منوعاتهام
مراجعة تاريخ مصر تحت الحكم العثماني
By amrديسمبر 30, 2019, 16:00 م
3301
نستأنف الحديث هذا الأسبوع «بعدما خصصنا الحلقة السابقة للاحتفاء بلغتنا الجميلة في يومها العالمي» حول الجدل الذي أثاره المسلسل التاريخي «ممالك النار» والذي انتهى عرض حلقاته على إحدى الفضائيات العربية الشهر الجاري، وكان من أبرز نجومه الفنان خالد النبوي الذي جسد شخصية السلطان المملوكي “التاريخي” طومان باي.
المسلسل وببساطة تبني الطرح التفسيري الذي يستند إلى وجهة نظر عربية قومية «مصرية»، إذا جاز التعبير، إزاء الوقائع المعروفة تاريخيا بانتهاء حكم المماليك في مصر والشام، وأجزاء كبيرة من العالم العربي والإسلامي آنذاك، ووقوع هذه المناطق الشاسعة من الأراضي، وما عليها من شعوب تحت حكم العثمانيين، ولم يعد التاريخ بعد 1517 كما كان قبله!
كتب :إيهاب الملاح
ففي مثل هذه الأيام من خمسمائة عام، كانت القاهرة وضواحيها ساحة لقتال مشتعل بين أبناء البلد (المصريين) وفلول جيش المماليك من جانب، وجيوش الاحتلال العثماني من جانب آخر. وفي الأسبوع الأخير من شهر يناير سنة 1517 ميلادية الموافق لبداية شهر محرم من سنة 923 هـ، كانت مصر تعيش لحظة حرجة في تاريخها، لحظة تحديد للمصير، وحسم لمستقبل البلاد، لحظة امتدت آثارها لأربعة قرون طوال، بل إن بعض هذه الآثار ما زلنا نعيشها إلى الآن!
وتفجر الجدل -أثناء عرض المسلسل وعقبه- واسعا عنيفا هل كان غزوًا أم احتلالًا أم فتحًا؟ لماذا يدافع الإسلاميون بكل هذا العنف وهذه الشراسة عما يسمونه «الخلافة العثمانية»؟ ولماذا يدافعون عن حكمهم الذي طال لأكثر من ثلاثة قرون لمصر والشام وأجزاء أخرى من العالم العربي؟ وتفجرت الأسئلة بقسوة وعنف:
ما حدود التداخل بين التاريخي والسياسي والأيديولوجي؟ وكيف نفصل الحكايات والأساطير والأكاذيب المختلقة عما جرى فعلا من وقائع وأحداث أثبت البحث التاريخي المدعوم بأدلته وأسانيده ووثائقه صحته من عدمه؟ لماذا تبدو شخصية تاريخية مثل سليم الأول لدى فريقٍ رمزًا للفتوحات والبطــولات والاستعـــلاء التاريخي (كما يحبــون استخدام هذا المفهوم في أدبياتهم)، ويبدو وفق قراءة أخرى مدعومة بأدلتهـــا شخصية تخلو من النبل والأخــــلاق وتظهــر ممارساتها وسياساتها مدى وحشيتها وقسوتها وتكاد لا تختلف في كثيــر عن مدونــات الإرهابييـن الوحشيــة المكدســة بجرائمهــم وأفعالهم المشينة؟
وبسبب مـــن هذه الأسئلة، نعود إلى الأيام الأخيرة من عصر دولة المماليك الجراكسة في مصر، واللحظات الأولى لسقوط البلاد في قبضة الاحتلال العثماني، لقد كانت سنتا 1516 و1517 سنتين من السنوات العصيبة في التاريخ المصري، سنتان شهدتا سقوط دولة المماليك الجراكسة، وفقدان مصر لكيانها المستقل؛ ليبدأ عصر جديد من عصور التبعية لقوة خارجية صاعدة في سماء المنطقة، فأصبحت مصر ولاية في دولة كبرى مركزها استنبول على مضيق البسفور، وبعد أن استمرت القاهرة لعدة قرون المركز الحضاري والسياسي الأول في المشرق العربي والإسلامي، زوت لتصبح مجرد عاصمة لولاية يديرها باشا مبعوث من قبل السلطان العثماني.
سنتان كانتا مليئتين بالحوادث والوقائع، فقدت فيهما دولة المماليك اثنين من سلاطينها على يد عدو خارجي، وسقط فيهما آلاف من القتلى من المماليك ومن أبناء الشعب، وغادر مصر لسنوات عددٌ من أمهر صناعها وحرفيها ومبدعيها، علاوة على عدد من شيوخها وفقهائها ومفكريها، ليبدأ عصر ظلام وجمود طويل في تاريخ مصر..
وكان من الآثار المحمودة لهذه الأسئلة أيضًا، النبش في الوقائع والتاريخ والدراما، وكل ما يمكن أن يساعد في فهم تفاصيل وتداعيات هذه الفترة، وسيكون من نتائج هذا النبش والحفر والتنقيب، ظهور نصوص رائعة، ومشاهد درامية ممتازة، وكتب تاريخية مهمة أضاءت الكثير من الخفايا والغوامض، وبددت خرافات وشائعات وتهويمات لطالما كان يرددها أتباع تيار الإسلام السياسي لتمجيد ما ليس بمجيد! وتزييف التاريخ بما لا يحتمله، وسنعرض، هنا، نماذج، مجرد نماذج لما أظهرته هذه الحركة الرائعة من البحث والنبش والقراءة والفهم لهذه الفترة.
في كتابه «قاهريات مملوكية»؛ مثلًا، يعرض الكاتب الراحل جمال الغيطاني لما ارتكبه السلطان العثماني حينما دخل مصر؛ “عندما يقدم سليم الأول على تصرف لم أسمع أو أقرأ بمثله؛ إذ نقل عمّال وصنّاع ثلاثة وخمسين فنا وصنعة بَطَلَت كلها من مصر. أي أنه نقل ثقافة متكاملة إلى عاصمة ملكه في إستامبول، ومن هؤلاء الفنانين العرب المصريين بدأت نهضة كل الفنون التركية”.
ثم يروي الغيطاني الواقعة التالية:
“وأذكر أنني كنت أزور مسجدا صغيرا في مدينة بيتش المجرية اسمه مسجد حسن يأمونيل، ولفت نظري جمال الخط الذي كتبت به الآيات القرآنية، وبخط صغير منمق قرأت توقيع الخطاط، محمد بن إسماعيل المصري، وأنبأني حدسي أنه أحد أبناء أولئك الذين انتزعوا قسرا من ديارهم بعد الغزو العثماني الذي ما زلنا نعاني من آثاره المظلمة إلى اليوم”.
وينبئني حدسي أيضًا، أن هذه الواقعة التي ذكرها الغيطاني في كتابه الصادر عن دار المعارف عام 1995 (وهي في الأصل مقالات منشورة قبل ذلك التاريخ بسنوات) ربما كانت أحد العوامل التي ألهمت الراحل الكبير أسامة أنور عكاشة لكتابة عمله الدرامي المبدع «أرابيسك» الذي أذيع على شاشة التليفزيون المصري للمرة الأولى عام 1994.
وكان من آثار الجدل الدائر هذه الأيام استعادة بعض مقاطع الحوار التي دارت على ألسنة بعض الشخصيات الرئيسية ومنها هذا المقطع الدال الذي يتماهى مع الواقعة التي ذكرها جمال الغيطاني في مقالاته، ثم في كتابه بعد ذلك «قاهريات مملوكية»
أرجو أن تقرأوا هذا المقطع من حوار دار بين بطل المسلسل حسن النعماني (الذي جسده الرائع الكبير صلاح السعدني) وبين الأستاذ وفائي (الشخصية المصرية الأصيلة المثقفة الواعية، والتي جسدها ببراعة واقتدار الكبير حسن حسني)، فلنقرأ:
وفائي: انت تعرف السلطان سليم يا حسن؟
حسن: سليم الأول!! مش ده اللي هزم قنصوه الغوري في مرج دابق وبعدين شنق طومان باي على باب زويلة؟!
وفائي: هو بعينه.. كويس إنك عارف المعلومات دي يا حسن.
حسن: لا ما انا لسه ما نسيتش دروس التاريخ بتاعة اعدادي وثانوي، وخصوصا الحتة بتاعة الفتح العثماني لمصر… دي بقى لازقة في دماغي بالغرا.
وفائي: اشمعنى المعلومات دي بالذات يا حسن؟!
حسن: أقولك حاجة يا أستاذ.. وانا صغير كنت دايما بأسمع جدي وهو بيحكي لأصحابه وولاده عن جدي الكبير راس العيلة “عبد الرحمن النعماني”.. كان بيقول إنه مات في تركيــــــا، وقبره لسه موجود في اسطنبول لحد دلوقت.. أنا لما كبرت سألت أبويا عن الحكاية دي فقال لي: أصل المماليك لما جم مصر استقروا فيها، واعتبروها بلدهم، وابتدوا يبنوا ويشجعوا الفنانين والصنايعية، وكانوا بيسابقوا بعض وبيتباهوا قصاد بعض باللي بيعملوه، وكل واحد فيهم كان عايز يعمل حاجة جميلة تخلد اسمه، عشان كده سابوا لنا كنوز في العمارة وفنون النقش والزخرفة مالية مصر لحد النهارده.. أبويا قاللي إن السلطان سليم لما دخل مصر جمع أحسن العمال والفنانين والصنايعية وسفرهم بالغصب على تركيا عشان يبنوا له أحسن الجوامع والخانات والحمامات، عشان يخلوا اسطنبول أحلى من مصر المحروسة، أو على الأقل زيها، وكان جدي الكبير عبد الرحمن النعماني من الناس اللي راحوا هناك.. بس راح مرجعش.
وفائي: مظبوط يا حسن، ودي أكبر جريمة ارتكبها سليم وكل السلاطين العثمانيين من بعده.. جردوا مصر من كل فنانينها وصنايعيتها اللي عملوا التحف الفنية العظيمة في عصر المماليك وشحنوهم على تركيا، وده الفرق بين المماليك والتراكوه… التراكوه يا حسن كانوا زي سرب الجراد اللي بيحط على أرض خضرا وما يسيبش فيها عود أخضر…»
تاريخيًا، يدعم هذه الواقعة التي ذكرها الغيطاني، وجمل الحوار البديعة والرائعة التي صاغها أنور عكاشة في مسلسل «أرابيسك»، الصفحات التي أفردها المؤرخ المصري الشهير ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» للحديث تفصيلًا عن واقعة أسر ما يقرب من ألفين نفس من أهل مصر، وقد ذهب علية القوم جنبًا لجنب مع العوام السوقة؛ فنجد من أعيان الناس كبار المباشرين، وكبار التجار، إلى جانب القضاة الأربعة ونوابهم، والأعيان والأمراء. ومن رجال الحرف والصناعات كالبنائين والنجارين والحدادين وصناع الشراب والفلاحين وحتى المخايل الذى كان يحرك شخصيات «خيال الظل» لم يسلم. وانضم لهم أعيان اليهود والمسيحيون، وقد تقدمهم الخليفة العباسى الأخير “المتوكل على الله محمد” وأقاربه. وذهب كل هذا الجمع الحاشد تحت حراسة عثمانية مشددة، وتــم ترحيلهم إلــى محبسـهم فـــى أبــراج الإسكنــــدرية وخاناتهـــــا انتظارًا لقيام المراكب بهم إلى القسطنطينية.
وقد استفاض ابن إياس فى ذكر أسماء أعيان الدولة المصرية وأمرائها والقضاة ونوابهم ممن غادروا مصر، أما عامة المصريين من أهل الصنعة والحرفة والتجارة، كالمجهولين على مر العصور والأزمان، نفوا إلى مصائرهم الغامضة فى صمت بعد أن خلفّوا لمصر بديع العمارة والفنون وألوان الصنائع والحرف، وصنوف التجارة والشراب والمأكل فلم يسمع بهم أو عنهم أحد.
كان من بين أهم الطروحات التي عالجت مسألــــــة الغــزو العثماني لمصر فــي القــرن السادس عشــــر؛ الكتابان المهمــان اللذان عرضـــا علميا وتاريخيا لهذه الفترة؛ أحدثهما صدورًا كتاب الباحث والمؤرخ الثقة العالم الدكتور عماد أبو غازي «1517 الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك» الصادر عن دار ميريت؛ ويضم المقالات والفصول التي كتبها أبو غازي في 2017، بمناسبة مرور 500 عام الاحتلال العثماني لمصر.
أما الكتاب الثاني فهو أقدم؛ صدر عن دار الشروق في 2003، بعنوان «عرب وعثمانيون ـ رؤى مغايرة» للدكتور محمد عفيفي المؤرخ المعروف، وأستاذ التاريخ الحديث، والرئيس السابق لقسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة.
1517.. احتلال بالشواهد والأدلة
يضم كتاب الدكتور أبو غازي «1517.. الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك»، المقالات والفصول التي نشرها بمناسبة مرور 500 عام على الاحتلال العثماني لمصر في الوقت الذي تعالت فيه صيحات ما يسمى بالعثمانيين الجدد في تركيا (الخطاب الذي يقوده أردوغان حاليا) وأتباعهم خارجها (من أنصار التيار الإسلامي عامة والإخوان وتيارات الإسلام السياسي بخاصة).
ويثبت الدكتور أبو غازي في هذا الكتاب القيم أن قدوم العثمانيين إلى مصر كان احتلالًا صريحا دون مواربة، وأن السلطان العثماني سليم الأول (الذي دخل القاهرة غازيًا في أواخر ذي الحجة 922 هجرية، ديسمبر 1516م) لم يكن فاتحًا مسلمًا، بأي معيار ديني أو عقائدي أو أخلاقي، بل كان مجرم حرب دمويًا كبيرًا، ويكفي فقط للتدليل على ذلك قراءة الصفحات التي أوردها المؤرخ المصري محمد بن أحمد بن إياس، وهو مؤرخ ثقة وشاهد عيان، عن الأشهر الثمانية التي قضاها هذا المجرم العثماني، في مصر، يذيق أهلها القتل والنهب والسفك والمصادرة والنفي. يقول ابن إياس في تاريخه المعروف «بدائع الزهور في وقائع الدهور»:
“ومن العجائب أن مصر صارت نيابةً بعد أن كان سلطان مصر أعظم السلاطين في سائر البلاد قاطبة، ولكن ابن عثمان انتهك حرمة مصر، وما خرج منها حتى غنم أموالها وقتل أبطالها ويتَّم أطفالها وأسر رجالها، وبدَّد أحوالها وأظهر أهوالها.. وأشيع أن ابن عثمان خرج من مصر وبصحبته ألف جمل محملة ما بين ذهب وفضة، هذا خارجًا عما غنمه من التحف والسلاح والصيني والنحاس المكفت والخيول والبغال والجمال، وغير ذلك، حتى نقل منها الرخام الفاخر، وأخذ منها من كل شيء أحسنه، ما لا فرح به آباؤه ولا أجداده من قبله أبدًا”.
ويبرز أبو غازي كيف كان وقع الكارثة فادحًا على وجدان المصريين، ويورد ما وصف به المؤرخ ابن إياس الغزوَ العثماني لمصر شعرًا، فقال:
الله أكبر إنها لمصيبة
وقعت بمصر وما لها مثل يرى
ولقد وقفت على تواريخ مضت
لم يذكروا فيها بإعجاب ما جرى
ولعل من أهم ما يتوقف عنده الكتاب هو الإجابة عن التساؤل الخطير: ماذا كان تأثير الاحتلال العثماني على مصر؟
يجيب: لقد كان للاحتلال العثماني لمصر تأثيرًا سلبيًا كبيرًا على تطور البلاد، فرغم أن مصر عرفت عبر تاريخها الطويل موجات وراء موجات من المستعمرين الأجانب، ورغم أن أوضاع البلاد في أواخر عصر المماليك كانت متردية للغاية، إلا أن الأثر السلبي الخطير للاحتلال العثماني لمصر والمشرق العربي عموما يكمن في أمرين اثنين؛ يحددهما أبو غازي فيما يلي:
الأول: إنه قطع الطريق على التحولات الاجتماعية التي كانت أخذه في التطور في مصر، والتي كان يمكن أن تخرج البلاد من أزمتها التاريخية، وتنتقل بها إلى عصر جديد، فأتى الاحتلال العثماني ليجمد الوضع الاجتماعي لعدة قرون أخرى، وليستنزف فوق ذلك موارد مصر الاقتصادية لصالح الخزانة العثمانية.
أما مكمن الخطورة الثاني فكان التوقيت الذي احتل فيه العثمانيون مصر، فقد احتلوها في لحظة كان العالم فيها يعيش في مفترق طرق بين عصرين، وقد نجح الغرب في كسر الحاجز والانتقال إلى عصر جديد، بينما بقي المشرق في ظل الاحتلال العثماني ثابتًا في مكانه.
وكان من بين أبرز ما كشفه أبو غازي في كتابه، هو موقف المصريين من الغزو العثماني للبلاد (وقد أراد أتباع فصيل الإسلام السياسي إرضاءً لخطاب العثمانيين الجدد الذي يتبناه الرئيس التركي أردوغان أن يظهروا أن المصريين لم يقاوموا الغزو العثماني وأنهم رحبوا بالسلطان سليم الأول معتبرين إياه فاتحا ومخلصا! على غير الحقيقة والتاريخ)..
يثبت أبو غازي بالأدلة التاريخية أن المصريين قاوموا هذا الاحتلال بكل ما أوتوا من قوة ونضال وبطولة، ويذكر أن أبناء الشعب المصري كانوا محرومين من حقهم في حمل السلاح للدفاع عن بلادهم منذ احتل الرومان مصر باستثناء لحظات نادرة مثل مواجهة حملة لويس التاسع على المنصورة وغارات القراصنة على الإسكندرية، ومن هنا فلم يكن الشعب مستعدًا للمواجهة مع جيوش الاحتلال العثماني بالقدر الكافي.
ومع ذلك؛ فبمجرد تولى السلطان الأشرف طومان باي لعرش السلطنة في رمضان سنة 922 هجرية 1516ميلادية، عقب وصول الخبر بسقوط عمه السلطان الغوري قتيلًا في مرج دابق، دعا المصريين إلى حمل السلاح للدفاع عن وطنهم، وقد شاركوا بالفعل في موقعة “الريدانية”، لكن قوة المدفعية والأسلحة النارية العثمانية كانت أكبر من قدرة الجيش المملوكي والمقاتلين المنضمين إليه من المصريين، فانتصر العثمانيون ودخلوا إلى القاهرة واستولوا عليها، ومع ذلك لم تتوقف المقاومة فسرعان ما جمع طومان باي فلول الجيش المملوكي وتجمع حوله أبناء البلد ليهاجموا قوات الاحتلال ويستردوا القاهرة من أيديهم مره أخرى، لكن لأيام معدودة عادت بعدها سيطرة العثمانيين.
ويورد أبو غازي في هذا السياق ما يرويه لنا نص مقتطع من رسالة بعث بها السلطان العثماني سليم الأول إلى نائبه في الشام يبشره فيها بنجاحه في الاستيلاء على القاهرة، والقضاء على المقاومة فيها، يقول سليم الأول في رسالته بعد أن روى انتصاره في الريدانية على جيوش طومان باي:
“وكان قد فضل بقية من العساكر المصرية، فهربوا واجتمعوا هم والسلطان طومان باي وجمعوا العربان، والتموا نحو العشرة آلاف، ليلًا من نهار الثلاثاء خامس شهر المحرم الحرام سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة خفية، ودخلوا البيوت الحصينة، وحفروا حولها الخنادق، وستروا التساتير، واجتمعوا في الحارات، وأظهروا الفساد، وابرزوا العناد، فعلمت عساكرنا المنصورة بهم، فربطوا الخيالة لهم الطرقات، لئلا ينهزم أحد، وصاحت عليهم مماليكنا الإينكشارية والتفكجية، وحملت عليهم حملة رجل واحد، ودخلوا عليهم إلى البيوت التي تحصنوا فيها، ونقبوا عليهم البيوت يمينًا وشمالًا، وطلعوا على أسطحة تلك البيوت التي تحصنوا فيها ورموا عليهم بالبنادق والكفيات، واستمر الحرب بين عساكرنا المنصورة وبينهم ثلاثة أيام… وفي هذه الثلاثة أيام يستمر القتال من الصبح إلى العشاء، وبعون الله تعالى قتلنا جميع الجراكسة، ومن انضم إليهم من العربان، وجعلنا دماءهم مسفوحة وأبدانهم مطروحة ونهب عساكرنا قماشهم وأثاثهم وديارهم وأموالهم، ثم صارت أبدانهم للهوام، أما طومان باي سلطانهم فما عرفنا هل هو مات أم بالحياة…”
هذه هي رواية وقائع المقاومة في القاهرة كما وردت على لسان المحتل العثماني، وقد أقر فيها باستمرار المعركة ثلاثة أيام كاملة، فما هي الصورة كما قدمها الجانب المصري، يقول ابن إياس في وقائع شهر المحرم سنة 923هـ:
“فلما كان ليلة الأربعاء خامس الشهر، بعد صلاة العشاء، لم يشعر ابن عثمان إلا وقد هجم عليه الأشرف طومان باي بالوطاق واحتاط به، فاضطربت أحوال ابن عثمان إلى الغاية، وظن أنه مأخوذ لا محالة… واجتمع هناك الجم الغفير من الذعر وعياق بولاق من النواتية وغيرهم وصاروا يرجمون بالمقاليع وفيها الحجارة، واستمروا على ذلك إلى أن طلع النهار فلاقاهم الأمير علان الداودار الكبير من الناصرية عند الميدان الكبير فكان بين عسكر ابن عثمان وعسكر مصر هناك وقعة تشيب منها النواصي… واستمر السلطان طومان باي يتقع مع عسكر ابن عثمان ويقتل منهم في كل يوم مالا يحصى عددهم، من يوم الأربعاء إلى يوم السبت طلوع الشمس ثامن المحرم…”
لقد كانت هذه صورة من صور المقاومة المصرية لقوى الاحتلال الأجنبي، ورغم أن نتيجة هذه المعركة لم تكن في صالح المصريين، إلا أن جذوة المقاومة ظلت كامنة في النفوس لسنوات طويلة، لتعود مرة أخرى فتشتعل في أواخر القرن الثامن عشر..
(وللحديث بقية)…