رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

الضابط المبروك

1631

فى مستهل حياة ذلك الجيل الذى ولد فى الستينيات وعاش طفولته وبداية شبابه فى السبعينيات، فى الإسكندرية.. رغم وجود أحد أكبر مساجد أقطاب الصوفية بها «أبو العباس المرسي».. إلا أن «السلفية» بدأت فى السيادة وسادت.. حتى كانت لها اليد العليا فى عروس مصر والبحر المتوسط.
وكغيرى من أبناء جيلى تأثرنا بشكل مباشر بسلفية الإسكندرية.. كان رافدها الأكبر «الدعوة السلفية».. إلا أن هناك روافد أخرى سلفية بشكل أو بآخر.
من هذه الروافد بعض التيارات السلفية، التى لا تنتمى لأى هيكلة سلفية، ولا تُهيكل نفسها وترفض جهود من يهيكلها أو يقولبها.. إضافة لتيار سلفى النزعة.. حركى النشاط.. «التيار الجهادي».
من تربوا تربية مثل ما كان شائعا فى الإسكندرية فى السبعينيات ثم الثمانينيات حتى صعود الفكر السلفى هناك وبداية تراجعه «تنظيميا».. تضعهم تربيتهم على «خصومة» شديدة هوجاء مع الفكر الصوفي.. تتلاشى مع التقدم فى السن.. فنقبل من نختلف معهم.. حتى وإن لم يهتموا بمخالفتنا أو موافقتنا، رغم ذلك هناك وقائع.. تختلف مع ما تلقيناه.. إلا أنها وقائع ثابتة وحقيقية وبعض شهودها أحياء.
بداية الثمانينيات.. فى صعيد مصر.. كان أحد الضباط العاملين فى أسيوط.. عائدًا من إجازته من إحدى المحافظات الساحلية الكبرى.. وما أن نزل من قطاره المتأخر عن موعده فى محطة مدينة أسيوط حتى وقعت حقيبته على الأرض وتناثرت محتوياتها من متاع على الأرض.
فى ذلك الوقت فى وحدته فى أسيوط، إذ كان زملاؤه فى انتظاره.. جاءت سيرته فى جمع ضباط وصف ومجندين.. وتساءل أحدهم عن تأخره.. أجابه أحد المجندين إجابة سريعة مقتضبة.. وصل بسلامة الله.. وقعت منه حقيبته وتناثرت محتوياتها وجمعها.. فى طريقه إلينا.. لكنه لن يمكث دقائق معنا حتى ينصرف إلى ما فيه خير للبلاد والعباد.
لم ينتبه معظم الحاضرين لذلك الخطاب.. وابتسم من انتبه دون تركيز فى فحوى كلمات الجندى الصامت الشارد غالب الوقت.. وسرعان ما وصل الضابط من محطة القطار إلى وحدته الشرطية.. وبعد أن انتهى ترحيب زملائه به.. وقبل أن يدلف إلى استراحته.. جاءه رسول من قائد الوحدة يطالبه على الفور بالتوجه إلى قائد الوحدة.
وجد أمامه قائده ومعلمه ماسكا الهاتف.. سرعان ما ناوله له.. ليسمع صوتًا من الطرف الآخر.. ويغلق الهاتف ليحتضن قائده فى ود وشوق ووداع.
عاد لزملائه.. أخبرهم بأن جاء أمر النقل وعليه التنفيذ لأحد أهم أجهزة الشرطة فاعلية فى مصر.. وعليه التنفيذ حالًا.. أحد الذين استمعوا لكلمات الجندى المبهمة تذكرها ورواها لصديقه الراحل.. الذى استدعى الجندى سريعا وسأله: كيف علمت بأن حقيبتى وقعت وتناثرت محتوياتها وكيف عرفت أنى راحل لما وصفته بأنه خير للبلاد والعباد.
على عكس التقاليد العسكرية المتبعة.. ابتسم الجندى فى حنان بالغ.. وربت بيديه على كتف الضابط وقال بصوت لم يسمعه إلا الضابط نفسه: أنت «مبروك».. لنفسك ولبلدك.. رحلتك طويلة وشاقة.. لكنها ناجحة ناجعة.. وتركه وانصرف.
انتهت خدمة ذاك الجندى بعد شهور قليلة.. اختفى ولم تنجح محاولات ضابطنا «المبروك» فى إيجاده حتى وقتنا هذا.. وفى سنوات معدودات نسبة إلى عمر الزمن.. يصبح الضابط «المبروك» شاهد عيان على واقعة أخرى لها من دلالاتها الكثير.
ابن «قويسنا» بمحافظة المنوفية.. قرية أم خنان.. محمد عبد الحليم موسى يُعين محافظًا لـ «أسيوط».. «أوعر» محافظات الصعيد.. ينجح فى مهمته حتى يطلق عليه أهالى أسيوط لقب «شيخ العرب».. وهو لقب لا يحصل عليه الأعلى من بين من لهم شأن فى الصعيد.. فى تلك السنوات الثلاث بين عامى 1987م و1990.. فترة يتذكرها الأحياء من أبناء مدن ومراكز وقرى محافظات أسيوط كأروع فترات المحافظة بوجود «شيخ العرب بها»
فى صباح يوم، غادر منزله إلى ديوان المحافظة، استوقفه رجل رث الهيئة.. مهلهل الثياب، عيناه زائغتان راغبتان فى الهروب من محجريهما، اقترب منه فاستوقفته الحراسة، أمرهم بالابتعاد وطلب منه الاقتراب، صافحه بكلتا يديه وقال «الرجل»: يا شيخ العرب، أنت وزير الداخلية.
اصفر وجه «شيخ العرب».. واقشعر جسده بشكل واضح لحراسته.. الذين حاولوا إبعاد «الرجل».. أشار لهم «موسى» بالتوقف».. وبعد الواقعة.. أخبرهم.. حين وضعت يده فى يدى اقشعر جسدي.. رأيتنى أحلف اليمين وزيرا للداخلية وشعرت بها كأنها حقيقة.
قرب «موسى» الرجل منه.. وجعله من أصفيائه.. لم يُعرف لـ «الرجل» أهل أو بيت.. خصص له نزلًا كريمًا.. شهورًا قليلة.. حتى تحقق ما رآه «موسى» رؤى العين.. وتوجه للقاهرة ليحلف اليمين وزيرًا للداخلية.
اصطحب وزير الداخلية «الرجل» معه إلى القاهرة.. أسكنه جواره.. وكما رعاه فى أسيوط اهتم به فى القاهرة..وفى صباح يوم أثناء توجهه لعمله.. وجد «موسى» الرجل على غير المعتاد واقفا أمام سيارته.. صافحه مبتسما.. حاول انتزاع يده من يد الرجل.. عجز عن ذلك.. كأن قوى البشر اجتمعت فى كف الرجل فمنع صاحبنا من انتزاع يده.. «قشعرية» ارتسمت على وجه «موسى» وانتقلت إلى جسده.. وكلما حاول التملص فشل.. وكلما اقترب من السيارة أبعده الرجل صارخًا: ليست ساعتك.. وليس رحيلك.. لم يكتب لك بل كتب لغيرك.. كررها كثيرًا حتى سقط مغشيا عليه.
انتفض جسد الرجل.. وتحركت كل أعضائه.. طلب حراسه بحمله إلى النزل الذى أتاحه له «موسى» جوار بيته.. وأمرهم بإحضار الإسعاف.
مع حضور الإسعاف جاء الخبر اغتالوا الدكتور رفعت المحجوب، على نفس خط سيرك وفى سيارة تشبه سيارتك، كنت أنت «الهدف».. لولا تأخرك لانتقلت إلى بارئك.
حكى «شيخ العرب» تفاصيل الواقعة بعد ذلك.. حين وضعت يدى فى يديه سرت كهرباء فى جسدى ورأيت دماء متناثرة إلى جوار «جسر» يعبر النيل، كان لدى إصرار ألا أتأخر عن عملى إلا أنه كان سببًا فى تأخيري.
أرادت الجماعة الإسلامية اغتيال وزير الداخلية.. واغتالت بالخطأ الدكتور رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب.. قالت الجماعة الإسلامية: أردنا «موسى» فقتلنا «فرعون».. ومن يعلم «المحجوب».. كان الرجل من أطيب وأفضل خلق الله وأكثرهم حرصًا على الناس.. إلا أن الجماعة الإسلامية وقتها رأت أن كل من تقلد منصبًا رسميًا «فرعون».
كان خط سير سيارة المحجوب نفس خط سير «موسى».. وكانت السيارتان متشابهتين.. تأخر «شيخ العرب» أقل من ساعة.. فحانت ساعة «المحجوب».
عاد «موسى» متأخرا فى ذلك الليل.. توجه لنُزل الرجل قبل صعوده منزله.. لم يجده على فراشه.. وجد فراشه دافئًا.. ولم يظهر مرة أخرى.. قال موسى إنه بعد سنين من غيابه ما زال فراشه دافئًا.