ملفاتهام
أنيس منصور فيلسوف الصحافة وساحر الحكايات
By mkamalأغسطس 14, 2023, 16:02 م
777
د. نسرين مصطفى
أيام قليلة تفصلنا عن ذكرى ميلاد فيلسوف الصحافة المصرية والعربية الراحل أنيس منصور أحد أهم الكتاب والصحفيين فى مصر والعالم العربى، الذى لعب دورًا مهمًا فى إحياء الثقافة العربية بإضافة عمق آخر للكتابة والمعرفة وفلسفة جديدة للثقافة والصحافة معا، تناول الموضوعات بعمق الفيلسوف وفصاحة الأديب ومهارة الصحفي فكان أسلوبه مزيجا من العمق والسلاسة، ولهذا وصلت كلماته إلى أجيال متعاقبة من الشباب.
لم يكن الكاتب الراحل أنيس منصور مجرد كاتب وصحفى بل كان فيلسوفا يتسم بعمق الفكر وسعة الاطلاع والقدرة على التعبير والتحليل ونقل الفكرة بسلاسة ويسر فكانت كتاباته انعكاسات لحياته وأفكاره وثقافته.
وضع أنيس منصور لبنة مهمة فى جدار الثقافة المصرية والعربية وفتح نافذة كبرى على آفاق إنسانية رحبة وعوالم متعددة الأطراف فى فن المقالة والقصة القصيرة وأدب الرحلات والسيرة الذاتية والترجمات والمسرحيات والأدب السياسى فكان دوما يبدع فى ألوان الأدب والفكر؛ لأنه امتلك جناحى الإبداع باقتدار البصيرة الفنية والأدبية النافذة وقدرته الفذة على التعبير بلغة بسيطة فى ظاهرها لكنها فى الواقع كانت لغة فنان تشكيلى ماهر ينقلنا إلى عوالم مفتوحة متسللين من زخم الحياة وقسوتها فكانت لديه قدرة البحث عن جوهر الحقيقة فكان حالة خاصة فى عقول وتراكمات ثقافة الكثير من العاشقين لأدب الرحلات والأدب عموما وحتى الآن يمكن قراءة ما كتبه دون ملل، خاصة أن أسلوبه واختيار موضوعاته عابرة للزمن.
يكشف كتاب «عاشوا فى حياتي» عن علامات النبوغ المبكر لأنيس منصور، حيث حفظ القرآن الكريم كاملًا، وهو فى سن التاسعة، ثم جذبه الأدب فحفظ آلاف الأبيات من الشعر العربى والأجنبي، وكان ذلك مؤشرًا أيضًا لنبوغه فى تعلم اللغات، التى بلغ فيها مبلغًا لم يصله كاتب مصرى أو عربي، فكان حفظه للقرآن الكريم وامتلاكه ناصية اللغة أحد أسباب تهيئته لدخول معارك الحياة العامة؛ ليتناول جميع القضايا بالتحليل والعرض.
صنع أنيس منصور بمواهبه وملكاته وتفاعله مع الثقافات الأخرى، ثورة تفوق بها على أقرانه، ففى مؤسسة أخبار اليوم، ظل واحدا من أبرز أعمدتها، الذين قامت على أكتافهم اسم الصحيفة الكبيرة، لمدة تجاوزت الـ 20 عاما، منذ دخوله لأبوابها فى شارع الصحافة، حتى خروجه منها عام 1976م، منتقلا إلى مؤسسة دار المعارف، حيث شغل منصب رئيس مجلس إدارتها ورئيس تحرير مجلة أكتوبر التى أسسها وصدرت عن دار المعارف.
كما أن عمود «مواقف» بجريدة الأهرام فتح الطريق له فى بلاط صاحبة الجلالة فكان أصغر من تولى منصب رئيس التحرير فى الصحافة المصرية وكان وقتها لم يكمل الثلاثين من عمره وكان عموده مواقف يثير قضايا فكرية ويحكى نوادر خفيفة عايشها يدلى بوجهة نظره فى أحداث آنية وكانت أقواله المأثورة حول الحب والزواج والمرأة هى الأشهر، التى جمعها فيما بعد فى كتاب.
أثرى منصور الحياة الصحفية بعشرات الكتب المهمة والمؤثرة فى الثقافة العربية، التى زاد عددها على الـ 200 كتاب متنوعة الموضوعات ما بين الأدب والفنون والفلسفة وأدب الرحلات، حيث يعتبر منصور منجز لمكتبة كاملة متكاملة من المعارف والعلوم والفنون والآداب والسياسة والصحافة والفلسفة والاجتماع والتاريخ والمرأة نجح من خلالها من تشكيل ثقافة أجيال متعاقبة.
علامات مميزة
كان أنيس من أكثر كتاب مصر ثقافة وتنوعا وعمقا، وكانت لديه واحدة من أكبر المكتبات فى حياتنا الثقافية وصف الكاتب أحمد بهاء الدين كتابه «فى صالون العقاد كانت لنا أيام» بأنه أفضل كتابا صدر خلال الخمسين سنة الأخيرة، الذى روى فيه أيامه ومشاهداته التى عاشها مع أستاذه عباس العقاد، كان يحلو له أن ينادى أنيس يا مولانا وكان أنيس أحد الكتاب المحفزين للأجيال القادمة على القراءة فكان قادرا بأسلوب بسيط على فلسفة كل ظاهرة والخروج منها بحكمة أو دلالة حتى ولو كانت تافهة فى أعين البعض.
وفى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى كان ثلاثة من الكتاب يتربعون على عرش الكتب الأكثر مبيعا فى مصر وهم أنيس منصور ومحمود السعدنى ومصطفى محمود وكان أنيس ساحرا فى كتاباته متنوعا بين القصة والمسرحية والسيرة الذاتية وأدب الرحلات وتحليل الظواهر الكونية وكان دائما ما يقدم الجديد من المؤلفات التى تركت جدلا، مثل كتاب «الذين هبطوا من السماء»، الذى كان محل جدل واهتمام، حيث تناول الظواهر الطبيعية والكونية، التى تقول بهبوط كائنات فضائية على الأرض وكذلك الذين عادوا إلى السماء، لعنة الفراعنة، وهو مجال كانت كتاباته تميل إليه بحسب اهتمامه بالفلسفة الذى بدأ فى سن مبكرة فكان سببا فى انتشار كتب ما وراء الطبيعة بين القراء والمثقفين.
حكاء فريد
كان أنيس منصور حكاءً من طراز فريد فكان كتابه «حول العالم فى 200 يوم»، وهو كتاب أدب رحلات تميز بأسلوبه الرشيق وعبارته السهلة البسيطة وصور فيه عادات وتقاليد الشعوب من اليابان والهند إلى أمريكا ومن السياسة للزواج ومن الرياضة للفن وظل من الكتب الأكثر مبيعا وكذلك كتاب بلاد الله لخلق الله واليمن ذلك المجهول وغريب فى بلاد غريبة.
كما تحولت العديد من أعماله إلى السينما والمسرح والدراما، ومن أبرزها مسرحية «حلمك يا شيخ علام»، «من الذى لا يحب فاطمة»، «هى وغيرها»، «عندى كلام»، وفى الترجمة قدم «منصور» الكثير، حيث نقل نحو 9 مسرحيات و5 روايات من لغات مختلفة إلى العربية، إلى جانب ترجمته لـ 12 كتابا لعمالقة الفلاسفة الأوروبيين، كما اهتمت دور النشر العالمية.
يعد أنيس منصور هو الأغزر إنتاجا والأوسع انتشارا والأكثر تأثيرا خصوصا فى الشباب فهو السفير الثقافى لمصر فى الأوساط والمنتديات العالمية لما يتمتع به من ثقافة واسعة واتقان لأكثر من لغة أجنبية، حيث كان يتقن أكثر من ست لغات إلى جانب العربية لذلك لا يمكن تجاهله فى أى من المناسبات فى الداخل أو فى الخارج، فقد كان محبا للغات فأجاد الإنجليزية والألمانية والإيطالية واللاتينية، بالإضافة إلى كتابته الإبداعية باللغة العربية، وكان يعشق الاطلاع على الكتب بأكثر من لغة، فيقرأ فى أحيان كتابا بلغة أو لغتين ويقارن بين الترجمات والطبعات.
تواصل مع الأجيال
أثرت كتابات أنيس منصور فى الصحافة المصرية فشهد له كبار الكتاب منهم الكاتب الراحل مكرم محمد أحمد، الذى قال إن أنيس استطاع أن يزاوج بين الصحافة والثقافة والسياسة بأسلوب بسيط كما استطاع التواصل مع الأجيال تواصلا نادرا ونجح فى تعريف المصريين بالعالم الخارجى من خلال أسلوبه البسيط فى أدب الرحلات، قال إن أنيس منصور جعل الأهرام تقرأ من الخلف للأمام منذ بدء كتابة عموده فهو صاحب مدرسة خاصة.
رجل المعارك
خاض منصور عددا من معارك أبرزها اتهامه التطبيع، حيث نادى أنيس بضرورة التطبيع من أجل حل القضية الفلسطينية وقد برهن على ذلك من خلال التاريخ، حيث قال فى أحد لقاءاته إن مصر كانت محتلة من قبل الإنجليز قرابة 70 عاما من الاحتلال الفرنسى واليونانى والرومانى ومع ذلك العلاقات قائمة ووثيقة ومتينة ومميزة مما أدى إلى غضب الكثير من السياسيين والكتاب واتهموه بالتطبيع مع إسرائيل
عادات خاصة
عرف بأنه كانت له عادات خاصة فى الكتابة، حيث كان يكتب فى الرابعة صباحا ولا يكتب نهارا وكان يكتب حافى القدمين ولا يرتدى البيجاما وهو يكتب كما عرف عنه أنه لا ينام إلا ساعات قليلة جدا وكان يعانى من الأرق ويخشى الإصابة من البرد دائما وكان يمتلك 36 جواز سفر ملئت جميعا بالتأشيرات لكثرة سفرياته فقد كان محبا للسفر و للتعرف على الثقافات الأخرى.
رحل الكاتب أنيس منصور صباح يوم الجمعة 21 أكتوبر بعد أن نجح فى صنع قنطرة حقيقية، نقلت فكر العمالقة، وفلسفة العالم، إلى القارئ المصرى والعربى البسيط، الذى وثق فى رؤية أنيس منصور، الذى عمل طيلة ثمانية عقود من أجل خدمة القارئ المصرى والعربي، فكان الاحترام والإجلال حق أصيل له.