إلى قنا كانت وجهتنا.. مع فناني الحرف التراثية كانت حواراتنا.. ما بين قلل وأزيار مصنوعة من الفخار، وأقفاص وكراسي مصنوعة من الجريد، وشيلان وأقمشة حريرية من الفركة كانت مشاهداتنا لحرف لايزال فنانوها يحاربون من أجل بقائها على قيد الحياة، وحتى لا تصبح مجرد ذكرى لصناعة كنا يومًا نتباهى بتميزنا فيها.
فى هذا الملف محاولة للاقتراب أكثر من أسرار هذه الحرف بعيون مبدعيها الذين تحدثوا عن أحلامهم للصناعة، وأبرز المشاكل التى يعانون منها، ورؤيتهم للحفاظ عليها.
كتبت : روضه فؤاد
تصوير: خالد بسيونى
هو أكثر من مجرد طين يُعجن، ويُحرق، ويُشكل به منتجات متنوعة.. هو أكثر من حرفة بدأت منذ آلاف السنين، ولا تزال تصارع وتقاوم خطرالاندثارأو مجرد مهنة يعمل بها صانعوها من أجل لقمة العيش.. إنه فن وحالة عشق خاص بين الفنان وقطعة الطين التى يُشكل منها تحفه الفنية، مستخدمًا أنامله وإحساسه بالقطعة التى يطوعها، لتكون فى النهاية القُلة أو الزير أو الأوانى الفخارية، وغيرها من المنتجات الفخارية الفريدة التى تُظهر عشق صانعيها لحرفة ارتبطت بوجود الإنسان.
عن صناعة “الفخار” كان حوارنا مع أبرز صانعيها الذين تحدثوا بحب وشغف عن حرفة باتت جزءًا أساسيًا من حياتهم.
عم حربى
فى قرية “الشيخ على” التابعة لمركز نقادة قررنا أن نقضى يومًا كاملًا وسط هؤلاء الفنانين، وهى قرية مثلها مثل مئات القرى المصرية، حيث الحياة البسيطة والإمكانيات المتواضعة، ومع ذلك فالعمل والاجتهاد سمة أهل هذه القرية الذين تميزوا فى العديد من الحرف التراثية، وما بين الدولاب الخشبى، وبركة الطين، والفرن البدائى شاهدنا كيف تتحول قطعة الطين إلى تحفة فنية.
“لازم تقابلوا عم حربى وأخواته” منذ وصولنا القرية كان الجميع ينصحنا بمقابلتهم، ليس فقط بسبب مهارتهم وتميزهم فى هذا المجال، ولكن بسبب تجربتهم الخاصة جدًا، حيث فقد الأخوة الثلاثة “كمال، حربى، سعيد” بصرهم، ورغم ذلك، فهم من أمهر صانعى الفخار، لا يمكن أن تجد خطأ ولو صغيرًا فى أى قطعة تخرج من تحت أيديهم.
بالفعل، نجحنا فى الوصول لعم حربى–كما يناديه الجميع هنا-فى مكان عمله، أو مملكته الخاصة التى ينتج فيها أفضل منتجات الفخار، وبوجهه البشوش وضحكته الصافية، استقبلنا وتحدث معنا مطولًا عن الفخار، وعشقه له منذ الطفولة، ولكنه بدأ حديثه بتعريفنا بالمكان، والمعدات التى يستخدمها فى عمله.
“هذا المكان الذى نجلس فيه يمثل حياتى التى اخترتها منذ سنوات عمرى الأولى، فهو المكان الذى تعلمت فيه هذه الحرفة على يد والدى، الذى كنت أراه منذ صغرى جالسًا على الدولاب الخشبى، يُشكل قطعة الطين بيديه بمهارة شديدة، وينتج منها أشكالًا متنوعة، والآن، هو مكان عملى مع أخوتى، نأتى إلى هنا يوميًا، وبمجرد أن تبدأ الشمس فى نسج خيوطها نبدأ عملنا الذى لا ننتهى منه قبل المغرب”.
جالسًا على دولابه الخشبى، يستكمل عم حربى حديثه “هذا الدولاب يعتبر من أهم المعدات التى نستخدمها فى عملنا، فهو الآلة التى استخدمها فى تشكيل الفخار”.
الدولاب الخشبى
على الدولاب الخشبى، يعمل عم حربى باجتهاد شديد، يُحرك كل عضلات جسمه، يستخدم يديه فى تشكيل أجمل الأشكال الفخارية، وقدميه التى يحركها على الدائرة الخشبية، ولكن الأهم إحساسه بالقطعة التى يُشكلها، نعم هولا يرى ببصره، ولكن بصيرته تمثل البوصلة التى يمكنه أن يرى من خلالها القطعة التى يعمل عليها، يستطيع أن يكتشف وجود أى خطأ بسهولة، ويعمل على تداركه بسرعة.
يتابع عم حربى حديثه، شارحًا لنا طبيعة المكان، والمراحل التى يمر بها صناعة الفخار “أهم شىء فى مهنتنا هى الخامة التى نعمل بها، وهى عبارة عن حصى يتم جمعها من “الترع”، ولكن يجب أن تكون هذه الترع نظيفة وبعيدة عن المنازل، ثم توضع فى حوض كبير مغمور بالمياه–مشيرًا بيديه إلى حوض كبير بجانبه- بعد ذلك يتم خلطها مع الرماد أوالتراب، -وتتمثل أهمية الرماد أنه لا يجعل الطين يتعرض للشرخ-، ثم تنقيتها من الحجارة والشوائب، وتركها تحت أشعة الشمس لمدة يوم كامل حتى تجف، بعدها تصبح جاهزة، ونبدأ فى تشكيلها لأى منتج على حسب الطلب”.
لا يتوقف العمل عند هذه المرحلة، يستكمل عم حربى حديثه، بينما يعمل بتركيز شديد فى عمله “بعد الانتهاء من تشكيل الشكل الذى نريده، وليكن “زير” على سبيل المثال، نضعه فى مكان تحت أشعة الشمس حتى يجف، بعد ذلك يتم وضعه داخل فرن لمدة تتراوح من ساعتين إلى ثلاث ساعات، لتصبح بعد ذلك جاهزة للاستخدام”.
مهنة صعبة
بعد أن شاهدنا مراحل صناعة الفخار التى تتميز بالنظام والدقة الشديدة فى كل مرحلة، كان لابد من سؤال عم حربى عن مدى صعوبة هذه الحرفة، وهل يمكن لأى شخص تعلمها بسهولة، ليجيب سريعًا “نعم هى حرفة صعبة، لذلك من الأفضل أن يبدأ الشخص فى تعلمها فى سن صغيرة حتى يعتاد على نظام وطريقة العمل، ويتقن أسرارها، وهذا ما حدث معى ومع أخوتى”.
مع صعوبة هذه الحرفة، كان سؤالى التالى “هل هى مربحة”، ليجيب” للأسف لا، فالمكسب الذى نحققه يكفى بالكاد حاجاتنا ومتطلباتناالأساسية، ورغم ذلك فأنا مستمر فى العمل فيها، سواء حققت مكسبًا أم لا، لأنها لم تعد مجرد عمل أتكسب منه، بل جزءًا أساسيًا من حياتى لا أستطيع الاستغناء عنه”.
أثناء حديثى مع عم حربى لفت انتباهنا وجود أشكال فخارية متنوعة، مما دفعنى لسؤاله حول إمكانية تخصص صانع الفخار فى منتجات أو أشكال معينة، ليجيب سريعًا “الصانع الجيد يستطيع تشكيل أى منتج من الطين، وهذا ما نفعله، حيث تتنوع المنتجات الفخارية التى نصنعها، ما بين قلل، أزيار، الأباجورات، المزهريات التى يتم وضع الورود الطبيعية والصناعية بداخلها، وغيرها”، مضيفًا:”ما يريده الزبون ويحتاجه نقوم بعمله على الفور”.
لا يعمل عم حربى أو أخوته بمفردهم، فمن خلال وجودنا وحديثنا معه، لاحظنا وجود العديد من العمال والحرفيين ينتمون لمختلف الأجيال، يعملون باجتهاد شديد، ويتوزعون هنا وهناك، فمنهم من يحمل المنتجات الفخارية بعد أن ينتهى عم حربى من تشكيلها، منهم من يخلط العجين من الطين، وغيرها من المهام، مما دفعنى لسؤاله حول مدى إقبال الشباب على تعلم صناعة الفخار، ليجيبنى بأسى وحزن واضح “للأسف الشديد هناك تناقص واضح، وأصبحت الحرفة تتلاشى شيئًا فشيئًا، فمعظم شباب هذه القرية بدأوا فى هجرها واتجهوا إلى أعمال أخرى، أو السفر للخارج، خاصة أن المكسب قليل، ولا يتناسب مع المجهود الذى يُبذل”، ويضيف قائلًا: “هذه أكبر أزمة تواجهنا، بالإضافة إلى أزمات أخرى تهدد الحرفة بالاندثار إذا لم يتم معالجة الأمر سريعًا”.
قرية الحرفيين
تتمثل الأزمة الثانية بحسب العديد من العمال فى عدم توافر مواد الطاقة من غاز ومياه بشكل مناسب، مما يضطرهم لاستخدام المخلفات الزراعية وحرقها كالوقود داخل الأفران، مما يؤدى لتلوث البيئة، كما يتسبب فى أذى لأهل القرية، وإصابة كثير منهم بالأمراض، ويقول أحد العمال “نضطر أن نفعل ذلك رغمًا عنا من أجل استكمال عملنا”، ويضيف أحد أهالى القرية “أعيش بجوار أحد صانعى الفخار والذى يعمل داخل منزله، لعدم وجود مكان يمكن أن يعمل فيه، ويلجأ دائمًا إلى حرق المخلفات الزراعية، وعلى الرغم من تضررى الشديد من روائح الحريق المنتشرة، والدخان، إلا أننى فى نفس الوقت أشعر بتعاطف شديد معهم لعدم وجود حل أخر”.
حل تلك المشكلة والعديد من المشكلات الأخرى التى تواجه صانعي الفخار فى قنا –بحسب العديد من العاملين- يتمثل فى نقلهم لقرية الحرفيين، ويتحدث “محمود فندادى” أحد تجار الفخار بشكل مفصل عنها فيقول “قرية الحرفيين هى أرض خصصتها الدولة لأصحاب الحرف التراثية فى قنا، وهى موجودة فى الجبل وبعيدة عن الأماكن السكنية، وقد سعدنا جميعًا عندما صدر قرار من الدولة بها الأمر، ولكن الأزمة تتمثل فى عدم اتخاذ أى إجراءات فعلية حتى الآن لنقلنا والبدء فى العمل، حتى الآن لا تزال الأرض خالية، لم يتم تسليمها لأصحاب الحرف أو تجهيزها على الرغم من مرور سنوات، وللأسف سمعنا وعودًا كثيرة من كثير من المسئولين، ولكن يبقى الوضع على ما هو عليه، لذا نطالب باتخاذ إجراءات فعلية لنقلنا إلى هناك”، مضيفًا:”إذا حدث ذلك، سننجح فى الحفاظ على الحرفة وغيرها من الحرف التراثية، كما أن المسئولين وعدونا أن الأفران هناك ستعمل بالغاز، مما سيحل أزمة تلوث البيئة التى نعانى منها منذ سنوات”.
حديثنا مع عم حربى امتد لوقت طويل، ولم يقتصر فقط على أسرار صناعة الفخار، حيث تحدث أيضًا عن تجربته مع فقدان البصر، ومدى تأثير ذلك على عمله، يقول: “ولدت ونشأت سليم البصر، وكذلك أخوتى، فلم نكن نعانى من أى مشكلات، ولكنى أصبت بمياه بيضاء وانفصال فى الشبكية فقدت على أثرها البصر، وحدث نفس الأمر مع أخوتى، ولكن فقدان البصر لم يمنعنا من العمل”، ويستكمل حديثه قائلًا:”صناعة الفخار مهنة إحساس من الطراز الأول، فنحن نشعر بالقطعة التى نُشكلها قبل أن نراها، ولذلك نرى بقلبنا عند وجود أى خطأ، ونتداركه بسرعة”.
الأوانى الفخارية
حوارنا مع عم حربى انتهى، ولكن جولتنا استمرت، وعلى جانبى الطريق الذى نسير فيه، انتشر الباعة الذين يعرضون منتجاتهم المتنوعة من الفخار، وكما قال أحد الباعة “البلد كلها بتشتغل فى الفخار”، فى طريقنا سألنا عن أشهر صانعى الفخار، فدلنا الجميع على “كمال أبو اليزيد” فذهبنا إليه، منزله هو مكان عمله، عبارة عن خلية نحل، الكل يعمل بنشاط واضح، حيث تساعد الأسرة بجميع أفرادها فى العمل.
يعمل “عم كمال” بشكل أساسى فى صناعة الأوانى الفخارية، ولكنه يستطيع تشكيل أى منتج من الفخار، فى حديثه لـ”أكتوبر” يشرح مراحل صناعة الأوانى الفخارية “فى البداية نقوم بجلب الطمى، ونضعه فى هذا الحوض، مشيرًا بيديه إلى الحوض الموجود فى ساحة المنزل، ثم نصفيه من الشوائب، ونضيف له مادة الهمر أو الطمى الأسود التى تحتفظ بالحرارة، وبعدها نضعه فى الدولاب، ونبدأ تشكيل الأوانى، ثم تبدأ مرحلة تركيب القوابض للأوانى، قبل أن نتركها لتجف، فى المرحلة التالية تحدث عملية الصنفرة والتلميع، ثم توضع فى الفرن لمدة 3 أو 4 ساعات، ليخرج المنتج النهائى بالشكل واللون المميز”.
يتحدث “عم كمال” عن مميزات الأوانى الفخارية “تظل الأوانى الفخارية الأفضل دائمًا، فتناول الطعام المطهى فيها له مذاق خاص، كما أن لها فوائد صحية عديدة، خاصة أنها مصنوعة من مواد الطبيعة، وتحافظ على نكهة الطعام، وتحتفظ بدرجة حرارتها لمدة أطول”.
مزايا خاصة
للمرأة دور كبير فى العمل، حيث لاحظنا وجود عدد من سيدات الأسرة يعملن بكل اجتهاد وهمة، يقول “عم كمال” للمرأة دور كبير لا يمكن الاستغناء عنه، حيث يقمن بتركيب المقابض الخاصة بالأوانى الفخارية، وأيضا المساعدة فى إشعال النيران فى الأفران، بالإضافة للعديد من المهام الأخرى”.
عدم وجود مكان مخصص صالح للعمل تعد المشكلة الرئيسية التى تؤرق “عم كمال” “كما ترون، فأنا أعمل فى المنزل لعدم توفر مكان، والمنزل صغير
ولا يصلح كمكان للعمل، مما يجعلنى فى كثير من الأحيان غير قادر على الوفاء بكثير من الطلبيات”.
الحديث تطرق إلى أزمة قرية الحرفيين التى خصصتها الدولة فى الظهير الصحراوى منذ 2010، وحتى الآن لم يتم تسليمها لأى من العاملين فى الصناعة، ويلفت “عم كمال” الانتباه إلى أن الشباب بدأ “يهرب من الصنعة” على حد قوله، ويضرب مثلا بولديه، حيث يعمل أحدهم سائقًا على توك توك، بينما سافر الآخر إلى ليبيا للبحث عن فرصة عمل، لعدم وجود مستقبل لصناعة الفخار، لذا يطالب بتفعيل قرار التخصيص “عاوزين نشتغل إحنا وعيالنا”.
الفـركة خيـوط حريـر تغـزل حياة
نول خشبىبدائى الصنع.. خيوط من الحرير أو القطن.. مكوك يُستخدم لشد الخيوط أمام النول.. حرفى عشق الصنعة وأتقن أسرارها.. والمحصلة “شال نقادى” أو لوحة فنية متكاملة تسحر القلوب، وتروى الكثير عن حرفة “الفركة” التىبدأت منذ آلاف السنين ولا تزال صامدة رغم كل المخاطر التى تهددها بالاندثار.
الفركة.. اسم قد يبدو غريبًا، ولكنها هنا فى “نقادة” الأكثر تداولًا واستخدامًا، فحتى سنوات مضت، كانت المهنة الأساسية فى المدينة، فلم تكن هناك أسرة لا يعمل أحد أفرادها فى صناعة الفركة. وبشكل بسيط، الفركةهى خيوط مصبوغة من الحرير أو القطن تُصنع منها أشكال من الأقمشة أهمها الشال، وهى فى الأصل مهنة فرعونية اشتهر بها المصريون القدماء، وتوارثها سكان مدينة نقادة الذين حافظوا على تلك الحرفة لآلاف السنين، وتميزوا بمهارتهم وبراعتهم فيها، حتى باتت نقادة المدينة المصرية الوحيدة على مستوى العالم المتخصصة فى صناعة الفركة.
الاسم سودانى
“لماذا سُميت بالفركة” كان سؤالى الأول للعديد من العاملين الذين قالوا إن للاسم قصة معروفة، فالفركة اسم سودانى، وكانت السودان أكبر مستورد للشال الحرير المُصنع يدويًا، والذى كان عنصرًا رئيسيًا فى جهاز الفتاة السودانية، ويقال إنه لم يكن يجوز للفتاة أن تتزوج دون أن تمتلك هذه الشيلان، كما كان هناك اعتقادفى بعض الدول الأفريقية بأنها تجلب البركة.
أسرار صناعة الفركة، والمراحل التى تمر بها حتى الوصول لأشكال رائعة ومختلفة من الأقمشة كانت محور حديثنا مع “محمد السيد طه” أحد فنانى هذه الصناعة.
حجرة فى منزله هى الورشة أو مكان عمله، يجلس “عم محمد- كما ينادونه” على نوله الخشبى مستخدمًا إحدى يديه فى ضم الخيوط لبعضها البعض، واليد الأخرى فى ضرب”المكوك” يمين ويسار طرفى النول ذهابًا وإيابًا، أما قدميه فيمدها أسفل حفرة النول لتحريك الجزء السفلى من النول.
مجهود ذهنى وبدنى كبير يحتاج دقة متناهية بالإضافة إلى صبر وقوة تحمل، يقول لـ”أكتوبر”:”توارثنا تلك الصناعة عن قدماء المصريين، وكما رأينا جميعًا، فالمقابر والمعابد الفرعونية مليئة بالنقوش والرسوم التى توضح عمل النساء فى صناعة المنسوجات، ونحن هنا فى نقادة الوحيدين الذى حافظنا على هذه الحرفة، فمعظم أهالى القرية كانوا يعملون فى تلك الحرفة، وقد تعلمت الحرفة عن والدى الذى كان من أبرع العاملين فى هذا المجال، وعندما وصل عمرى لـ12 سنة أصبحت –كما يقولون فى مهنتنا- صنايعى، ولم تمنعنى صناعة الفركة من إكمال تعليمى، حيث حصلت على البكالوريوس، وبعد تخرجى عملت فى وظيفة حكومية، وربما تكون إحدى مميزات حرفة مثل الفركة، أنه يمكن أن تعمل داخل منزلك، أو تسمح لك بأن يكون لديك عمل آخر”، مضيفًا “أبدأ العمل الساعة الثالثة عصرًا واستمر حتى العاشرة مساءً يوميًا”.
العصر الذهبى
يتذكر “عم محمد” السنوات التى كانت فيها هذه الصناعة مزدهرة، فيقول “الستينيات والسبعينيات كانت العصر الذهبىللفركة، يمكن أن نقول إن المدينة بكاملها كانت تعمل فى صناعة الفركة، وهى الفترة التى كنا نُصدّر فيها “الشال النقادى” للسودان والعديد من الدول الأفريقية الأخرى، وكانت المكاسب التى يحققها العاملون فى هذه الحرفة كبيرة، مما شجع أهالى المدينة سواء سيدات أو رجالًا على تعلمها والعمل فيها.
يستكمل حديثه قائلًا:”للأسف لم يستمر هذا الوضع كثيرًا، فمع حدوث بعض الأزمات السياسية مع السودان، توقف سوق مهم جدًا كنا نعتمد عليه بشكل رئيسى لتسويق منتجاتنا، وأصبحنا نعتمد فقط على التسويق فى بعض المحافظات السياحية مثل الأقصر، أسوان، والغردقة، وللأسف مع تراجع السياحة قل الطلب على منتجات الفركة، مما أدى لإغلاق كثير من الورش، وتراجع عدد العاملين، وأستطيع أن أؤكد أن عدد العاملين فى الصناعة لا يتجاوز 150 بعد أن كان 5 آلاف، مضيفًا:”الشباب لم يعد مقبلًا على تعلم الحرفة، وبات العدد الذى يتقن أسرارها محدودًا للغاية”.
غلاء الخامات
الأزمة ليست فقط فى تراجع الإقبال على تعلم الفركة–بحسب عم محمد- حيث نعانى أيضًا من غلاء الخامات، حيث وصل سعر الكيلو من الخيط المصبوغ إلى 160 جنيهًا بعد أن كان بـ40 جنيهًا فقط، يضاف إلى ذلك ارتفاع أجور الصنايعية، ما يجعل المهنة تواجه خطرًا حقيقيًا يستلزم تدخل الدولة للحفاظ عليها.
وبعيدًا عن الأزمات التى تواجه الصناعة، كانت مشاهداتنا لمراحل صناعة “الشال النقادى” بأنامل “عم محمد” وعلى الرغم من صعوبتها وما تتطلبه من دقة وإتقان وصبر، إلا أنه كما يقول “مشاهدتى للشيلان بعد انتهائى منها تجعل التعب يزول ويتبدل مكانه شعور بالفخر والسعادة”.
تبدأ مراحل الصناعة بالحصول على المادة الخام، حيث نقوم بشراء الخيوط من أحد كبار التجار من سوهاج، وعلى جهاز النول يبدأ العمل، يشرح “عم محمد” مكونات جهاز النول، يتكون النول من العديد من القطع الخشبية، فهناك النير الذى يُستخدم لضبط الخيوط وعدم تداخلها مع بعضها، والمشط الذى يُستخدم لضم الخيوط مع بعضها البعض، وهناك المكوك الذى يُستخدم لشد الخيوط أمام النول يمينًا ويسارًا، ويمكن أن نستخدم أكثر من مكوك، على حسب الرسمة الموجودة على الشال، بالإضافة إلى البكرة وهى كرة الخيط، هذه أدوات النول التى استخدمها، وأشكل من خلالها شيلان مختلفة الأشكال والألوان”.
دولاب كبير يضم أبرز منتجات الشيلان بألوانها وأشكالها الجذابة، دفعنى لسؤال “عم محمد” عن كيفية اختيار التصميم أو الرسمة الموجودة على الشال، يقول “تتعدد الاختيارات أمامى، فهناك تصميمات قديمة نعمل عليها منذ سنوات، وفى أحيان أخرى يجلب لنا التجار الذين نتعامل معهم بعض التصميمات، وهناك رسومات تكون من تصميمى، أرسمها بشكل كروكى على ورقة، وأبدأ بتشكيلها على النول.
تركنا “عم محمد” فى مملكته الخاصة، لتستمر جولتنا داخل المدينة، باحثين عن فنانين آخرين لايزالون يحملون لواء المحافظة على الحرفة.
الشابات المسلمات
يافطة كبيرة تحمل اسم “جمعية الشابات المسلمات بنقادة” كانت مدخلنا لواحدة من أهم الجمعيات العاملة فى صناعة الفركة اليدوية، والتى تقوم بدور مهم منذ سنوات فى الحفاظ على الحرفة من الاندثار، من خلال تعليمها للفتيات والسيدات.. “حازم توفيق” مدير الجمعية استقبلنا بود شديد، تجولنا داخلها، شاهدنا الفتيات وهن يعملن بكل دقة وإتقان على الأنوال الخاصة بهن، حاولنا التعرف بشكل أكبر على أنشطة الجمعية، والدور الذى تقوم به، يقول “حازم توفيق” أنشأت الجمعية عام 1992، وفى 2006 قررنا أن يكون لنا دور فى الحفاظ على الحرفة، من خلال عمل مشروع مركز الفركة لتعليم الفتيات والسيدات هذه الصناعة، وبالفعل نجحنا فى تعليم العشرات، من خلال الاستعانة بمدربات تعملن فى هذه الصنعة منذ سنوات عديدة، حيث قدمن كل وسائل الدعم والمساندة للفتيات، ولم نكتف بتعليمهن فقط، إذ نساعدهن فى العمل بعد ذلك، كما نوفر لهن أيضًا أنوالاً للعمل من المنزل لمن لا تسمح لها ظروفها بالعمل فى مقر الجمعية”.
هل هناك إقبال على التعلم؟ “بالطبع يوجد إقبال، ولكن نتمنى أن يكون العدد أكبر، الأزمة أن الصورة العامة لدى الكثيرين عن الصناعة أنها صعبة، وهذا لا يمكن إنكاره، فالعامل يتعامل مع خيوط نسيج دقيقة جدًا وكلها مترابطة، إذا انقطعت واحدة مثلًا يمكن أن يفسد العمل كله، فهى تحتاج إلى مهارة، صبر وإتقان، مشكلة أخرى تحد من الإقبال تتعلق بالأجر، فهو لا يتناسب مع المجهود الكبير المبذول، ولكننا نحاول التغلب على هذا بتوفير أجر مناسب.
مواجهة الاندثار
“حرفة تواجه الاندثار” نفس الأزمة والخوف الذى عبر عنه جميع العاملين بالحرف التراثية الذين تحدثنا معهم كانت محورًا رئيسيًا وكان حديثنا مع حازم “للأسف نحن نواجه مشكلة كبرى، فالمهنة التى كان يعمل بها أكثر من 80% من سكان نقادة، أصبح عددهم الآن لا يتجاوز 150، فهذه كارثة يجب أن ننتبه لها، مضيفًا:”الأسباب معروفة وقلناها مرارًا، فالأجور ضعيفة جدًا، وهناك مشاكل فى التسويق، كما أن الدولة لا تعطى الاهتمام المناسب للحرف التراثية، على الرغم من العائد المادى الضخم الذى يمكن أن تحققه هذه الحرف، ويعطى “حازم” مثالًا بدولة الهند “زرت الهند منذ ثلاث سنوات، وانبهرت بالاهتمام الشديد بالحرف التراثية، حيث يعتمد الاقتصاد بدرجة كبيرة على النسيج والحرف اليدوية، وكما قرأت، فإن الناتج القومى للحرف اليدوية فى الهند يصل لـ200 مليون دولار سنويًا، لذا نحتاج لتدخل أكبر من الدولة من أجل الحفاظ على المهنة.
من أقفاص للخضراوات إلى أطقم أثاث كاملة
مملكة الجريد
كنوز مـن سعف النخيل
جالسًا على الأرض لفترات طويلة من اليوم.. ممسكًا بأدوات مثل الشاكوش والساطور.. متحملًا العديد من الآلام الجسدية.. مُشكلًا منتجات متنوعة من أقفاص الخضراوات والفاكهة إلى طاولات وكراسى وأطقم أثاث كاملة.. ربما تكون هذه الصورة الأقرب لطبيعة عمل صانع الجريد، تلك الحرفة التى تعد من أقدم وأشهر الصناعات التى تشتهر بها محافظة قنا. وفى جولتنا داخل إحدى القرى فى مركز نقادة، شعرنا كأننا داخل مملكة للجريد، فلا يخل منزل من قطعة مُصنعة من الجريد، وأمام المنازل وفى الشوارع وجدنا أكوامًا من جريد النخل تتراص بجانب بعضها البعض، معظم أهالى القرية يعملون فى هذه المهنة، المرأة تساعد زوجها، والأطفال يشاهدون ويتعلمون.
قضينا يومًا كاملًا هناك، رأينا كيف يعمل صانعو الجريد بحب وشغف شديدين، ويبدعون بأناملهم الذهبية فى تشكيل منتجات متنوعة، تابعنا مراحل صناعة الجريد من تقطيع، وتصنيع، وتشكيل، استمعنا إلى مشاكلهم ومطالبهم.
بدأت جولتنا من شارع “السريرية” حيث توجد العديد من ورش صناعة الجريد، الكل فى ورشته أو أمام منزله يُقطع، ويُركّب، ويُشكل بالجريد لوحات فنية بديعة.
جالسًا أمام منزله، كان “محمد حميدة” يصنع قفصًا من الجريد، يقول لـ”أكتوبر” “أعمل مثل معظم أهالى القرية فى هذه المهنة منذ سنوات طويلة، فهى من أقدم الصناعات الحرفية التىتتوارثها الأجيال، ولا يوجد لدى ورشة أو مكان مخصص للعمل، لذا أعمل داخل المنزل وتساعدنى زوجتى وأبنائى”.
أقفاص خضراوات
يعمل “حميدة” لمدة ساعات طويلة فى اليوم بلا كلل أو ملل “أبدأ العمل بعد صلاة الفجر، ولا أنتهى منه قبل المغرب، وأتخصص فى صناعة أقفاص الخضراوات والفاكهة والطيور، حيث يزداد الطلب عليها بسبب تميزها عن الأقفاص البلاستيك، فبالإضافة إلى رخص ثمنها مقارنة بالبلاستيك، فالخضراوات والفاكهة بداخلها لا تفسد بسرعة على عكس البلاستيك الذى قد تصدر منه سخونة تؤدى لفساد الخضراوات والفاكهة”.
يتحدث “حميدة” بينما ينهمك فى العمل حتى يستطيع إنهاء “الطلبية” المطلوبة منه “أقوم بإنتاج من 15 إلى 20 قفص جريد فى اليوم”، مضيفًا:”تعد صناعة الجريد من الحرف الصعبة، فهى تحتاج لقوة، وصبر، وتحمل خاصة أن طبيعة المهنة تتطلب أن يجلس الصانع ساعات كثيرة منكفئًا على الأرض، كما أن عائدها المادى يكاد يكفى حاجاتنا الأساسية، ولكن رغم ذلك لا أعرف مهنة غيرها، فهى الحرفة التى أعمل بها منذ صغرى”.
سكين وشاكوش
انتهى حوارنا مع “حميدة” ولكن جولتنا لم تنته بعد، حيث التقينا العديد من الحرفيين والعمال، وداخل أحد الورش كان “أحمد” يعمل مستخدمًا عدته التى يستخدمها فى الصناعة، يقول: “هذه هى الأدوات الرئيسيةالتى يستخدمها صانع الجريد لتشكيل منتجاته، وهى عبارة عن ساطور أو سكين كبيرة تُسن جيدًا لتقطيع الجريد وشقه، شاكوش لدق الجريد داخل الفتحات المصنوعة بالمنتج، بالإضافة إلى مقص، منشار ومنجل”.
من داخل ورشته تحدث “محمد بدوى” أحد كبار تجار الجريد فى القرية عن مراحل صناعة الجريد منذ الحصول عليه من النخيل، وحتى تشكيله إلى منتجات كثيرة ومتنوعة مثل الأسرّة، والكراسى، والأقفاص وغيرها “نحصل على الجريد من أصحاب أشجار النخيل المنتشرة فى العديد من القرى، حيث يقومون بتقليم أشجار النخيل، ومن ثم نحصل على الجريد، ويعتبر هذا التوقيت الأفضل بالنسبة لنا، حيث يتوفر الجريد بكثرة وبأسعار جيدة، على عكس الصيف الذى يتوقف فيه أغلب المزارعين عن تقليم أشجار نخلتهم فى موسم طرح التمر، وبالتالى يرتفع سعر الجريد”، مضيفًا: “نشترى الجريد بالكمية، فالألف جريدة يتراوح سعرها من 1000 إلى 1200 جنيه، أما فى الصيف فيرتفع سعرها، ويتراوح من 1700 إلى 2000 جنيه”، ويتابع حديثه “بعد الحصول على الجريد نتركه فى الهواء والشمس لمدة تتراوح من 10 إلى 15 يومًا، بعدها نقطعه إلى مقاسات مختلفة الأحجام والأطوال على حسب المنتجات التى نقوم بتصنيعها، ثم نقوم بعمل فتحات فى الجريد، وتسمى هذه المرحلة التخريم، بعدها نُشكل الجريد إلى أشكال كثيرة ومتنوعة”.
وعن أبرز المنتجات التى يمكن تشكيلها من الجريد يقول: “نستطيع أن نُشكل من الجريد كل شىء، بدءًا من المفراك الذى تستخدمه النساء فى فرك البامية، وأقفاص الخضراوات والفاكهة والطيور، مرورًا بالكراسى والأسرّة والطاولات، وحتى غرف النوم والانتريهات”.
منتجات تتحدى الزمان
داخل الورشة رأينا نماذج لجميع هذه المنتجات بأحجام وأشكال متنوعة “تتميز هذه المنتجات –كما يقول بدوى- بأنها متينة تتحدى الزمن، كما أنها مريحة وصحية جدًا، كما أن أسعارها فى متناول الجميع، فالكرسى لا يتعدى سعره 70 جنيهًا، كما أن طقم كامل مكون من كنبة و2 كرسى وطاولة يمكن أن يكون بـ250 جنيهًا، لذلك ستجدى داخل كل منزل فى قرى الصعيد قطعة أو أكثر من الجريد، الأمر لا يقتصر فقط داخل المنازل، ففى سنوات سابقة عندما كانت السياحة مزدهرة، كنا نقوم بتوريد منتجاتنا إلى العديد من البازارات والكافيهات فى الأقصر والغردقة وغيرها من المحافظات السياحية”.
يستكمل “بدوى” حديثه: “على الرغم من تميزنا فى هذه الحرفة، إلا أننا نعانى من عدة مشكلات رئيسية، وللأسف إذا لم يتم حلها سريعًا، سيكون مصير هذه الحرفة الانتهاء والاندثار، وتتمثل الأزمة الأهم فى عدم اهتمام الدولة بدعم صناعة الجريد، فنحن نصارع من أجل الاستمرار، وما نريده هو دعم الدولة، سواء من خلال تخصيص أراضي وأماكن فى الظهير الصحراوى بأسعار جيدة، أو قروض بفائدة قليلة تساعدهم في تطوير مهنتنا، وأيضًا مساعدتنا فى عمل معارض تسويقيةفى القاهرة وأيضًا فى الخارج”.
غياب التسويق وقلة المكسب دفع العديد من الحرفيين المتميزين فى هذا المجال إلى تركها، والبحث عن أعمال أخرى، وكما تعلمون، فالمهنة صعبة وتتسبب فى حدوث أمراض بالظهر والعمود الفقرى نتيجة للجلوس ساعات طويلة، والانكفاء على العمل، لذا يجب البحث عن طريقة لتشجيع ودعم العاملين فى هذه الحرفة، عن طريق عمل تأمين صحى أو معاش يحميهم.