صالون الرأي
مديرة المكتب تخون ثقة هيكل وعبد الناصر
By amrنوفمبر 24, 2019, 17:46 م
4309
الذين اقتربوا بأى صورة من الصور من نوال المحلاوى مديرة مكتب محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام (1957 – 1974)، خاصة من العاملين بمؤسسة الأهرام، يعترفون لها بقوة الشخصية والذكاء والقدرة على الحسم.
وخلال فترة قصيرة من عملها كسكرتيرة، أثبتت أن إمكانياتها أكبر من أن تكون مجرد سكرتيرة مسئولة عن الأوراق والمواعيد والاتصالات والاجتماعات، وتحولت بكفاءتها وميزاتها إلى مديرة مكتب، وأصبحت الشخصية المسيطرة والمهيمنة على كل كبيرة وصغيرة.
ولأن رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة انتهج سياسة إسناد المسئوليات بالمؤسسة إلى شخصيات مؤهلة وبارزة فى مجالاتها وتجنب تركيز كل السلطات بيده، ليتفرغ لمسئولياته المتعددة، وفى مقدمتها علاقته بالرئيس، لذا أفسح المجال أمام نوال لتتمدد وتسيطر تحت مظلته حتى أصبح كل شىء تقريبًا يمر من خلالها.
واستطاعت هذه الأنثى خريجة الجامعة الأمريكية قسم صحافة عام 1957، والأقرب إلى أن تكون قصيرة القامة المقبولة شكلًا وإن لم تكن جميلة، والممتلئة نسبيًا السمراء اللون المتحفظة فى ملابسها ومكياجها أن تكسب ثقة هيكل، وظلت مساحة هذه الثقة تزداد نتيجة نجاحها المتواصل فى إدارة مكتبه بجانب الإمساك بمعظم خيوط العمل فى صالة التحرير، ربما تطلب منها العمل لما يتراوح بين 12 و14 ساعة يوميًا، فقد كانت تدخل مكتبها فى الساعة الثامنة صباحًا، وتبدأ فى قراءة الأخبار والتقارير التى وردت على أجهزة تيكرز وكالات الأنباء وتلخيصها، وعندما تصلها تقارير اجتماعات الأقسام الإخبارية والتحريرية التى تبدأ فى الساعة التاسعة صباحًا، تقرؤها بعناية، ثم تختار الأخبار والقضايا والموضوعات الرئيسية وتصوغها فى تقرير مختصر وواف، وكانت هذه التقارير والملخصات أول ما يقرؤه هيكل بعد وصوله.
وكان الرئيس عبد الناصر قد أمر بإرسال صورة من كل وثائق مصر الصادرة والواردة إلى رئيس تحرير الأهرام، اقتناعًا منه بأنه الأمين على تاريخ هذه المرحلة، وأنه سيتحمل مسئولية كتابة هذا التاريخ، خاصة بعد رحيله.
ولم يكن ليغيب عن عبد الناصر أن كل القوى التى اصطدم بها خارجيًا وداخليًا ستبذل غاية الجهد لتشويه تاريخه، والتركيز على كل أوجه القصور والفشل والأثمان التى دفعتها مصر والشعب المصرى كنتيجة للهزائم العسكرية والسياسية، لذا وقع اختياره على هيكل لمواجهة مثل هذه الحملات.
هذه الوثائق كانت نوال المحلاوى تقوم بتبويبها وتنظيمها والاحتفاظ بها، وبذلك عرفت الكثير جدًا من أسرار مصر بفضل ثقة رئيس التحرير بها.
وامتدت مظلة الثقة إلى الدرجة التى سمح لها بالرد على مكالمات عبد الناصر التى كان يجريها عبر تليفونه الخاص، كان هيكل يحتفظ به فى درج من أدراج مكتبه، ولم يكن ليقدم على ذلك إلا بعد استئذان الرئيس.
وعامًا بعد عام أصبحت نجمًا ساطعًا فى بلاط الأهرام، كما توثقت علاقاتها بعدد كبير من الصحفيين الأجانب التى ربطت الصداقة بينهم وبين هيكل، وآخرون كانوا يسعون للاقتراب منه لمعرفة أحوال وأخبار وأسرار مصر.
وكانت دائمًا الباب للعبور إلى هيكل، وكثيرًا ما سعى نجوم السياسة والكلمة والفن لنيل رضاها.
وكان منطقيًا، وهيكل يلف من باب الأهرام بشارع مظلوم ليصل إلى مكتبه ليمارس دوره كرئيس للتحرير فى أغسطس عام 1957، أن يفكر فى تطوير الجريدة التى هبط توزيعها إلى حوالى 65 ألف نسخة يوميًا، والانتقال بها إلى آفاق تلامس المستقبل.
وتحرك الرجل على أكثر من محور لتحويل أحلامه إلى واقع، فريق عمل من الشباب، مشروع لمبنى جديد وعصرى وآلات وماكينات ومعدات وأجهزة حديثة مع الاستفادة من تجارب الآخرين، اختيار مسئولين أكفاء من الإداريين والمهندسين والمحاسبين، البحث عن تمويل وخطط التدريب داخليًا وخارجيًا.
وتحريريًا اختار هيكل ترك الفريق الصحفى القديم فى مواقعه، وبدأ الاعتماد على أجيال أصغر سنًا، واستقبل الأهرام أوائل أول دفعة من قسم صحافة بكلية آداب القاهرة.
وسأتوقف أمام صفحتين من صفحات نوال المحلاوى فى الأهرام، الأولى: سرعان ما تبين القادمون الجدد نفوذ وقوة وسطوة هذه الأنثى التى تقاربهم سنًا، ورأت مجموعة يميل معظم أفرادها باتجاه اليسار سواء الشيوعى أو الناصرى الاستفادة من هذا الوضع لتحقيق طموحاتهم وما يتطلعون إليه.
وبعد تبادل الرأى، رأوا أن دغدغة مشاعرها العاطفية يمكن أن تكون طريقًا مناسبًا، فاستمرار وجودها بالجريدة يوميًا قد يمتد لحوالى 14 ساعة وهذا يعنى تراجع أولوية هذه المشاعر أمام الأولوية التى استحوذ عليها نجاحها فى عملها، فاختار واحدًا منهم يتميز بالرشاقة والوسامة وطول القامة والأناقة بجانب الكفاءة فى العمل، وبدأ بعضهم يهمس لها بأن هذا الزميل يحمل لها مشاعرًا خاصة وأنه يدفع الثمن أرقًا ومعاناة، وذلك لعجزه وخشيته من التعبير عن هذه المشاعر، وتكررت الهمسات من أكثر من واحد من هذه المجموعة، وفى خطوة تالية وجهوا لها الدعوة لقضاء سهرة بحى سيدنا الحسين وقضاء بعض الوقت بمقهى الفيشاوى، واستجابت للدعوة وأتيحت الفرصة لهذا الزميل للاقتراب منها، ورويدًا رويدًا توثقت علاقته بها، وفى نفس الوقت علاقات المجموعة بها.
وتلقائيًا بدأت تتحدث بإيجابية عن هذه المجموعة مع رئيس التحرير، والأهم أن هذه المجموعة بدأت تنخرط فى العمل كفريق خاص تابع لنوال، وبالتالى لرئيس التحرير الذى بدأ يعتمد عليهم، ويدفع بهم إلى الأمام.
وحانت لحظة التخلص من «روميو»، وبدأوا فى الدس لها إلى أن تم إبعاده إلى مؤسسة صحفية أخرى.
لقد كانت المجموعة تخشى من توثق علاقته أكثر مع نوال، وتخشى أكثر من اكتشافها لحقيقة الأمر، سواء منه أو من غيره.
الثانية: بعد سنوات من الاستغراق فى العمل، التقت نوال بعطية البندارى الضابط السابق بالقوات المسلحة الذى أتيحت له فرصة العمل بمكتب المشير عامر بالرغم من انتمائه لليسار الشيوعى خلال لقاء لتناول العشاء بمنزل زميلة يسارية بالأهرام، ولا يمكن الجزم ما إذا كان هناك تدبير وراء هذا اللقاء، أم أن الأمر صدفة.. المهم تحول اللقاء إلى لقاءات، ثم إلى زواج.
وبما أن نوال صديقة للطفى الخولى الشيوعى ورئيس تحرير مجلة الطليعة التى تعبر عن آراء وأفكار الجماعات الشيوعية، وزوجته ليليان قرقش يهودية الديانة، وابنة موريس قرقش المحامى الذى عمل لطفى بمكتبه بعد تخرجه من كلية الحقوق عام 1949.
وكان لطفى الخولى من القريبين من هيكل، ويعد عضوًا رئيسيًا فى الجبهة الوطنية التى حرص رئيس تحرير الأهرام على إنشائها، لتكون كتجربة رائدة فى الصحافة المصرية، حيث تتاح لكل القوى السياسية التعبير عن نفسها على صفحات الأهرام الجريدة وباقى المطبوعات الصحفية التى تصدر عن المؤسسة.
وكان يمثل اليسار الشيوعى الماركسى اللينينى والتروتسكى مصطفى الخولى وميشيل كامل ولويس عوض ورمسيس يونان ومحمد سيد أحمد، ويمثل اليمين د. بطرس غالى رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية، ود. لطفى عبد العظيم رئيس تحرير مجلة الأهرام الاقتصادى، ود. فؤاد إبراهيم الكاتب بالمجلة وعضو مجلس الإدارة المنتدب، ويمثل التيار السياسى الإسلامى صلاح جلال.
وكان لطفى الخولى من بين المسئولين عن توفير نوع السيجار الكوبى الذى يفضله هيكل، وقد كنت شاهدًا عليه وهو يتصل تليفونيًا من مكتب رئيس التحرير بالسفير السوفييتى بالقاهرة للمساعدة فى الحصول على كمية من هذا السيجار على أول رحلة جوية قادمة من موسكو.. وكان منطقيًا أن تلتقى الأسرتان دوريًا نوال والبندارى، وليليان ولطفى.
وكثيرًا ما دار الحوار بين الجميع حول الجريدة والأوضاع بمصر بصورة لا تغضب أحدًا حتى وإن مالوا إلى الحدة فى انتقاداتهم.
ولكن شكل الحوار تغير بصورة جذرية بعد أن تقدم وليام روجرز وزير الخارجية الأمريكى بمبادرة لوقف إطلاق النار على جبهة قناة السويس، وذلك خلال عام 1970.
ولأن عبد الناصر كان قد ضاق ذرعًا بمماطلات السوفييت وتأخرهم عمدًا فى الوفاء بالتزاماتهم خاصة صفقات السلاح التى كانت حيوية جدًا لدعم قدرات القوات المسلحة التى خسرت النسبة الأكبر من سلاحها الجوى وباقى ترساناتها العسكرية خلال نكبة يونيو 1967، بجانب الضغوط العاتية والمستمرة للحصول على قواعد برية وجوية وبحرية، ولإحساسه أن السوفييت يتلاعبون به ولا يعنيهم إحراز أى تقدم فيما يتعلق بتحرير أراضى مصر المحتلة فى سيناء، قرر قبول المبادرة الأمريكية، ولأنه لا يعرف ما يمكن أن يسفر عنه هذه الخطوة، رأى إخفاء الأمر عن السوفييت.
وطلب الرئيس من هيكل كتابة رسالة إلى وزير الخارجية الأمريكى ليخطره بقبول مصر للمبادرة، وكتابة رسالة أخرى لإبلاغ السوفييت أن مصر قد رفضت المبادرة.
وكتب هيكل الرسالتين، وتم إرسالهما من خلال القنوات الرسمية.
وتبينت نوال المحلاوى بعد أن قرأت الرسالتين أن مصر بدأت فى الانتقال من المربع السوفييتى إلى المربع الأمريكى، وإن هذه الخطوة الجذرية المصرية سيتبعها خطوات داخلية مهمة قد تطيح بكل رجال السوفييت وغيرهم من أهل اليسار من مواقعهم، وإحلال آخرين محلهم.
وتحول الأمر إلى حوار شديد السخونة بين الأسرتين، وسيطر الغضب على الجميع فتحولوا إلى الهجوم على عبد الناصر وتوجيه أقسى الاتهامات ووصف هذه الخطوة بالغدر بالصديق السوفييتى الذى قدم لمصر الكثير جدًا وساندها فى كل قضاياها وفى خططها التنموية.
وتطور النقاش إلى وضع خطة عمل تتضمن ضرورة إبلاغ السوفييت بحقيقة الأمر، ووضع الرسالة الموجهة لوزير الخارجية الأمريكى أمام القيادة السوفييتية، وتطوع سفير عربى مشهور لحمل الرسالة إلى السفير السوفييتى فى باريس، ومنه ستنتقل فورًا إلى موسكو.
وخلال لقاء قمة بين عبد الناصر والقادة السوفييت فى موسكو فى مايو 1970 بحضور محمد حسنين هيكل وزير الإعلام وقتذاك بجانب عمله كرئيس لتحرير الأهرام، تحدث الرئيس المصرى عن مبادرة روجرز وعن رفضه لها، وعندما جاء الدور على القادة السوفييت للحديث، اختاروا أن يضعوا أمامه صورة الرسالة التى أرسلها لوزير الخارجية الأمريكى، وكانت المفاجأة بالغة القسوة عليه وعلى هيكل وباقى أعضاء الوفد المصرى الذى لم يكن يعلم شيئًا عن الأمر.
وقد استنتج كل من عبد الناصر وهيكل حقيقة ما جرى من خيانة نوال للثقة والأمانة وعلى الفور أمر عبد الناصر السلطات المصرية المسئولة باتخاذ اللازم.
وفى نفس الوقت اضطر لإبلاغ السوفييت بقبول مصر للمبادرة على مائدة المفاوضات، ويوم 12 مايو 1970 تم إلقاء القبض على كل من نوال المحلاوى وزوجها عطية البندارى بشقتهما، وعلى لطفى الخولى أمام مبنى الأهرام، وعلى ليليان قرقش بمنزلها.
وأثناء التحقيق معهم تبين أن هناك تسجيلات صوتية لهم جميعًا وهم يسبون الرئيس المصرى ومصر وسياساتها الخارجية والداخلية، بالإضافة إلى اتفاقهم على إرسال الوثائق بالغة السرية إلى السوفييت.
وتقرر سجن الجميع على ذمة قضية التخابر مع دولة أجنبية.
وكانت فجيعة هيكل فى نوال أكبر من أن توصف، وكان عليه أن يعالج الأمر أولًا مع عبد الناصر وخيبة أمله فى مديرة مكتبه، وندمه على ثقته بها على امتداد سنوات.
وبعد عودته أسند مسئولية مكتبه للزميل محمود عطالله الصحفى بالقسم الخارجى وخريج الجامعة الأمريكية.
بعدها وقع اختياره على فوزية الجندى الموظفة بهيئة الاستعلامات لتتولى المسئولية بمكتبه.
وبعد عدة شهور يتولى السادات سلطانه كرئيس للجمهورية بعد رحيل عبد الناصر، فيتقرر حفظ القضية وتعود نوال إلى الأهرام لتتولى مسئولية مركز الترجمة والنشر الذى أنشأته، ولكنها لم تعد أبدًا إلى مكتب هيكل.