محمود درغام
طوال خمسمائة عام حكمت فيها دولة المماليك مصر والشام، كانت الاضطرابات الداخلية والخارجية هى السمة الأساسية، ورغم ذلك لم تفقد المناسبات الدينية وخاصة شهر رمضان أي من الزخم الاحتفالي، بل على العكس كانت هناك إضافات أعطت شهر رمضان المزيد من الروحانية والبهرجة التي يفتقدها رمضان هذه الأيام.
ارتبطت دولة المماليك بالحملة الصليبية السابعة والمعروفة تاريخيا بحملة «لويس التاسع» الذي تم أسره في دار بن لقمان بالمنصورة، والقصة تعود إلى وفاة السلطان الصالح نجم الدين أيوب – آخر سلاطين الدولة الأيوبية – أثناء الحملة، فأخفت زوجته «شجر الدر» الخبر عن الجنود حتى لا تنهار روحهم المعنوية قبيل معركة المنصورة، كما قامت باستدعاء ولده «توران شاه» للجلوس على عرش أبيه، وبعد الانتصار شعر المماليك بقوتهم، فراودتهم فكرة الاستيلاء على الحكم، وقد غذاها البغض المتبادل بينهم وبين «توران شاه»، فقتلوه شر قتلة وولوا مكانه ?شجر الدر» نظرا لكونها جارية سابقة وزوجة للسلطان الصالح، الأمر الذي يضفي الشرعية على حكم المماليك.
ونظرا لعدم تقبل ولاة الأقطار لوجود أنثى على عرش مصر، قررت «شجر الدر» الزواج، حيث كان أبرز المتقدمين عز الدين أيبك التركماني وفارس الدين أقطاي الجمدار، فاختارت الأول وولته حكم البلاد ولقب بالمعز، لكن سرعان ما تعكرت الأجواء بينهما ما دفع «شجر الدر» إلى قتل أيبك، فقتلتها «أم علي» زوجته، ليتولى الطفل الصغير عرش مصر ويلقب بالمنصور، وقد كانت حداثة السن، إلى جانب خطر المغول أسباب كافية لينقلب المماليك عليه ويقتلوه، ليتولي بعد ذلك سيف الدين قطز عرش مصر وينجح في دحر الخطر القادم من الشرق، لكن سرعان ما تعود المؤامرا? والدسائس المملوكية فيقتل ركن الدين بيبرس البندقداري صديقه قطز خلال العودة من مطاردة فلول المغول، ليصبح بيبرس سلطان مصر الجديد ومثبت أركان دولة المماليك خاصة بعد أن استقبل آخر السلالة العباسية لتتحول القاهرة من مجرد عاصمة المماليك إلى عاصمة دولة الخلافة.
وتذكر كتابات المؤرخين أن شهر رمضان لم يفقد زخمه خلال العهد المملوكي رغم كل ما شهده من مؤامرات ودسائس وحروب داخلية وخارجية، فتقول إنه عند الاحتفال باستطلاع الهلال كان يخرج قاضي القضاة ومعه القضاة الأربعة والشهود ومعهم الشموع، يشاركهم محتسب القاهرة وتجارها ورؤساء الطوائف والصناعات والشعب، حيث كانوا يشاهدون الهلال من منارة مدرسة المنصور قلاوون بالنحاسين، فإذا تحققوا من رؤيته أضيئت الأنوار علي الدكاكين وزينت المنازل والمآذن بالفوانيس ويخرج قاضي القضاة في موكب حتي يصل إلى داره، كما يقول الرحالة «ابن بطوطة» أنه ?ي يوم «الركبة» أي يوم ارتقاب هلال رمضان من عام 727 هجرية يجتمع فقراء المدينة ووجهائها بدار القاضي عصرا، وقرب المغرب يتحرك هو ومعه كل من في المدينة حتي يصلوا إلى موضع مرتفع خارجها، فإذا رأوا الهلال يعودون وبين أيديهم الشموع والمشاعل والفوانيس.
واستمرت حفلات الرؤيا التي يشترك فيها الشعب بكافة طوائفه وذلك بعد أن انتقل إثبات الهلال إلى المحكمة الشرعية، حيث يخرج موكب الرؤية إلى هناك وتتقدمه الموسيقى والجنود والتجار ومشايخ الحرف بالطبول، حتى إذا ثبتت الرؤية فتطلق الصواريخ وتضاء المنارات ويمر موكب الرؤية في أنحاء القاهرة معلنا الصيام، وقد اتخذ شيوخ الحرف وأصحاب التجارة الموكب منبرا يتبارون من خلاله على عرض تجارتهم أو صناعاتهم، ومن عجائب عصر المماليك إقدامهم المستمر على بناء المساجد والمدارس والأسبلة تقربا إلى الله رغم كل الدماء التي سفكوها، إضافة إلى ?مل الخير خاصة في رمضان، فتقول المراجع إن حجج أوقاف تلك المساجد والمدارس اشتملت على الكثير من أنواع البر مثل زيادة رواتب الأئمة والخدمة، وتوزيع السكر عليهم وكسوة التلاميذ اليتامي، بالإضافة إلى مضاعفة كميات الأكل والحلوى للطلبة والأساتذة، وتخصيص الكثير من الأموال لشراء قناطير اللحم والخبز والأرز والعسل والحبوب لطبخها وتوزيعها على الفقراء.
ويروى عن السلطان الظاهر بيبرس أنه كان يأمر المطابخ بإعداد الطعام في الأول من رمضان لتوزيعها على الفقراء والمساكين، كذلك توزيع كميات كبيرة من السكر والمكسرات ولحم الضأن على الفقراء خلال الشهر تحت إشراف المحتسب، كما كانت الدور مفتوحة لاستقبال الوافدين عليها للإفطار، وكانت أسهم المقرئين ترتفع حيث يكثر العرض عليهم، فكان الأغنياء يتبارون في تعيين مجيدي القراءة لتلاوة القرآن الكريم في دورهم خلال الشهر، كما كان قراء القرآن يتواجدون كل ليلة من رمضان في الجامع الأزهر وذلك لختمه في ليلة القدر خلال حفل كبير يحضره الق?اة الأربعة، وتوزع خلاله الهبات على العلماء والفقهاء.