صالون الرأي
التلوث البصرى تعدى على الذوق العام
By amrمارس 10, 2019, 19:23 م
1584
نعم كلنا يعلم يقينا أن تلوث الماء يؤدى إلى الفشل الكلوي، وتلوث الطعام ينتهى بالالتهاب الكبدى الوبائي، وتتحجر الرئة وتفشل بتلوث الهواء، وجميع أنماط التلوث تهلك الإنسان وحرثه وزرعه وبهائمه بل وتشيخ الأطفال الرضع فى مهدها، إنما هل دار بخلد أحدنا سؤال مفاده ما شأن التلوث البصرى الذى أبدعناه دون إرث من أسلافنا الأقدمين والأقربين، حتى إننا نتكسب إلى الآن من بديع فنهم الراقى ليس فقط فى قصورهم الحاكمة أو منازلهم المتباينة حسب انتمائها الطبقى بل وأيضا كانت مقابرهم ملهمة للمبدعين وقبلة لعشاق الجمال، رغم أنها قبوراً ومدافن يسكنها الموت فى النهاية! حتى يُفتن الزائر الغريب لوادى الملوك وهى لا تزيد عن كونها مدافن إلا إن لها من المهابة فى حسنها بألوانها الدافئة – حتى الآن – الزاهية المبهجة المشرقة بالحياة رغم موطنها الدائم صوب غروب الشمس! إلا أن الفنان القديم أراد له ولمن حوله ولمن يأتون بعده البهجة والسرور حتى وهم يطئون المقابر، وورث الآباء الأقربون الرقى فى الذوق العام فكانت بيوت الريف المصرى كما معابد أجدادهم تحكى تاريخ الفتوحات والانتصارات والأمجاد بل ومناحى النهضة المختلفة، فكانت دوار الحاج أبو سويلم مزدانة بالمآذن الفرِحة بعودته من الحجاز، وكانت جداريات الربع الكبير فى ثلاثيات محفوظ لأسرة السيد أحمد عبد الجواد كقراطيس منسوخة بدعوات المصريين على الاحتلال ورموزه بالهزيمة المنكرة من هتلر ليس تأيداً للطاغية إنما بطش الظالمين بالظالمين، وهكذا كانت توقيعات المصريين على جدران الحارات والأزقة تأيداً لسعد ورفاقه، وللمرة الأولى فى العصر الحديث يرسم المصريون كأجدادهم صوراً لمشاركة المرأة فى النضال الثورى، ويتعانق فى سلاسة بلا افتعال صليب بهلال على رايات المصريين الملوحة بالنصر على الاحتلال، وكانت اللوحة الأعظم فى شوارع المصريين مساندة لأهليهم ببور سعيد الباسلة خلال معارك 56 حتى انتصر أهالى القناة، ولم يختلف الذوق الجمعى فى حشد الصغار والشيوخ بجوار المقاتلين من الجيش والفدائيين فى 67 واللافتة الأكبر على أبواب المساجد والكنائس وجدران المنازل والمصانع جميعها تنادى (ح نحارب) حتى لاح النصر فى أكتوبر فلم تتشح تلك الجداريات بالسواد حزنا على الشهداء الذين كانوا من كل أسرة مصرية من صعيدها ودلتاها وبواديها وسواحلها – تماما كما هو الشأن الجارى – بل ابتكر المصريون لونا جديداً للدم فأصبح مخضرًا كأجنحة الملائكة وكبشارات القادم من الزمن، فعادت الألوان الزاهية المبهجة على أبواب وجدران المنازل والشوارع والحوارى وما أجملها صورة محمد أفندى رفع العلم فى كراسات التلاميذ بالمدارس ينقلونها نسخًا من وجدانهم إلى صفحاتهم البيضاء!
حتى إن يافطات الإعلانات فى مفترق الشوارع كانت تزيد من المواطنة عمقًا وتأكيدًا بإعلانات عن تنامى اقتصاد صناعى وزراعى، فترى يافطات دعائية عن نجاح تصنيع سيارات النصر ورمسيس، ومصانع للحديد والألومنيوم، ويبدع المعلن فى رسم صورة لأسرة سعيدة بارتداء ملابس مصانع القطن والحلج والغزل والنسيج، فى نهايات الثمانينيات كانوا يقولون لنا فى كلية الإعلام إن الإعلانات تعكس الذوق العام للمجتمع ومدى الرقى الثقافى وتظهر مدى نهضته الصناعية والتنموية، ومنذ عدة سنوات زار صديق لى دولة كافرة بالمعتقدات السماوية ظن أن أهلها فى رجعية إنسانية وردة حضارية وبالتأكيد هم متخلون عن الركب – هكذا حكى لى – وكان المدهش الذى زاده إيمانا بحقيقة الأديان فى علاقة الإنسان بخالقه وعلاقة المواطن بوطنه أرضاً وأهلاً، عندما واعده صديق من سكان تلك البلد – البعيدة – ليتقابلا بجوار يافطة إعلان يُضئ حتى العاشرة مساء فقط، وعندما ذهب كعادته متأخراً وبعد اعتذارات مكررة قبلها من أول مرة الصديق المُضيف وقاطع الرجل صديقى لينبهه بأنه لاداعى للإفراط فى الاعتذار فكلمة (أعتذر) غالية المقدار وثمينة القيمة وتكرارها يقلل مصداقيتها ويسحب من رصيد احترام الآخرين، وسأل صديقى صديقه لماذا هذا المكان والتوقيت؟ فأجابه إن تلك اللوحة المضيئة تنطفئ بعد العاشرة فلا داعى لإضائتها بعد ذلك لأنه من الطبيعى لن يمر أحدًا بالشارع فى ساعة متأخرة إلا لظروف قاهرة كما أن الناس فى راحة النوم لأننا نبكر فى الاستيقاظ أسرع من الشمس، أما المكان لأننى أردت أن أوضح لك عمليًا نتيجة الاستخدام السلمى للمفاعل النووى من خلال المنتجات الموضحة على تلك اليافطة الإعلانية، وهنا استدعى صديقى شريطا سينمائيا سريعا لمعظم يافطات الإعلانات المخزنة بذاكرته فلم تزد عن حفاضات للنساء والأطفال ومعظمها مستورد! وأنهى لى صديقى حكيه بإيمانه بإن الله يُعطى من يعمل، لا من يتعبد ولا يعمل، وكانت تلك القصة التى اجتزت بها بوابة اتحاد كتاب مصر.
وبداية من لوحات الإعلانات المنتشرة بعشوائية فى شواع الحضر والريف بلا مبرر علمى ينظم ملائمتها للبيئة المحلية الموضوعة بها، ودون مراعاة لمسافات الفواصل بين كل يافطة وأخرى والمبنية على أساس بحوث الدعاية ومدى استجابة الجمهور لطريقة وأسلوب عرضها، وكما تنافست تلك اليافطات لتتجرأ على الذوق العام فى منع وسلب الهواء والرؤية عن نوافذ المنازل، أيضًا تجبرت حتى بلغ العمود الواحد يحمل ثلاث وأربع يافطات عملاقة مهددة بالسقوط على المارة من المشاة والسيارات، فضلاً عن إسرافها فى استخدام الطاقة للإنارة سواء من المحروقات أو الكهرباء سواء كانت مدعمة أو مدفوعة بالكامل، ولا يمنع الصورة من وجود براميل الديزل والجاز ملقاة على الأرصفة بلا اعتبار لحق المارة، ولا مبرر من استمرار إضائتها حتى تبدد ظلمة الليل البهيم وانتشار الصباح، بل وتجاوزها فى احتلال أرصفة الحدائق والمتنزهات لتخفى ورائها اللون الأخضر وتعوق قواعدها الخرسانية العريضة من حق السير على رصيف المشاة، والأغرب من الأسئلة التى لا إجابات لها لماذا لا يتم صيانة تلك اللوحات والحرص على نظافتها بدلا من تراكم اللون الرمادى من طبقات الأتربة والدخان المتكلسة، ومن يتعامل مع لوحات تمتد لبضعة مترات مربعة مهترئة متساقطة بفعل الرياح وعدم الاهتمام بآلية تثبيتها وهى تهدد بالسقوط والتطاير على واجهات ومقدمات السيارات بفعل يُنذر بعواقب وخيمة نتيجة إهمال يستهتر بأرواح وممتلكات الأبرياء ممن لهم الحق فى المرور الآمن بالطريق العام، فضلاً عن وجود الكثير والكثير من تلك الأعمدة الإعلانية خالية إلا من الإعلان عن نفسها نتيجة الإسراف فى انتشارها وزيادة عددها عن حجم السوق الإعلانى بما يمثل إسرافا لا مبرر له ولا طائل منه.
ومن الأعمدة إلى جدران المنازل والممتلكات العامة وأعمدة الكبارى التى تمت استباحتها بلا خوف من قانون أو عودة إلى ضمير، وبلا احترام للذوق العام فجميعها باتت ملكا لعشوائية الرغبات منهم من يملؤها بملصقات عن شركات مبيدات ومقاومة حشرات وهم الأحق بالمقاومة! ومكاتب عقارات ومكاتب قانونيين هم أنفسهم تجاوزوا فى الحق العام، ومكاتب محاسبين حُجة فى التهرب الضريبى، ورسومات مسيئة وألفاظ يندى لها الجبين ويحاكم عليها القانون والأغرب انتماءاتها الدينية، وصور مستفزة وشعارات لمشجعى فرق رياضية لا علاقة لها بأخلاق الرياضة، وإعلانات عن العلاقات الحميمية وعلاجات الأمراض الجنسية على حافلات النقل العام بلا احترام لما بقى من الذوق العام، وأسماء مدرسين الأسطورة فى الرياضيات والمرجع فى اللغة والساحر فى الكيمياء وغيرهم قادمون من زمن الأساطير يبيعون الوهم لطلبة تخدعهم الأفيشات الساقطة ولما لا وهم أنفسهم جعلوا من أجسادهم مساحات لرسم التاتو لأشكال الديناصورات ورءوس الشياطين وأفواه الثعابين، وهم أنفسهم من يشوهون بالحفر على جذوع الأشجار قلوباً مقتولة بسهام لا غرض من طعن القلوب بها سوى التجّمل الزائف، وهم من يخدشون طلاء السيارات بلا مبرر طبقى ودون وازع من الأحقاد الدفينة بل هو مجرد عبث غير مفسر، وهم من يمزقون بحد شفرة «الكطر» مقاعد المواصلات العامة بأشكال هندسية أقرب إلى الطلاسم، وهم من سبوا بعضهم البعض جهراً بالكتابة على أعمدة الإنارة، وهم من فضحوا أصدقاءهم ومنافسيهم ونظرائهم رشاً ببخاخات الألوان على الجدران تحت زعم الفن الجرافيتى، وهم من تحدوا غيرهم ساخرين (حسّن خطك) و(أمسح وح نكتب تانى) حتى بات من المحتم إيجاد آليات إيجابية لاستيعاب طاقات الإبداع لدى هؤلاء بمناخ ثقافى ناضج، ومواجهة هذا التلوث البصرى الذى تجرأ على الذوق العام.