إن المصريين القدماء لم يتركوا مجرد أهرامات ومعابد، لكنهم تركوا للعالم ما هو أهم.. فقد اخترعوا الضمير والفضيلة والأخلاق، لكن أحفادهم ذهبت أخلاقهم وماتت ضمائرهم فأصبحوا على ما هم فيه الآن، وهو ما يصفه قول أمير الشعراء:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والمتأمل فى حال مصر اليوم يجد أن أزمتها الأولى أخلاقية، فالشارع المصرى لم يعد ذلك الشارع الذى كانت تحكمه أخلاقيات وثوابت لا وجود لها الآن، وهذه ليست مصر التى كانت تعكس حالة مجتمع مترابط تحكمه ثوابت أخلاقية ودينية وسلوكية، فلم نكن بهذه الفوضى ولا هذه القسوة التى تهدد استقرار الوطن.
صفحة الحوادث تؤكد أن الأسرة المصرية فى حالة انهيار.. وأن هناك خللاً أصاب منظومة أخلاق المصريين.
هذا الخلل كشفته السنوات التى أعقبت ثورة يناير، فسادت الشارع المصرى حالة من الفوضى والسلوكيات المرفوضة، وكأنه مخطط لتفتيت مصر أخلاقيًّا، وما تبعه من مشاهد البلطجة وتراجع القيم وتدنى الأخلاق وضرب كيان الأسرة المصرية، وانتشار التلوث السمعى والانفلات السلوكى اعتقادًا بأن الحرية هى عدم الالتزام بتقاليد المجتمع، فالبعض يفهم الحرية خطأ ويتوهم أنها تدفعه لفعل أى شىء ضد من يخالفه فى الرأى، فهل نحن أمام قضية أخلاقية يمكن مواجهتها وعلاجها من خلال خطة عمل تربوى تنهض بها الأسرة والمدرسة والمسجد والكنيسة ووسائل الإعلام والثقافة؟.. أم أن القضية أكثر تعقيدًا وترتبط بعوامل اقتصادية واجتماعية لا يمكن مواجهتها إلا من خلال مشروع قومى تتبناه الدولة بكل أجهزتها الحكومية وغير الحكومية من أجل إنقاذ منظومة أخلاق المصريين، والتى جسد أزمتها أحمد شوقى بقوله:
وإذا أصيب القوم فى أخلاقهم
فأقم عليهم مأتمًا وعويلاً
وإذا نظرنا لحالنا فى مصر الآن لا نرى احترامًا لأحد مهما كان سنه أو مكانته.. وغابت قيم كثيرة من قلوبنا.. فعندما يختلف الأشخاص فى حوار تختفى الأخلاق ونرى تحولاً صادمًا فى الأسلوب والألفاظ، وينتهى الأمر بسيل من الاتهامات والتشكيك أو التخوين لسحق الآخر والقضاء عليه.
وينسى الطرفان أن الدين ينهانا عن السب والقذف والسخرية من الآخرين واتهامهم بالباطل.
فتهذيب النفوس وتحسين الأخلاق من أول الأسباب التى من أجلها بعث الله تعالى رسله وأنزل شرائعه.
فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فالغاية هى السمو بالأخلاق نحو التحضر والتسامح والصدق والأمانة والعدل والرحمة والشهامة والمروءة والحلم والأناة وغيرها من قيمنا وأخلاقنا.
ويظهر أثر الأخلاق فيما تزرعه فى نفوس الناس من إيجابيات، حتى أصبحت ضرورة اجتماعية تحمى المجتمع من السلوكيات الخاطئة والأفكار الشاذة.
وإذا كان الناس لا يرون عقيدة الشخص لأن محلها القلب، فهم يرون أخلاقه ويتعاملون معه من خلالها.
وسئل النبى صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: «تقوى الله وحسن الخلق».
وقال: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم».
فهل أزمة الأخلاق مسألة دينية فقط يكفى لمواجهتها تجديد الخطاب الدينى أو التركيز على الجانب الأخلاقى، قطعًا الأزمة أكبر من أن يحلها الخطاب الدينى فقط، لكنه عنصر مؤثر فى علاجها، لأن هناك أسبابًا أخرى لانهيار الأخلاق.
انهيار الأخلاق له أسبابه نعلمها جميعها ومن أولها الفقر، فلا يمكننا أن نتجاهل قضية الفقر كسبب لفساد الأخلاق، فحين يدخل الفقر من الباب تهرب الأخلاق من الشباك، وتختفى كل أركان القيم والفضيلة أمام احتياجات البطون الجائعة.
ويكفى أن نعلم أن هناك 25 مليون مصرى تحت خط الفقر.
ثانى الأسباب قضية الأمية، وهى واحدة من الجرائم الكبرى فى حق هذا الشعب منذ ثورة يوليو 1952.
ففى مصر 18.4 مليون أمى يمثلون 25.8% من عدد السكان – من سن 10 سنوات فأكثر – وهذا من إجمالى عدد سكان هذه الشريحة التى تبلغ 71.4 مليون نسمة، وقد كان القضاء على الأمية أهم من كل ما قام فى هذا الوطن من مشروعات.
فلا يجدى العلاج فى جسد مريض، والأمية هى أخطر أمراض مصر، فهى أساس التخلف والإرهاب وغياب الوعى.
ومازال إلى اليوم ملايين المصريين يعانون الأمية وسط عالم تقدم فى كل شىء.
الزحام أيضًا من أسباب ضياع الأخلاق، فالزحام له سلوكياته السلبية، لأن ثقافة الزحام لا تصنع بشرًا أسوياء، الزحام فى فصول المدرسة، وفى وسائل المواصلات، والحياة فى العشوائيات ووجود أسرة كاملة فى غرفة واحدة مع دورة مياه مشتركة، يجلسون إلى الطعام فلا «يلحق» أحد ما يسد جوعه، وطوابير فى كل مكان.. أمام المستشفى، الميكروباص، السجل المدنى، مكاتب التموين، فرن العيش.. وسط هذا الزحام تتبخر الأخلاق وتنمو العدوانية والأنانية، ويتصور الإنسان أن تحقيق أهدافه لن يتم إلا على رقاب الآخرين، فتختفى الرحمة وتسقط الإنسانية، وسط الزحام تغيب الفضيلة وينتشر التحرش.
أيضًا أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الأخلاق انتشار المخدرات، فما بين الترامادول والاستروكس سقطت الأخلاق وأصبح الحديث عنها كمن يؤذن فى مالطا.
أطنان من الحشيش والبانجو وملايين الأقراص من الترامادول ومؤخرًا الاستروكس، تخبرنا عن حجم تجارة الموت التى تلتهم ملايين الشباب، وكم من جرائم الأسرة تقف وراءها المخدرات، كثير من جرائم البلطجة والقتل فى الشوارع تقف وراءها المخدرات، كثير من جرائم الخطف والاغتصاب والتحرش تقف وراءها المخدرات.
وفى ظل الجهل والأمية والفقر وانتشار المخدرات تصبح العقول مستباحة، وتنتشر الجريمة، ويصبح الحديث عن الأخلاق شيئا مستحيلا.
وإذا كانت عملية إصلاح الأخلاق على هذا القدر الكبير من الاتساع الذى يشمل محاربة الفقر والجهل والمخدرات، وتحسين جودة حياة المصريين، وإصلاح المؤسسات التعليمية والتربوية وتجديد الخطاب الدينى، فما هى أولويات بداية الإصلاح؟
أولويات الإصلاح اقتصادية فى المقام الأول بمحاربة الفقر والمخدرات والقضاء على الأمية، واستبدال العشوائيات بمساكن آدمية تحفظ كرامة الإنسان..
يأتى بعد ذلك إصلاح التعليم والإعلام والثقافة، وتجديد الخطاب الدينى.. كل ذلك ليس من أجل استعادة الأخلاق ومنظومة القيم فقط، ولكن من أجل إعادة بناء الإنسان المصرى.