قرابة العامين تقريبا أمضيتهما فى إعادة قراءة وكتابة «سيرة الضمير المصري»، هنا على صفحات مجلة (أكتوبر)، تتبعنا فيها محطات ومعالم فى تاريخ الفكر المصري الحديث؛ نقبنا فى تاريخنا السياسي والثقافي والاجتماعي، فيما قبل الحملة الفرنسية، وبحثنا عن اللحظة التي انبثق فيها الوعي بإشكال التقدم والتخلف، والبحث عن الحداثة والتحديث، وتوقفنا عند أبرز الأفكار والمواقف والمبادئ التي أنتجها مفكرونا العظام من الطهطاوي، وحتى مثقفي ثورة 1919..
إيهاب الملاح
1
كانت رحلة لتتبع مسيرة التنوير منذ قيام الدولة المصرية الحديثة، وحتى ثورة 1919.. رحلة لعب فيها المثقفون الوطنيون أهم الأدوار فى إحداث التغيير الفكرى الذى قاد مصر خطوة خطوة رغم الهزائم والانكسارات لتصبح فى كل مرحلة أفضل مما كانت عليه من قبل.
ولم تكن الثقافة المصرية الحديثة اقتباسًا مباشرًا من أوروبا فى كل أحوالها كما يزعم البعض أو يحب أن يزعم ذلك! بل هى قد تبلورت من خلال الصراع مع الغرب فى معظم الأحيان، وكانت «ثقافة التنوير والنهضة» عودة إلى الثوابت الثقافية للشخصية المصرية، ولإحياء القيم النبيلة فى حضارتنا العربية الإسلامية التى طمستها عصور الظلام المملوكية العثمانية، سعياً إلى تأكيد ذاتية ثقافية مستقلة.
كانت الرحلة طويلة وشاقة، لكنها ممتعة وخصبة وثرية، وأثمرت – ضمن ما أثمرت – ثلاثة كتب كاملة صدرت منفصلة خلال الفترة من 2020 وحتى 2024. كانت حلقات «سيرة الضمير المصري» هى البذرة أو النواة الأولى التى تشكلت حولها أو تفرع منها الكتب الآتية:
الكتاب الأول؛ بالعنوان ذاته، «سيرة الضمير المصري»، وهو بمثابة الخطاطة العامة للمشروع، وقد صدرت منه أربع طبعات حتى وقتنا هذا، ثم كان الكتاب الثاني؛ «طه حسين ـ تجديد ذكرى عميد الأدب العربي» (2021)، ومنذ صدوره وقد ألقى بحجر ضخم فى بركة مياه راكدة، فشهدت مصر والعالم العربى اهتمامًا متعاظمًا بفكر طه حسين، وإرثه، والاحتفاء به وبمشروعه الفكرى والثقافى والحضاري، ما ليس فى حاجة إلى دليل أو شاهد!
أما الكتاب الثالث «الشيخ حسن العطار» (يناير 2024)، وهو الكتاب الأول فى سلسلة من الكتب تصدر بعنوان (المجددون)، وتضم بالإضافة إلى الشيخ حسن العطار، كلا من الشيخ رفاعة الطهطاوي، والشيخ محمد عياد الطنطاوي، والأستاذ الإمام محمد عبده، والشيخ مصطفى عبد الرازق، وأخيه الشيخ على عبد الرازق، وأخيرًا الشيخ المصلح المجدد أمين الخولي.
وهى كتب وإن بدَت أنها بعيدة فى موضوعاتها -ظاهريا- لكنها للقارئ المدقق الفاحص المنقب يجد أنها كلها تنتظم فى إطارٍ واحد يقوم على إعادة «قراءة» تاريخ الفكر المصرى الحديث منذ النصف الثانى من القرن الثامن عشر وحتى نهاية القرن العشرين.
هذا -بإيجاز- ملخص لما تم إنجازه على مستوى إعادة القراءة الثقافية والتأريخ لمحطات مفصلية فى الفكر المصرى الحديث.
2
ابتداء من هذه الحلقة سندشن سلسلةً أخرى من «القراءات» و«التأملات» و«المراجعات» فى إطار المشروع ذاته، والغاية ذاتها، والبحث ذاته، سلسلة تُعنى ببحث مسألة المسائل إن جاز التعبير، وهى مسألة «الهوية المصرية» التى ما زالت حتى اللحظة ونحن فى أواسط 2024 محل جدل وبحث وصراع عنيف،
صراع محتدم وصل إلى ذروته فى الصدام المروع الذى حدث فى 2013 بين تيارات الإسلام السياسى التى استطاعت فى لحظة توتر واضطراب وارتباك شديد فى الوجدان الجمعى المصرى أن تصل إلى السلطة وتتوهم أنها بوصولها إلى رأس السلطة «منصب رئيس الجمهورية» قد حكمت رقاب الناس! وبين غالب وأغلب فئات وشرائح الشعب المصرى فى تجليه الفطري، ووعيه الفطري، ودفاعه المستميت عن «هويته» الراسخة «بعيدًا عن أى تنظير سياسى أو ثقافى أو سوسيولوجي».
كانت لحظة الصدام هذه كاشفة وساطعة ملهمة، وإذا لم يتوقف عندها المحللون والمفكرون والمتخصصون فقد تفوتنا (وقد فاتنا الكثير جدًّا جدا على مدى قرنين كاملين من الزمان، وليس هناك المزيد لنخسره أو لنفقده أو ليفوتنا ما يجب أن نتشبث به ونبحث عنه وننطلق منه!)
أقول إذا لم نتوقف عند هذه اللحظة، ونعيد قراءتها وما تمخض عنها فى ضوء البحث التاريخي، والرجوع إلى الجذور التى تمتد بعيدًا فى نطاق القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فلن نستطيع أن نتجاوز أزماتنا الحالية، ولا الخروج منها ولا التحرك قيد أنملة خطوة واحدة إلى الأمام!
ونقطة البداية – فيما أظن – أن نؤمن بأنه لا يوجد حل جزئي، ولكن الحل جذرى وشامل، وما يجعل الثقافة الغالبية هى ثقافة ماضوية عوامل كثيرة ترجع إلى نظامنا التعليمي، وأجهزة الإعلام، ومؤسساتنا الثقافية، والمجموعات التى تسهم فى توجيه الرأى العام، وأتصور أنه لا بد أن تكون هناك استراتيجية جديدة شاملة تشمل كل الجهات التى ذكرتها ابتداء من «التعليم» وانتهاء بكل ما يسهم فى تكوين وعى المواطن، وبهذا يمكن أن يتحول الاتجاه من اتجاه ماضوى يقدس الماضى سلبًا أو إيجابًا إلى اتجاه يفكر فى المستقبل، وهذا لن يحدث إلا إذا طورنا نظامنا التعليمي، ومؤسساتنا الإعلامية، ومؤسساتنا الثقافية، كلها، وطورنا العمل فى كل الأجهزة التى تتصل بتكوين وعى الناس وفكرهم وخلايا الاستقبال والتعاطى مع الواقع والعالم من حولنا، وعلى رأسها وفى القلب منها الأجهزة التى تبث خطابات متخلفة ورجعية وضد العصر وضد التقدم وضد أى شيء وكل شيء!
3
ونحن فى حاجة إلى مشروع قومى «فكري» نلتف حوله، ونتمسك به، ونعمل على نشره وتعميمه وترسيخه فى الوجدان والأذهان، مشروع ثقافى يعيد بناء الشخصية المصرية «جذريًّا»، ويعيد ترميم الأساسات التى تصدعت بفعل فاعل، مشروع يشتغل على المبادئ والأسس والمفاهيم (حتى لو بدأنا من الصفر، والحقيقة أننا سنبدأ من ذلك للأسف!)
لا بد من إعادة قراءة طه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وحسين فوزي، ولويس عوض، وجمال حمدان، ويوسف إدريس، وكتاب الستينيات وما بعدهم، هؤلاء وغيرهم الذين غُيبوا بفعل فاعل عن وجدان وعقول أبناء مصر وشبابها، هؤلاء الذين وعوا مصر وخبروها وعرفوها وقدموا خلاصة معرفتهم بها فى إبداعات وكتب أصيلة، تم طمس مشروعاتهم الإبداعية والفكرية والثقافية عن أعين الشباب، وتعمية أفكارهم وتشويهها عن قلوبهم وأذهانهم،
وبدلًا من أن ينشأ أبناء مصر وهم يعرفون هذه الأسماء ويتصل وجدانهم وتتصل عقولهم بعصارة أفكارهم، حدث العكس تماما فراحوا لنقائضهم، فكريا وثقافيا وإنسانيا، وبدلًا من يعرفوا تاريخهم ويعتزوا به ويفخروا بما قدمته الحضارة المصرية القديمة للإنسانية، راحوا يستمعون إلى من يصف تاريخهم القديم بأنه «حضارة أوثان» و«عبودية»، وأن الهرم لا بد من محوه وإزالته من على الأرض ذات يوم (بحث بسيط على شبكة الإنترنت ستجد عشرات الفيديوهات لرجال دين وأنصاف متعلمين وجهلة وأميين يلقون هذه الخرافات وهذه الأضاليل على عقول الملايين من متابعيهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد).
نحن فى أمس الحاجة بل أشدها إلى مشروع يعيد صياغة مفاهيم الانتماء، والهوية، والاعتزاز الوطني، والوعى بالتاريخ والتمكن من قراءته وفهمه وتحليله، والإلحاح على التعليم والتعلم واكتساب أدوات المعرفة وإنتاجها.. فكل ذلك هو قاطرة الدفع الرئيسية للبحث عن مكان تحت الشمس. مصر هى الموقع والمكانة والتاريخ والتأثير شاء من شاء وأبى من أبى، مصر هى القيمة والإرث والحضارة والثقافة ومجمع الحضارات والأديان والثقافات والأمم، شاء من شاء وأبى من أبى..
صحيح لسنا فى لحظة تجل كما كنا مرارا فى نهر التاريخ ولسنا فى الصدارة ونعانى من أزمات وتحديات جمة بل صعبة وقاسية وخطيرة، لكن هذا ليس جديدا ولا طارئا علينا.. موروثنا الشعبى الأصيل قدم لنا خلاصة هذه التجارب فى مثال حى وساطع وناصع «ياما دقت على الراس طبول»!
4
وأتصور أننا فى حاجة ملحة إلى تضافر الجهود والأفكار، إلى فكر كل مفكر وطنى مخلص وكل باحث جاد محب لوطنه، وكل صاحب مشروع أصيل وإسهام ثقافى ومعرفى وعلمي، لا بد من إطار يجمع كل هذا، ليس صعبًا أن تقوم مؤسساتنا العريقة صاحبة الخبرة والكفاءة بإعداد قوائم شافية ووافية ومنتقاة بأصحاب الخبرات والكفاءات والمواهب فى كل المجالات على أن يكون إعدادها من أسفل وليس من أعلى «كما هو الشائع» أى أن يكون البدء من القاعدة العريضة من أهل مصر، المراحل العمرية من 25 إلى 40، ومن 40 إلى 50، ومن 50 إلى 60.. وكل اسم يتم اختياره يكون جواز مروره، موافقة وإجماع 5 من أهل الخبرة العالية فى كل مجال من مجالات التخصص (ويكون اختيار هؤلاء الخمسة أيضا بآليات دقيقة ومحكمة تتم على أعلى مستوى ممكن).
إن نقطة الانطلاق الحقيقية، فى بحثنا عن آفاق واعدة لخطاب ثقافى جديد، حقيقي، مؤثر، هى طرح الأسئلة التى نقرع بها جدران الصمت، حيث المسكوت عنه من الكلام المقموع سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. وقد آن الأوان لإنطاق المسكوت عنه، والتصريح به ومناقشته، بدل تركه حبيس الصدور والعقول التى تتأذى بكتمانه والخوف من النطق به.
وإذا كانت الثقافة هى أداة تحررنا وتحريرنا (هذا هو دور الثقافة والمعرفة الحقة فى مواجهة كل أشكال الهيمنة والسيطرة الدينية والأيديولوجية وغيرها)، فى الأفق المفتوح على المستقبل، فإننا لا يمكن أن نفصل الثقافى عن السياسى أو الاجتماعى أو الديني، ولكن التركيز على المنظور الثقافي، وضرورة الحرص على استقلاله، أمر له أهميته التى تعزز فاعلية الدور الثقافى فى تحرير وعى الأمة، خصوصًا حين تطغى الشعارات الرنَّانة من كل نوع بما يثير الانفعالات الهائجة التى تعكِّر على العقل التأملي.
لا أريد أن أسترسل أو أستطرد أو أترك الحماسة المندفعة تقودني، لكنى أحلم وأنا ممن يؤمنون بأن الأحلام هى ابنة الخيال، والخيال هو الطاقة الإنسانية الكبرى للإبداع والتجاوز والانطلاق إلى آفاق لا تحد.. ولولا «الحلم» و«الخيال» ما كتب صاحب هذه السطور ما كتب ولا ألف ما ألف ولا أنجز ما أنجز،
أدرك تمامًا أن ضبط المسافة بين «الحلم» والانطلاق إلى ما لا يحد، وبين الواقع وقيوده وأزماته وتحدياته وممكناته، أقول إن ضبط المسافة بين هاتين النقطتين هما أكبر تحد يواجه مصر والمصريين، وكل ذى وعى وكل ذى عقل وكل قارئ ومحلل لأزماتنا ومشكلاتنا الراهنة..
لا بد أن نبدأ الآن.. لا وقت نضيعه، كفانا ما ضاع!
لا بد من التشخيص الدقيق والتوصيف الأمين، ووضع اليد على لب المشكلات وجذورها، لابد من الإعلان عن الأمراض لا الأعراض!
ولا بد من البدء من النقطة التى نقف عندها، ولا نستسلم للفكرة التى يرددها ويؤمن بها الكثيرون «إما كل شيء أو لا شيء»! أنا أرفض هذا المنطق، وأعتبره تعجيزا واستسلاما للفشل وتبريرا مريحا لمزيد من الآلام والتراجع والتأخر!
نحن لا نستحق هذا ولا نرضى به ولا نقبله، ولا يجب أن نبكى ونولول فقط. يجب البدء من اللحظة الراهنة والنقطة التى نقف عليها، ومهما كانت التحديات والصعوبات، فإننى أثق فى أنه إذا توافرت الإرادة الوطنية الجادة الحقيقية التى تسيِّد المصلحة العليا لهذا الوطن ولمواطنيه فإننا سنتجاوز الكثير وننجز الكثير ونقطع الكثير.. اللهم بلغت اللهم فاشهد!
5
كانت هذه دفقة شعورية خرجت رغمًا عنى قبل البدء فى معالجة موضوع «الهوية» ثقافيا واجتماعيا وتاريخيا، وبحث الإشكال من جوانبه كافة قدر الجهد والطاقة والتتبع والبحث!
فإلى الحلقة المقبلة، والبحث عن مفهوم الهوية، ما هى وما تعنيه دون الدخول فى تفصيل لا يعنى القارئ العام وغير المتخصص، فقط ما يستدعيه المقام وتقتضيه ضرورة القراءة والتحليل.