في التاسع من أكتوبر 1973 أعلن الشيخ زايد آل نهيان تبرع بلاده بمبلغ مائة مليون جنيه إسترليني للمعارك الدائرة على الجبهتين (المصرية والسورية)، ولم تكن لدى الإمارات يومها الأموال التي قرر إرسالها إلى الأشقاء بسبب الضائـقة المالية التي كانت تعاني منها أبو ظبي في ذلك الحين؛ جمع الشيخ زايد رجال البنوك والمال في لندن واستدان منهم المبلغ بضمان البترول وبعث به لدعم الأشقاء وعندما سُئل عن قيمة هذا الدعم قال “إن الثروة لا معنى لها بدون حرية أو كرامة . . وإن على الأمة العربية وهي تواجه منعطفًا خطيرًا أن تختار ما بين البقاء أو الفناء.. بين أن تكون أو لا تكون.. بين أن تنكس أعلامها إلى الأبد أو أن تعيش أبِية عزيزة مرفوعة أعلامها مرددة أناشيدها منتصرة.”
لم يكن موقف الإمارات العربية وحدها المساند للدولة المصرية والسورية في حرب استرداد الأرض بل كان ذلك موقف الدول العربية جمعاء، ولم يكن هذا هو الموقف الأول للعرب الذى يصطفون فيه خلف قضية واحدة؛ فقد اصطفوا قبل ذلك في حرب 48 لكنهم تكبدوا هزيمة ضاع على أثرها إحدى الدول العربية (فلسطين) وضاعت معها القدس بفعل قوى الاستعمار والخيانة.
عقب بدء حرب فلسطين عام 48 (بدأت في مايو 1948 وانتهت في مارس 1949) اجتمع عدد من مسؤولي المخابرات البريطانية (MI6) ومسؤولي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية(CIA) التي كانت لم يمض على تأسيسيها سوى ثمانية أشهر؛ وعلى نهر “بوتوماك” بمقاطعة فيرفاكس بولاية فيرجينيا كان الاتفاق على عدد من النقاط لحماية العصابات اليهودية وحماية دولة إسرائيل في مواجهة العرب.
(1)
رغم هزيمة العرب في المعركة إلا أن بريطانيا والولايات المتحدة أدركتا أن اتفاق العرب ووحدة صفهم يمثل خطورة على مشروعهم الجديد في المنطقة ( دولة إسرائيل) هنا بدأت الإدارة المختصة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا بتقديم عدد من المقترحات:
ـ العمل على تشويه الوعي والفكر والتأثير في ثقافة شعوب تلك المنطقة من خلال (الوكالة الأمريكية للتنمية ) وعدد من المؤسسات الثقافية والفنية في الدولتين.
ـ الوصول إلى عدد من الرموز الثقافية والفنية والسياسية؛
ـ التصدي لأية محاولة للنهوض بأي من دول الشرق الأوسط، والاستمرار في إشعال الصراعات والقلاقل داخل الدول لاستنزاف مواردها.
ـ إتاحة الفرصة أمام إسرائيل للتوسع في المنطقة على حساب دول الجوار، من خلال عملية إضعاف الجيوش وإفقاد شعوب تلك البلدان الثقة في قواتها المسلحة.
ـ طرح رؤية جديدة لتقسيم المنطقة (ما عرف بعد ذلك ببلقنة الشرق الأوسط، أو خريطة حدود الدم).
استقر القرار أن يكون البدء في التحرك على البند الأول لغرس مجموعة من المفاهيم الثقافية والأيدولوجيات، محدثةً حالة من التنازع بين فئات المجتمع العربي الذي يمثل الكتلة الأقوى في الشرق الأوسط لارتباط شعوبه برباط قوي ومهم (اللغة) والتي تجمع 22 دولة.
تم الدفع بـ 250 ألف عميل إلى الشرق الأوسط تقوم المخابرات الأمريكية لهم رواتب شهرية (كتاب أسطورة الوهم – محمد الحكايمة 2001).
عقب ثورة يوليو 1952 في مصر وجلاء الإنجليز التام عام 1954، كثفت المخابرات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية عملها في المنطقة وخاصة في مصر، نظرًا لتحرك القيادة السياسية نحو بناء جيش قوي ودعم حركات التحرر في البلدان العربية؛ هنا أدركت تلك الدول خطورة ما تشهده مصر على خطتها نحو المنطقة لتقوية إسرائيل على حساب دول الجوار.
استغلت تلك القوى إعلان الرئيس جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس من أجل بناء السد العالي، فتذرعت البلدان الثلاث بهذا الأمر لاجتياح الدولة المصرية والنيل منها قبل أن تحقق نجاحًا في مشروعها.
فشلت المحاولة بانسحاب جميع القوى المعتدية على مصر، ولكن المخابرات البريطانية تحركت بقوة نحو عناصرها في مصر مقدمة لهم الدعم لاستخدامهم كأدوات في مواجهة النظام.
عقب هزيمة يونيو 67 بدأت تلك القوى تلتقط أنفاسها على اعتبار أن إسرائيل استطاعت الحصول على جزء كبير من مشروعها التوسعي في المنطقة العربية، واعتقدت أن الوطن العربي لن يعود إلى الوحدة مرة أخرى.
(2)
جاءت معركة أكتوبر 1973 ومشاركة العرب في معركة التحرير ليصيب مراكز البحوث في أجهزة المخابرات لدي الدول الثلاث (بريطانيا، إسرائيل ، أمريكا) بالصدمة، فرغم الضغوط التي واجهتها مصر من حظر بيع الأسلحة إليها استطاعت مصر الحصول على الأسلحة من خلال عدد من الدول مثل ليبيا والجزائر.
انتصرت مصر في حرب أكتوبر، ووجهت صفعة قوية لإسرائيل وحلفائها، وتكرر موقف تكاتف الدول العربية ولكن هذه المرة استطاع العرب أن يوجهوا ضربة قوية للمشروع الإسرائيلي.
في عام 1974 وقبل أن تضع الحرب أوزارها رغم قرار وقف إطلاق النار الذى جاء في 28 أكتوبر 1973 وقبيل مباحثات الكيلو 101، عادت مجموعات العمل داخل المخابرات الأمريكية ونظيرتها البريطانية وباشتراك مجموعة عمل من الموساد الإسرائيلي، لمراجعة نقاط العمل التي أقرتها المجموعة السابقة في عام 1948 وإضافة عدد من النقاط الجديدة للتحرك من أجل أضعاف دول المنطقة.
عقب اجتماع عقد في نوفمبر 1974 بلندن، والذي استمر 3 أيام، تم الاتفاق على أن تشمل التحركات مجموعات الضغط تحت مسمي حرية التعبير في البداية ، ليتطور الأمر بعد ذلك للوصول إلى الهدف (تدمير الجيوش العربية).
لم يكن الوصول إلى الهدف بالأمر السهل خاصة أن الشعوب العربية ترتبط بقواتها المسلحة، وترفض أية محاولة للمساس بها لأنها بمثابة الدرع الذى يحمي الدول الوطنية كما هو حال الجيوش العربية في الوقت الحالي (الجيش المصري، الجيش العراقي، الجيش السوري، الجيش الجزائري، الجيش السوداني).
هنا كان لابد من طريقة مختلفة تستهدف النيل أولًا من هذه الثقة وإحداث شرخ كبير فيها، وتمثل المخطط الثاني في تدمير تلك الجيوش إن أمكن تحقيق ذلك.
(3)
بدأت المؤسسات الدولية التابعة لكلا من بريطانيا والولايات المتحدة التحرك لترسيخ بعض المفاهيم وترديديها بين الحين والآخر(عسكرة الدولة) واستطاعت من خلال عناصرها من المثقفين والسياسيين والفنانين ممن يدينون بالولاء لتلك الأجهزة الاستخباراتية التي تتخذ من الثقافة ستارًا لها وتحت مظلة معسكر المعارضة ترديد الكلمات السابقة لترسيخها.
طُرِح ملف “بلقنة الشرق الأوسط ” على الطاولة مجددًا حسبما ذكر “مارك ليفن”، وتم بحث خارطة الطريق للوصول إلى الهدف وكانت العراق أفضل النماذج للبدء في المشروع حيث استطاعت المخابرات الأمريكية توريطها في احتلال الكويت.
بدأت مراكز البحوث العسكرية والأمنية والمعلوماتية (الاستخباراتية) في الدول الثلاث بحث ضرورة سرعة التحرك نحو الهدف في ظل متغيرات شهدتها المنطقة العربية (ضعف الأنظمة في بعض البلدان، وحالة الضيق لدي بعض الشعوب نظرًا لتدني مستوي المعيشة، وظهور الجماعات الدينية بشكل بارز في المشهد السياسي في بلدان أخرى).
تم الإعداد للمعركة الجديدة تحت مظلة الحروب اللامتماثلة بتحرك عناصر الاستخبارات الأمريكية والبريطانية.
تم تكثيف التحرك على الساحة العراقية بدءً من عام 1999 وحتى عام 200، فرغم سقوط نظام الرئيس العراقي وتدمير أحد أقوى الجيوش العربية عام 2003، استمر التحرك لتنفيذ خطة التقسيم حتى بدء ظهور خرائط المخط في عدد من المراكز البحثية الأمريكية ونشرها في بعض المجلات التابعة للجيش الأمريكي تحت عنوان خارطة الطريق الأنجلو أمريكية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطي.
بدء السماح للخريطة بالظهور في منتصف عام 2006 تحت اسم الشرق الأوسط الجديد، ثم “حدود الدم”، وقد أعد الخريطة المقدم “رالف بيترز” وهو كولونيل متقاعد من أكاديمية الحرب الوطنية الأمريكية.
لكن تنفيذ تلك الخريطة يحتاج إلى مسارين مهمين، يتمثل أولهما في إزكاء النزعة الطائفية واشعال الفوضى، وثانيهما في التخلص من الجيوش النظامية القوية التي تحمي الدولة الوطنية.
على نفس المستوى كانت مجموعات أخرى تتحرك بدعم من قطر، فتم إنشاء ما عُرف “بأكاديمية التغيير” عام 2006 وجعلت لها مقرًا في الدوحة وآخر في لندن ومقرًا ثالثًا في فيينا، وحددت الهدف “زلزال العقول” في معركة من أصعب المعارك من أجل تنفيذ المخطط (تدمير المنطقة).
تم عقد دورات تدريبية في عدد من البلدان (صريبا، النمسا، وبريطانيا) لمجموعات التحرك في مصر (6 إبريل، الإخوان الإرهابية).
مضت تلك المجموعات في مهمتها خلال خمس سنوات مع مجموعات التحرك التي كان يدعمها المعهد الديمقراطي والمعهد الجمهوري وبعض منظمات المجتمع المدني تسعي هي الاخرى لإحداث الزلزال والوصول إلى الخارطة الجديدة.
ارتفعت تكلفة تحرك تلك المجموعات لتصل إلى 2 مليار دولار في نهاية عام 2011 ثم ترتفع إلى 3 مليار دولار عام 2017.
في الوقت الذى استطاعت تلك المجموعات الاستخباراتية الانخراط في بعض المجتمعات وإزكاء حالة الفوضى للوصول إلى مرحلة الصدام المسلح مع الأنظمة وجرجرة تلك الدول إلى حالة اللادولة مثل ليبيا وسوريا، فشل المخطط في مصر وعجزت كل خطط المؤامرة أن تدفع بالجيش المصري للاصطدام مع الشعب أو العكس، فتم التحرك على عناصر أخرى (الجماعات الإرهابية).
إلا أن أوراق الملف ما زال فيها الكثير من السيناريوهات للانقضاض على الدول الوطنية منع وحدة المنطقة العربية، كاستمرار التوتر في البلدان لاستنزاف مواردها.
تم الدفع بالعناصر الإرهابية إلى المنطقة بعد مرحلة طويلة من التربية والدعم بدأت في الثمانينيات لصناعة مجموعات الفكر التكفيري.
طبقًا لتقرير حمل عنوان “لقوات الأمريكية من أجل استراتيجية أمنية للقرن الحادي والعشرين” بشأن الحرب غير المتكافئة ومكافحة الإرهاب، فإن عناصر المخابرات الأمريكية استطاعت أن تقوم بدور كبير في غزو العراق وإسقاط نظام القذافي ودعم عناصر الجيش الحر والمعارضة المسلحة في سوريا.
في عام 2018 بدأ التحرك نحو إحداث زلزال آخر في المنطقة، مع استغلال أخطاء بعض الأنظمة في التعامل مع الأزمات، فتم الدفع بالمجموعات الخارجية ليصبح نصيب المنطقة العربية وحدها من مجموعات التحرك التابعة للاستخبارات الامريكية أكثر من 30 ألفًا من بين 250 ألفًا في منطقة الشرق الأوسط بالكامل.
تلك هي الحالة التي تعيشها كل من الجزائر والسودان حاليًا حيث تستهدف تلك المجموعات الدفع بالشعوب نحو الصدام مع المؤسسة العسكرية تحت دعوات التغيير أو أن المؤسسة العسكرية تابعة للأنظمة السابقة، فعليها أن تترك المشهد بالكامل للقوى السياسية التي نراها دائمًا في كافة المشاهد بلا قيادة موحدة تستطيع اتخاذ قرار يلتزم به الجميع، وهو النموذج الأفضل لقوي الشر للوصول إلى الهدف (تدمير الجيوش، أو الصدام معها) لتدمير الدولة الوطنية.