رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

في الطريق إلى أكتوبر (2)

352

كان سقف آمالنا يلامس السماء، ونحن نتابع تحركات الحشود المصرية إلى سيناء، من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وعلى الأرض وفى شوارع قريتنا وبيوتنا نسمع الزغاريد، فنعرف أن أحد شباب القرية من الجيران الذين سبق لهم أداء الخدمة العسكرية، وتحول إلى الاحتياط، قد وصله خطاب استدعاء الانضمام على وحدته فى القوات المسلحة، فنسارع إلى تهنئته، داعين له بالتوفيق والسداد، ولا ينسى البعض منا أن يوصيه أن يحمل تذكارا له من تل أبيب عند عودته منتصرًا مظفرًا.

كان الحماس يلف أهل القرية كلهم رجالًا ونساءً، شيوخًا وشبابًا، وكنت أحد هؤلاء الذين انضموا إلى مجموعة الدفاع المدني فى القرية، تحت إشراف مأمور المركز التابع له قريتنا، وأخذنا التلقين اللازم لتأمين القرية من الغارات الجوية للعدو، وإرشاد أهل القرية، بما يجب اتباعه عند حدوث غارة جوية.. إلخ -رغم أن قريتنا تبعد عن خط الحدود الدولية بأكثر من  300 كيلومتر، وعن قناة السويس بأكثر من 100كم- واتخذنا من إحدى الغرف فى مركز شباب القرية الملصق لدوار العمدة غرفة للعمليات، نجتمع فيها؛ لننظم وندير أعمال الدفاع المدني، ونواصل منها متابعة الأخبار من كل وسائل الإعلام المتيسرة ومن خلال خط تليفون العمدة نتصل بالمأمور لتلقي التعليمات أو إبلاغه بأي معلومات لازمة.

وجاء يوم الاثنين الخامس من يونيو، وفيه ينصب ويقام سوق القرية من كل أسبوع، ويتوافد عليه سكان القرى المجاورة من كل صوب، هذا يشتري ما يلزمه، وذلك يبيع له وآخر جاء للتجارة، إنه سوق جامع لكل أنواع السلع من خضروات وفاكهة ولحوم وأسماك وطيور وحيوانات وأقمشة و… وإلخ، وفيه أيضًا من المقاهي والأندية ما ينشئ ليوم واحد ويجتمع فيه كل شارد ووارد ليقضوا كل ما أرادوه ويعقدوا فيه من الصفقات ما صغر منها وما كبر.

وما أن أخذ السوق يمتلئ برواده الذين يتقاطرون رويدًا رويدًا، حتى صاح أحدهم من أحد المقاهي القائمة تحت خيمة من القماش «سمع هُس»، «الحرب قامت»، وعم السوق كله حالة من الصمت كأن الحياة فيه قد توقفت، إلا من حركة اقتراب نحو صوت الراديو القادم من أي مكان تحت خيام المقاهي المنتشرة فى السوق، أو التجمع حول أحدهم الذي ألصق الراديو الترانزستور الصغير فوق أذنه، وجميعهم كأن على رؤوسهم الطير، يحاولون أن يعرفوا متى بدأت الحرب؟ وماذا حدث؟ وماذا يحدث الآن؟، وبعد دقائق معدودة ترى هذه التجمعات الصغيرة حول أجهزة الراديو تنتفض صائحة الله أكبر … ويتكرر هذا المشهد وهذا الصياح مع كل بيان عسكري يعلن إسقاط وتدمير عشرات الطائرات الإسرائيلية التي حاولت الاعتداء على الأراضي والأهداف المصرية.

انفض السوق سريعًا على غير عادته، وعاد رواده من حيث أتوا، فما منهم أحد إلا وله رجل فى هذه المعركة؛ ضابط، أو ضابط صف، أو مجند، لقد طارت القلوب من الأسواق إلى حيث الأبناء الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، وتقدموا بها إلى جبهة القتال .. الجميع يترقب الأخبار، وتمر الساعات التي لا تخلو من تسريبات عن تدمير جميع الطائرات التي فى مطار المنصورة المجاور لقريتنا، وأخرى من بعض المثقفين الذين يتلصصون خفية على بعض الإذاعات الأجنبية ويحاولون نقل هذه الصورة المشؤمة لنا على استحياء وفى تكتم شديد فنرفضها، ونثور فى وجوههم ونتهمهم بالخيانة، فيتحاشوننا، ولا يحاولون الاقتراب منا مرة أخرى، ويجئ يوم السابع من يونيو ثقيلًا مبهمًا، ونحن شباب القرية نتابع ما يصدر من وسائل إعلامنا المقروءة والمسموعة والمرئية مرة بالتصديق، ومرة بالشك والريبة إلى أن كان عصر ذلك اليوم، ونحن جلوس فى شرفة غرفة العمليات، فإذا بشيخٍ من فلاحي القرية يقبض على تلابيب أحد جنود جيشنا بزيه العسكري، وخوذته وسلاحه النصف آلي وخزائن ذخيرته معلقة فى الحزام (القايش)، الملفوف حول خصره، وكلما خطا به خطوة يلكمه فى وجهه، وهو يصرخ ياليت خبرك الذي جاءني ولم تجئ أنت كيف تهرب من الميدان، والجندي يصرخ. لم انسحب من تلقاء نفسي لقد صدرت الأوامر للجيش كله بالانسحاب، وكل زملائي انسحبوا معى فيعاود والده – الشيخ الفلاح – لكمه مرات ومرات، وهو يصرخ اخرس يا جبان. ثم يتقدم به نحو عمدة القرية، ويقول له خذه أعده من حيث آتى لو كنت أستطيع ذلك لذهبت به..

ويحاول ذلك الجندي أن يشرح لنا ما حدث، فنكرر له ما يقوله أبوه ونحن منكرين لما يقول.

وتمر الساعات ثقيلة كأنها السنين والأخبار السيئة تترا خبرًا خبرًا، ويلحق بالجندي الأول جندي ثانٍ من المنسحبين، الذين كنا نحسبهم فارين ونحن جميعًا منكرون، لا نريد أن نصدق أية أخبار لا تقول إننا نحقق انتصارًا تلوا انتصار.

وتعلن الإذاعة والتليفزيون أن الرئيس جمال عبد الناصر سوف يلقي خطابًا عصر ذلك اليوم التاسع من يونيو، فنحاول التشبث، بما بقى فى صدورنا من آمال، لعل عبد الناصر يوقظها مرة أخرى، وينفى تلك الأخبار السيئة، التي تطاردنا من كل مكان، ونلتف جميعًا شيوخًا وشبابًا حول شاشة التليفزيون الأبيض وأسود الموجود فى مركز شباب القرية فى انتظار «الزعيم»، ويظهر عبد الناصر على الشاشة، فإذا به وكأنه عمره ازداد عشرين عامًا عن آخر خطاب ألقاه قبل الحرب بأيام، وقال فيه للأمريكان من لم يعجبه الشرب من البحر الأبيض المتوسط، فليشرب من البحر الأحمر – وتسقط قلوبنا فى أقدمنا ونحن نسمع خطاب التنحي الشهير .. تنحى.. أي.. تنحي.. هذا .. أها هنا يترك الربان سفينته .. فى وسط الأنواء .. يتلقفها الأعداء لا .. لا لا.. هكذا خرجنا جميعًا إنها مصر نعم كان صراخنا من أجل مصر، وليس عبد الناصر.. لم ندر ما نفعل ولا كيف، ولكن مثقفينا من الشيوخ هم من دلونا على الطريق هم من قالوا لنا إذهبوا إليه أعيدوه قبل فوات الآوان، لا وقت لدينا نضيعه.. قفزنا مع من قفز فى أحد اللواري التي تحركت بنا تشق ظلام الليل لنصل إلى القاهرة مع الساعات الأولى من نهار العاشر من يونيو، حتى توقفنا على مشارف حي العباسية لا يستطيع اللوري الذي يحملنا أن يتقدم خطوة، فكأن مصر كلها قد أتت إلى القاهرة، والكل يهتف ناصر ناصر.. لا تتنحى لا تتنحى لم نكن نملك فى جيوبنا، إلا ما ندر من القروش لنشتري بها بعض الطعام، ولكننا حتى لم نجد ذلك الطعام كي نشتريه. وتمر الدقائق والساعات ونحن وقوف لا ندري ماذا نفعل حتى طلعت علينا شمس العاشر من يونيو قبل الغروب بدقائق معدودة، فقد أذاعوا علينا أن عبد الناصر قد عدل عن التنحي وعاد إلى موقعه يقود مصر إلى حيث يريد شعبها.

ونعود أدراجنا عائدين إلى القرية بعد أن علمنا أن عبد الناصر قد عدل عن التنحي، وكأننا قد رجعنا من المعركة منتصرين ونصل إلى بيوتنا مع الساعات الأولى من فجر اليوم الحادي عشر من يونيو، فنجد كل من فيها يغطون فى نوم عميق وكأنهم قد فارقوا الحياه، وأتسلل إلى غرفة نومي واستلقي على سريري، الذي لم أدر كم من الساعات قد قضيتها فوقه بكامل ملابسي قبل أن توقظني أمي -رحمها الله- لكي أتناول طعامي، الذي كانت قد تركته إلى جوار سريري قبل يومين، ولم أنتبه إليه وقت وصولي من شدة التعب والرغبة فى النوم، وبينما كنت أتناول طعامي وأمي إلى جواري تسألني عما فعلنا فى القاهرة وكيف كانت رحلتنا، أسمع أصواتًا لم اعتدها، حولنا من قبل ما بين أصوات لوريات تتحرك وبكاء أطفال وصياح أكثره أصوات نساء، فأسأل أمي عن هذه الأصوات فتخبرني أنهم المهجرون من مدن القناة يتوافدون على القرية، منذ الصباح، حيث يتم تسكينهم فى المدارس المحيطة بنا، وأن أهل القرية يعدون لهم الطعام، وقد اتفقنا على توزيع مسئوليات الطعام لكل مدرسة على عدد من البيوت، ويقوم البعض من رجالات ونساء القرية بالمرور عليهم للترحيب بهم ومعرفة ما يلزمهم لتوفيره على قدر استطاعتنا .. وتخبرني أمي أن رفاقي من شباب القرية الذين لم يخرجوا معنا إلى القاهرة، يمرون على البيت منذ الأمس للسؤال عليَّ، وهم ينتظروني فى المنتدى، أو مركز شباب القرية، فأذهب إليهم مسرعًا؛ فأجد من حضر منهم، قد أخذ فى تنظيم العمل فى استقبال أهالينا المهجرين والسهر على خدمتهم، ونبدأ معًا فى إدارة أول أزمة تواجهنا فى الحياة.

إن القادمين من المهجرين يزداد عددهم، والطعام الذي فى القرية ينقص يومًا بعد يوم، وأماكن الإيواء لم تعد تكفي، وحساباتنا نحن الشباب لم تعد تصلح. فيتدخل الكبار من الآباء والأمهات، فأسمع منهم قول «جحر ديب يسع مائة حبيب»، فتستضيف كل أسرة حسب مقدرتها أسرة من الضيوف المهجرين، وأسمعهم يقولون «لقمة هنيه تكفى ميه»، فنتقاسم الطعام بكل الرضا ونصبح جميعًا أصدقاء كبارهم مع كبارنا ونساؤهم مع نسائنا وشبابهم مع شبابنا وأطفالهم مع أطفالنا، لقد صرنا أسرة واحدة لا تعرف من الضيف ومن المضيف.

أزمة أخرى لم نكن ندري ما يفعل بها، نتجت عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ألمت بالدولة كلها، «وهي عدم توفر المبيدات، التي تستخدم للقضاء على «دودة ورق القطن»، وهي آفة يعرفها الفلاحون منذ القدم، فهذه الدودة إن تمكنت من أوراق شجر القطن، وأكلتها ضاع محصول القطن، وضاع معه أصحابه الذين يبنون الآمال على ما يدره هذا المحصول من أموال فى نهاية العام، فهي التي ينفقون منها على كل مستلزماتهم طوال العام.

ويضرب الفلاحون كفًا بكف من هذا الذي يحدث «لقوتهم» كما يقولون، ويرفعون أكف الضراعة إلى الله أن يعينهم على هذا الوباء. ويخرج علينا الحكماء منهم بأبسط الحلول تفكيرًا وأشدها تنفيذًا، وهو القيام بحشد أكبر عدد من الأيدي العامله والمرور على أشجار القطن كلها فى توقيت واحد وهزها شجرة شجرة ليسقط ما عليها من دود فى إناء (جردل أو صفيحة) يمسك بها من يهز الشجرة ويضعها أسفلها ثم يتم تجميع هذه الديدان وحرقها للتخلص منها، وكان هذا العمل لا يصلح إلا فى الساعات الأخيرة من الليل قبل الفجر فى الظلام الحالك. فكنا له نحن شباب القرية متطوعين بدون أجر نمر كل ليلة على أحد الحقول حتى أنهينا حقول القرية جميعها.

نعم كنا نخوض حربًا فى مسرحها، الذي فُرض علينا، كما كان هناك على مسرح الحرب فى جبهة القتال من لا يذوقون للنوم طعما وهم يعدون ليوم تحرير الأرض.