـومهـم النقي الخالص الذي لا تلوثه مفاهيم المجتمع المنهارة.

من أنواع هذه القصص مغامرات اللصوص اللذين لا يستطيع أحد أن ينالهم والذين ينالون هم كل شيء ليحققوا العدالة فى اللصوص الحقيقيين الذين يسخرون العدالة لخدمة أغراضهم وحماية إجرامهم، وفى الأدب العالمي شخصيات كروبن هود، وروكامبول، واللص الشـريف، والقديس، وغيرهم.. وفى أدبنا العربي الشعبي هذه الشخصية الجديرة بالدراسة والفهم، أعني شخصية «علي الزيبق».

والسيرة على هذا الأساس ترسم صورة حقيقية لحياة الشعب فى بغداد ودمشق والقاهرة، فى أثناء فترة زمنية انهارت فيهـا سطوة الدولة وارتفع إلى مركز السلطان فيها المغامرون من كل حدب وصوب، فهم مرة أتراك وهم أخرى ديلم، وهم فى ثالثة من مجلوبي النخاسين تصـم وجـوهـهـم علامات الـعبودية.

ولم يكن أمام الشعب إلا أن يتسلح بنفس أسلحتهم وأن يقاومهم بنفس أسلوبهم، وهكذا أبرز القاص الشعبي شخصية «علي الزيبق» لتلعب دور ابن البلد العادي فى المجتمع المصري فى معترك الطغاة واللصوص والمحتلين، وتحقق عن طريق الانتصارات الروائية توازنا وجـدانيا لدى المتلقي العربي حين تتحقق أحلام يقظته فى النصر والانتقام على بديله الشعبي.

وإن كان هناك أي لون من الشك فى حقيقة كاتب سيرة عنترة أو ذات الهمة مثلًا ومن أي الأقطار هو، فالذي لا شك فيه أن كاتب سيرة علي الزيبق مصري لحما ودمًا، فالأحداث تجري فى جو مصري خالص حتى ولو كان مكانها بغداد أو دمشق فهما عنده صورة من القاهرة. وتفكير البطل وآماله وأحلامه هي انعكاس لتفكير المصري العادي ابن البلد وآماله وأحلامه.. بل لعله من النادر أن تجد فى هذه السيرة بطلا جانبيًا من أبطالها لا ينتمي إلى إحدى قرى مصر أو أحياء القاهرة.