رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

وأخيرًا.. «المنتخب من أدب العرب» بعد غياب طويل !

535

تمثل الكتب التعليمية المدرسية أخطر أنواع الكتب وأكثرها تأثيرًا في حياة الإنسان، وهي التي قد تحبب إليه علمًا ما أو أدبًا ما (أو العكس!).. ولقد انتبهت لذلك وزارات المعارف المصرية المتعاقبة في النصف الأول من القرن العشرين، حين كانت قريبة عهد من سياق النهضة الأدبية والفكرية التي بدأت مع رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وجمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام محمد عبده، وصولًا إلى جيل النهضويين والتنويريين العظام في النصف الأول من القرن العشرين.

إيهاب الملاح

وكانت هذه الوزارات تعهد بتحرير كتب المطالعة واللغة، وتاريخ الأدب ونصوصه، إلى كبار الأدباء والمثقفين فى عصرهم، والذين كانوا على قدر المسئولية والوعي، لا سيما أن أكبر اسم بين هؤلاء وهو الدكتور طه حسين، تولى وزارة المعارف خلال الفترة (1950-1952) ليتوج جهودا عظيمة استمرت لما يقرب من ثلاثين سنة، فكانت هذه الكتب التي تسمى “مصنفات مشتركة”؛ مثل: «النحو الواضح»، و«البلاغة الواضحة» لعلي الجارم ومصطفى أمين، و«المفصل فى تاريخ الأدب العربي»، و«الوسيط فى الأدب العربي وتاريخه»، و«المجمل فى تاريخ الأدب العربي».. وغير ذلك كثير.
كتب قيمة رائعة لا تزال محتفظة بقيمتها المعرفية والثقافية حتى بعد مرور ما يقرب من القرن (أو يزيد) على صدور طبعتها الأولى، ولا تزال عمدة فى أبوابها، وذلك بسرِّ الإخلاص والاحتراف الذي كتبت به، وقد وضع مؤلفوها نصب أعينهم هذا النشء الذي يرغبون فى النهوض به.

ولا يفوتنا فى هذا المقام الإشارة إلى جهد الأستاذ الإمام، الشيخ محمد عبده (1849-1905) فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فقد كان رائدا سباقا إلى إحياء كل أصيل فى تراثنا العربي والإسلامي، وتجديده هذا التراث فى الآن ذاته، فى إطار نزعته التجديدية الإصلاحية
لا خلاف على جذرية وتأسيسية إسهام الإمام محمد عبده فى حركة الإحياء والبعث، والتجديد اللغوي والأدبي، والالتفات إلى مصادر التراث العربي الأصيلة فى ينابيعها الصافية (منذ حركة التدوين الأولى وحتى القرن الرابع الهجري)
ويمكن القول إن تلك الحركة الواسعة التي استهلها الإمام محمد عبده بإحياء التراث العربي، وتجديد اللغة العربية، وتجديد الأدب العربي، كانت هي النواة التي تحلقت حولها، وانبعثت منها جهود تلاميذه وأبناء مدرسة الشيخ محمد عبده، سواء فى مؤسسة الأزهر أو من خريجي مدرسة القضاء الشرعي، أو الجامعة المصرية الوليدة لاحقا.
وقد كان إصلاح اللغة العربية، وتحرير أساليب الكتابة والبيان، مدخل الأستاذ الإمام لقيادة حركة تحديث المجتمع والثقافة المصرية الوطنية فى عصره.‏
وفي ذلك يقول الشيخ محمد عبده عن رؤيته هو ذاته لتطور أسلوبه، فيما كتب عن تجربته، وسيرته: «يقولون -أي مشايخ الأزهر- إن ملكة البيان سهلة التحصيل‏،‏ وإنهم إن شاءوا لما أعجزهم أن يقولوا فيحسنوا‏،‏ ويكتبوا فيجيدوا‏،‏ لا وربك‏،‏ إنهم لأعجز شيء عن أدنى مراتب البلاغة‏،‏ وإن أدمغتهم محشوة بشروح التلخيص وحواشيه وتقريراته‏،‏ ولكنها خلو من ذوق البيان‏،‏ بعيدة عن فهم أسرار البلاغة..‏
إن فن الإنشاء عزيز المنال‏،‏ فقد قضيت فى تعلم الإنشاء -أي الكتابة- خمسة عشر عاما‏،‏ وما أظن أن ملكة كانت تنضج فى أقل من هذا الزمن‏،‏ مع حسن الاستعداد‏،‏ والأخذ بجد فى تحصيل الوسائل‏،‏ والإكثار من التمرين.‏
ثم يخاطب الأستاذ الإمام الناشئين من الأدباء بقوله‏:‏ «اقرأوا كتب الأدب‏،‏ واحفظوا من مختار الشعر وجيد النثر‏،‏ وحركوا أفكاركم وخيالاتكم‏»، ويكفي أن نراجع بعض نماذج كتابات الإمام فى أول عهده‏،‏ ونضع أمامها نماذج أخرى من كتاباته السلسة المتدفقة فى مرحلة الاستواء والنضج كي نشهد حركة الأدب، وهي تنطلق من عصرٍ إلى عصر بوعي وبصيرة.

وأتصور أن هذا “الأصل” الأصيل الذي أرساه الإمام محمد عبده فى مصادر التثقيف الذاتي والفكري والأدبي، قد أسَّس لتقليد إصدار كتب المختارات الأدبية (الشعرية والنثرية) المنتقاة بعناية شديدة كي تؤسس للذائقة الأدبية وتنميها وترتقي بها نحو آفاق أبعد وأعلى..
ومن هنا يمكن تفسير ظاهرة شيوع كتب المختارات التي غَزُرت منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى الثلث الأول من القرن العشرين، ويدخل فى ذلك «مختارات البارودي الشعرية»، و«مختارات الشيخ البشري»، و«مختارات المنفلوطي» فى الشعر والنثر، و«المنتخب فى أدب العرب» (أربعة أجزاء جمعت فيما بعد فى مجلد واحد) الذي قام على جمعه وترتيبه، واختيارات نصوصه، جماعةٌ من صفوة هذا الجيل من تلاميذ الأستاذ الإمام أو ممن تأثروا بدعوته وتجديده إجمالًا.
وقد كان هذا الجيل، من رواد النهضة الأدبية والثقافية فى النصف الأول من القرن العشرين، هُم مَن تقدم خطواتٍ واسعة على طريق “جمع” المختارات والنصوص الأدبية بعناية فائقة، وتأليف الكتب الموجهة للطلاب من منظور ثقافى ومعرفى تنويري، وليس من منظور تلقيني جاف وجامد..
وأثمر هذا الجهد التعاوني المشترك سلسلة من الكتب الرائعة فى الأدب العربي وتاريخه ونصوصه، ربما كانت هي الأهم التي ألِّفت فى القرن العشرين لطلِّاب ما قبل الجامعة! شهر منها «المفصل فى تاريخ الأدب العربي»، و«الوسيط فى الأدب العربي وتاريخه»، و«المجمل فى الأدب العربي» الذي كان بمثابة البروفة الأولى أو المسودة التي تطورت ونُقِّحت لتصدر بعد ذلك بعنوان آخر هو «المنتخب من أدب العرب» الذي نتحدث عنه تفصيلًا.
(ولا أنسى كذلك ضمن هذه الطائفة من الكتب، كتاب «التوجيه الأدبي» الذي كان ضمن برامج الدراسة لكل الطلاب الملتحقين بكلية الآداب فى سنتهم الأولى؛ واشترك فى تأليفه كلٌّ من: الدكتور طه حسين، أحمد أمين، عبد الوهاب عزام، ومحمد عوض محمد.. رحمهم الله أجمعين).

من بين كتب المختارات العديدة التي ألفت فى أدبنا الحديث والمعاصر، يبرز هذا الكتاب الرائع «المنتخب من أدب العرب» الذي يقع فى جزئين (جمعا فى مجلد واحد فى بعض الطبعات)، وهو واحد من أهم وأجمل بل أمتع كتب النصوص العربية، و”المختارات الأدبية” التي تغطي النتاج الشعري والنثري منذ عصر الجاهلية، وحتى القرن الثاني عشر الهجري..
وقد قام بإعداد الكتاب واختيار نصوصه وشرحها لجنة أدبية عظيمة كان يرأسها طه حسين نفسه، وتضم من الأعضاء كلا من: أحمد الإسكندري، وأحمد أمين، وعلي الجارم، وعبد العزيز البشري، والدكتور أحمد ضيف.
وكان هذا الكتاب المرجع سببًا رئيسيًا فى تقريب نصوص الأدب العربي عبر القرون إلى نفوس الناشئة والطلاب الصغار، وكان نجيب محفوظ أحد الذين تأثروا بهذا الكتاب، وأشادوا به، وتحدثوا عنه بتقدير كبير واحترام وافر! يقول نجيب محفوظ فى حواراته مع محمد سلماوي:
«وأذكر فى تلك السنوات من صبايا كتابًا كان مقررا علينا فى الدراسة، وأعتقد أن اسمه كان “المختار”، وكان الذي جمعه وشرحه هو الدكتور طه حسين، والشيخ الإسكندري، كان هذا الكتاب يضم مقتطفاتٍ من أعمال جميع شعراء العربية من أجهل الجاهلية إلى العصر الحديث، وكان يصاحب هذه المختارات الشعرية نبذة عن الشاعر وحياته، ولقد احتفظتُ بهذا الكتاب مدة طويلة، وأذكر أنني قمت ذات مرة بعمل مختاراتي الخاصة من هذا المختار، وكنت أدونها فى كراسة مستقلة وأعود إليها كما يعود الإنسان لسماع موسيقى معينة يهواها كلما استطاع..»
(حوارات نجيب محفوظ ـ محمد سلماوي، مركز الأهرام للنشر، القاهرة، 2015، ص 102)

وبعد قرابة نصف القرن من ظهوره الأخير (وعدم إعادة طبعه من حينها)، بادرت اللجنة العلمية لسلسلة «الذخائر» التي كانت تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، فى 2001، باختياره ضمن إصداراتها الممتازة، وقد أوردت اللجنة أسباب اختيارها لهذا الكنز الأدبي الرائع لإعادة طبعها إياه؛ إذ يقول رئيس تحرير السلسلة آنذاك، المرحوم الدكتور محمود فهمي حجازي:
“اختارت اللجنة «المنتخب من أدب العرب» لعدة أسباب؛ منها، قيمته الأدبية العالية، وندرة الكتاب وحاجة المثقفين إليه، إن القيمة الكامنة فى هذا الكتاب ذي المجلدين كبيرة، فالمختارات الأدبية هنا تغطي كل مراحل تاريخ الأدب العربي الذي كان “ديوان العرب”، والنثر هنا تمثله الخطب والرسائل والمقامات، وغير ذلك. الشعراء هنا، وكتاب النثر، ينتظمون فى نسق تاريخي مع نصوصهم، قدمت مضبوطة بالشكل مع قدرٍ من الشرح اللغوي البسيط فى الهامش بطريقة تساعد، القارئ ولا تحول دون تذوقه للنص، المجلدان متوازيان، كلاهما يبدأ بنصوص العصر الجاهلي، ويضم نصوصا من عصور الأدب العربي، ويصل القارئ ببدايات التجديد فى الأدب العربي الحديث، وهو كتاب قيم وجدير أن يكون فى مكتبة كل مثقف عربي”. وهذا الكتاب الذي يظهر فى هذه الطبعة، بعد أن توقف طبعه ونشره وإتاحته لما يزيد على نصف القرن، هو ثمرة اختيار موفق أنجزته هذه النخبة من الأعلام الأفذاذ وأساتذة الأدب العربي فى مصر فى مرحلة مهمة كان الأساتذة الكبار والمجمعيون الراسخون والمثقفون المرموقون يهتمون فيها بالتعليم، وبالكتاب المدرسي، وبالعمل الثقافى. لم يكن التعليم منفصلا عن الثقافة والمعرفة والإجادة، فلا معنى لأن يدرس الطالب العربية، ونحوها وصرفها، من دون أن يتمثلها فى نصوصها المبدعة الجميلة، ولا معنى لأن يدرس الطلاب القواعد مجردة من دون الإحساس بها وتذوقها والتمكن من فهمها واستيعابها فى تجسداتها النصية؛ شعرية كانت أو نثرية.

كيف رسم مؤلفو الكتاب خطة جمعه وتبويبه؟! وما الأهداف التي حددوها من وراء هذه الاختيارات وفق المنهج الذي أقروه؟!
يجيب عن ذلك باستفاضة معدو الكتاب، وشارحوه: لقد جمعنا فى هذا الكتاب لطلاب المدارس الثانوية ما تقدمت إلينا به وزارة المعارف فى جمعه لهم من النصوص الأدبية شعرًا ونثرًا، وقد حرصنا أشد الحرص على أمرين نرى أن لهما خطرا عظيما؛ هما: الأول؛ أن تكون النصوص التي نختارها لكل عصر من عصور الأدب العربي مرآة صافية، وصورة صادقة واضحة للحياة الأدبية فى هذا العصر، على اختلاف فروعها، وافتراق نزعات الشعراء والكتاب والأدباء فيها.
الثاني؛ أن يكون ما اخترناه، على صحة تمثيله للعصور الأدبية، وصدق تصويره لشخصيات الأدباء ومذاهبهم فى الأدب، فى جملته، جميلًا رائقًا وجزلًا رائعًا، خفيفَ الموقع من الأسماع، لطيف المسلك إلى النفوس، يستطيع أن يبعث فى قلوب الشباب حب لغتهم وأدبها، ويرغبهم فى التزود منهما والتفقه فيهما. وتوخينا إلى ذلك كله، أن يكون جل ما اخترناه من الشعر والنثر سهلًا يسيرًا يلائم حالة الشباب وطاقته.
وقد أفاد كتاب «المنتخب من أدب العرب» من كل ما سبقه من جهودٍ عظيمة فى تأليف كتب النصوص والمطالعة والقراءة والأدب العربي وتاريخه، وخاصة فيما يتصل بخاصية “التدرج” فى تأليف هذه الكتب، وفى عرض المادة المختارة، بحيث تتسع دوائر التلقي مع كل مرحلة تعليمية (من الابتدائي إلى الثانوي)، ومع كل صف دراسي، لترسخ ما سبق وتضيف إليه.
وعلى هذا الأساس ظهر كتاب «المنتخب» باعتباره كتابًا فى المختارات الأدبية على أساس تاريخي، ينمي الذوق والتذوق الأدبي معا، ويربط النصوص بسياقها التاريخي والثقافى، ويساعد أيضًا فى دراسة تاريخ الأدب وتطوره من أقدم عصوره إلى اللحظة الراهنة التي ألف فيها الكتاب، وقد تألف من جزأين؛ الأول “لطيف المختار” قريب المتناول، والثاني “جزيل المختار” مفتن المعنى والغرض.
وقد ظلَّ كتاب «المنتخب من أدب العرب» يُطبع ويسلم لتلاميذ المرحلة الثانوية، وما فى مستواها، على مدى ثلاثين عامًا كاملة (1926-1955) تقريبًا، وظل بعد ذلك ملمحًا رفيعا من تاريخنا الثقافى، يتحدث عنه المثقفون لأجيال وأجيال ولا يجدون نسخة واحدة منه إلا بجهد جهيد وكد ومعاناة إلى أن ظهر الكتاب أخيرًا فى طبعة جديدة عن دار المعارف، بتقديم للأستاذ حلمي النمنم.. سنتحدث عنها تفصيلًا فى العدد القادم بإذن الله.




503 Service Unavailable

Service Unavailable

The server is temporarily unable to service your request due to maintenance downtime or capacity problems. Please try again later.

Additionally, a 503 Service Unavailable error was encountered while trying to use an ErrorDocument to handle the request.