استعرضنا في الحلقة الماضية كيف تم التجهيز للانقضاض على الدولة الليبية بدعوى فرنسية ودعم أمريكي قطري، وكان الهدف هو النفط الليبي من ناحية .. ومن ناحية أخرى تقريب المناطق الملتهبة إلى الحدود المصرية، لتصبح مصر تعاني من تهديد على الاتجاه الاستراتيجي الغربي إلى جانب ما تواجهه على الاتجاه الاستراتيجي الشرقي خاصة بعد ثورة 25 يناير 2011.
كان هدف العملية الظاهري، والذي ترصده وسائل الإعلام وعدسات المصورين وتتناقله ألسنة المحللين والخبراء، هو متابعة الأوضاع في ليبيا في الوقت الذي كانت فيه مصر هي الهدف الرئيسي لتلك العمليات – بعد أن استطاع المجلس العسكري النجاة بالدولة المصرية من سيناريو الفوضى المرسوم لها مسبقًا.
فى يوم السبت الموافق 11 مارس 2011 دعا الوزارى العربى مجلس الأمن إلى تحمل مسئولياته إزاء تدهور الأوضاع فى ليبيا واتخاذ الإجراءات الكفيلة بفرض منطقة حظر جوى على حركة الطيران العسكرى الليبى فورًا، مؤكدًا رفض الجامعة أى تدخل «عسكرى أجنبى» فى ليبيا.
هنا التقطت الدول الداعمة للتدخل العسكرى طرف الخيط كذريعة للتدخل فى ليبيا، وكانت البداية مع صدور قرارى مجلس الأمن رقم 1970 و1973 لسنة 2011 يوم 16 مارس من نفس العام، بفرض حظر جوى على ليبيا خاصة فى المناطق التى سيطر عليها من أُطلِق عليهم الثوار، بعد أن استخدم القذافى عناصر موالية له بالإضافة إلى مجموعات من المرتزقة لمواجهة المحتجين واستخدام العنف ضدهم.
لم يكن المشهد يحمل معه تلك الصور السطحية، بل كان متخمًا بالأحداث والتحركات والتداخلات التى تُدار ملفاتها فى الخفاء، سواء بشأن استخدام الأوضاع فى ليبيا للضغط على مصر، أو للاستفادة من النفط الليبى، أو لسهولة تنفيذ مخطط التقسيم فى ليبيا فى ظل الحالة القبلية التى تهيمن عليها، كما ذكرنا آنفًا فى العدد الماضى.
(1)
عقب صدور قرار مجلس الأمن رقم 1973 وصل إلى ليبيا أكثر من 860 عنصرًا من عناصر أجهزة مخابرات دول (فرنسا، إيطاليا، إسرائيل، الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا)، بالإضافة إلى عدد من عناصر استخبارات دول أخرى إفريقية وعربية.
تحولت ليبيا إلى ساحة نشطة لتحرك العناصر الاستخباراتية حيث تم استغلال حالة الفوضى لتجنيد عدد من الليبيين لصالح أجهزة مخابرات تلك الدول، وهو ما أوضحناه فى العدد الماضى من خلال استعراض أسماء عدد من الجواسيس الذين كانوا بمثابة أعين أرضية لطائرات حلف الناتو.
لم تنتظر الولايات المتحدة وحلفائها وصول قرار مجلس الأمن ولا حتى قرار الجامعة العربية ففى 9 مارس 2011 أجرت الولايات مراقبة جوية للبحر المتوسط بواسطة طائرات المراقبة الجوية بوينغ Boing E 3 وطائرات من طراز مقاتلات رافال القاذفة بجراب الاستطلاع، انطلقت من حاملة الطائرات شارل دى غول (Charles de Gaulle R91).
فى تلك الأثناء ذكرت وزيرة الخارجية الأميركية هيلارى كلينتون خلال مؤتمر صحفى فى تونس إن إقامة منطقة حظر للطيران بليبيا قد يتبعها ضرب أهداف داخل البلاد لتقليل خطر القوات التابعة للقذافى، وأضافت أنه يجرى بحث إمكانية مشاركة دول عربية بشكل مباشر فى أى عمل عسكرى دولى ضد القذافى.
فى يوم 19 مارس 2011 بدأت عمليات التحليق الجوى بدورية مكونة من 8 طائرات رافال Rafal، حيث دامت العملية بالنسبة للمقاتلات التى خرجت من فرنسا 6 ساعات ونصف، حيث نفذت دورية فوق ليبيا مدتها ساعتين ونصف، وبعدها التحقت أمريكا بطائرات F-18 على متن الحاملة يو أس أس (l’USS Entreprise).
فى يوم 24 مارس 2011 رصدت طائرة أواكس رادار للتحالف طائرات خرقت الحظر الجوى بجهة مصراتة على بعد 200 كلم شرق طرابلس، فقامت دورية من طائرات ميراج 2000 ورافال بتدمير طائرة مقاتلة غالب سوكو Soko G2 Galeb، تابعة للقوات الجوية الليبية كانت تحط فى مطار مصراتة وفى عين المكان يوم 26 مارس دمر ما لا يقل عن 5 طائرات من نوع غالب 2 وMi35.
شارك فى العملية بحسب تقرير قدمه قائدها «تشارلز بوشارد» بعد انتهاء العمليات فى أكتوبر 2011، إلى سكرتير عام الحلف فى ذلك الوقت «أندرس فوغ راسموسن» 12,909 من القوات البرية، وكان للولايات المتحدة نصيب الأسد من هذا العدد حيث شاركت بـ 8,507 ، تلتها بريطانيا بـ 1,300، ثم فرنسا بـ 800، وكندا 560، وإسبانيا بـ 500، ورومانيا 205، وهولندا 200، وبلغاريا 160، وبلجيكا 170، النرويج 140، والدول العربية 125، السويد 122، والدنمارك 120.
ساهم فى العملية أيضًا أكثر من 260 طائرة (طائرات مقاتلة، طائرات المراقبة والاستطلاع، طائرات بدون طيار ومروحيات هجومية، طائرات التزود بالوقود)، ومن القوات البحرية: 21 قطعة بحرية (سفن إمدادات، فرقاطات ومدمرات وغواصات وسفن هجومية برمائية وحاملات الطائرات).
تم تنفيذ أكثر من 26,500 طلعة جوية، منها 9,700 طلعة قصف جوى، دمرت أكثر من 5,900 هدف بما فيها الأهداف العسكرية والمدنية، وأكثر من 400 مدفعية وقاذفات صواريخ، وأكثر من 600 دبابة أو عربة ومدرعة.
تم استغلال تلك الفترة حيث أطلقت قوات حلف الناتو العنان لمن أسمتهم بالثوار فأوصلت إليهم كميات ضخمة من الأسلحة الأوربية والأمريكية جوًا وبحرًا.
أطلقت قوات الحلف خلال العشرة أيام الأولى من العملية عشرة 110 صاروخ توماهوك استهدفت الدفاعات الجوية ومراكز قيادة ومعسكرات فى المدن الليبية.
(2)
فى الوقت ذاته كانت ليبيا بمثابة وكر لأنشطة العناصر الإرهابية سواء من إفريقيا أو من مناطق أخرى شمال المتوسط، حيث اُطلق العنان لتلك المجموعات لإقامة معسكرات تدريب فى «درنة» و«سبها» و«مصراته» و«بنغازى» بالإضافة إلى عدد من المناطق الجنوبية، مستغلة طبيعة البلاد الجغرافية، وحرصت تلك العناصر على أن تكون على مقربة من الحدود المصرية لتتمكن من تنفيذ مهامها بسرعة والعودة مرة أخرى حال صدور الأوامر لها.
كان الهدف الضغط على مصر وتحويل حدودها الغربية إلى منطقة حدودية ملتهبة مثل الحدود الشرقية، تم دعم تلك العناصر بأسلحة متنوعة لكى تتمكن من تنفيذ العمليات الإرهابية عند الطلب؛ بالإضافة إلى المجموعات المنتمية لجماعة الإخوان الإرهابية والمجموعات الإسلامية فى الغرب.
بلغ عدد العناصر الإرهابية فى الغرب 25,000 عنصر، أما فى الشرق والجنوب فبلغ عدد العناصر 15,000 عنصر؛ ترأس الإرهابى ـ عبد الحكيم بالحاج (أحد اعضاء تنظيم القاعدة فى أفغانستان وانتقل إلى ليبيا عبر الدوحة) المجلس العسكرى فى طرابلس وسيطر على مطار معيتيقة، الذى كان بمثابة بوابة الدخول الشرعية للأسلحة والإرهابيين من الخارج، وخلال 5 أشهر وصلت 40 شحنة أسلحة على متن طائرات تركية وقطرية.
تحولت ليبيا إلى أكبر معسكر لتدريب وإطلاق العناصر الإرهابية خاصة بعد مقتل القذافى فى 20 أكتوبر 2011.
(3)
اعترف «آلان جوبيه» وزير الخارجية الفرنسى فى الفترة من فبراير 2011 وحتى مايو 2012 أن بلاده قدمت أسلحة للثوار وأبلغت حلف الناتو ومجلس الأمن بتسليمها هذه الأسلحة (صواريخ موجهة مضادة للدبابات، وقاذفات، وأسلحة خفيفة)؛ وعلى إثر الانتقادات الروسية، قال جوبيه بأن فرنسا لم تخرج عن إطار قرار مجلس للأمن، لأن بعض السكان تعرضوا لهجمات من جانب قوات القذافى وكانوا فى وضع حرج، ولهذا السبب ألقينا إليهم الأدوية والغذاء والأسلحة للدفاع الذاتى.
كما أكد المسَّمون بالثوار حصولهم على الأسلحة من دولة قطر، حيث كانت ترسلها طائرات عسكرية من طراز سى 17 محملة بالسلاح إلى بنغازى يوميًا تقريبًا كما كانت تصل لجبل نفوسة عبر تونس من بنغازى.
بلغ حجم الإنفاق على العمليات العسكرية فى ليبيا مليار و300 مليون يورو، ساهمت الولايات المتحدة بحوالى 700 مليون يورو، أما فرنسا وبريطانيا فأنفقت كل منها 300 مليون يورو.
فى تلك الأثناء كانت الوضع فى مصر يزداد سخونة، خاصة بعد الاستفتاء الدستورى فى 19 مارس 2011.
فى 8 إبريل من نفس العام عاد التوتر إلى الشارع المصري، مما منح العناصر الإرهابية فى مصر فرصة إدخال الأسلحة بالتزامن مع ما أسموه «جمعة التطهير»، وكان الهدف من تلك الحالة المختَّلقة فى الشارع المصرى هو إرهاق المجلس العسكرى والاقتصاد المصرى ليظهر أمام العالم عاجزًا عن إدارة شئون البلاد.
وضع المتظاهرون قائمة من المطالب ضمت ثمانية بنود أهمها: محاكمة مبارك وحل المحليات وإقالة رؤساء الجامعات وتطهير الإعلام.
تلاحقت الأحداث فى مصر خلال شهرى إبريل ومايو خاصة بعد إحالة مبارك ونجليه للمحاكمة إلى جانب عدد من رموز النظام إلا أن صاحب مخطط الفوضى لم تكن تلك هى غايته، بل كانت مجرد مطالب تتدرج وصولًا إلى غاية أخرى محددة.
كانت الأوضاع فى ليبيا تقترب من التقسيم خاصة بعد سيطرة الإخوان وأذنابهم على غرب ليبيا، وقد لعبت حركة النهضة فى تونس دورًا بارزًا فى ذلك، كما استطاعت العناصر الإرهابية من تنظيم القاعدة السيطرة على الشرق وعدد من المناطق النفطية الهامة فى شمال شرق ليبيا.
اعترفت بريطانيا فى 2017 أنها وقعت فى خدعة كبيرة أسقطتها فى المعارضة الليبية عندما أنفقت 300 مليون يورو على الحرب فى ليبيا؛ وذلك وفق تقرير فريق التحقيق البرلمانى الذى عُرض على لجنة الشئون الخارجية فى مجلس العموم البريطانى عام 2017.
(4)
زاد الضغط على المجلس العسكرى فى مصر وبدأت تظهر أوراق المؤامرة لإسقاطه عندما رفع أول لافتة فى 8 مايو 2011 (الشعب يريد إسقاط المشير)، هنا اتضحت الصورة جلية أن الهدف هو إسقاط المجلس العسكرى والجيش .. الذى حافظ على الدولة.
تم اللعب على ورقة وضع الأقباط فى مصر لإحداث حالة من الانقسام فى الشارع، وساهم فى ذلك عدد من شيوخ السلفية بعد زيارة لهم إلى واشنطن.
فى الوقت ذاته كانت قوافل الأسلحة تعبر الصحراء من السودان إلى ليبيا لتستقر على الحدود الغربية المصرية فى الجانب الليبى فى انتظار قرار التحرك إما للوصول إلى أيدى التنظيمات الإرهابية فى الصعيد أو بعض المناطق فى جبال البحر الأحمر أو تعبر الى سيناء لتدخل مرحلة التخزين.